الاديب الفلسطيني محمود شقير في " ظل آخر للمدينة "
نشر بتاريخ: 12/09/2005 ( آخر تحديث: 12/09/2005 الساعة: 18:45 )
معا - الاديب الفلسطيني محمود شقير في " ظل آخر للمدينة " يتنقل من القدس الى المنفى ، ثم يعود ليلتصق بحضن الام "القدس" يفرح بازقتها وحواريها ومقاهيها كطفل وجد لعبته المحببة بعد طول بحث وتقصٍ
بقلم حسن عبد الله
القدس، اسم لم يحظ اسم اخر بحجم شهرته وترداده في التاريخ المعاصر.
القدس اسم مدينة، وعنوان الم، ومكان فسيح للامل.
القدس، صومعة تعبد، وواحةعشق ، وخلوة تامل روحي، وميدان صاخب يحتمل كل إرتعاشات المراهقين، وساحة لعب تدغدغ الاقدام الطفولية الغضة .
القدس، قسمات وملامح، وضعت فوقها اطنان واطنان المساحيق لتغييرها ، لكن الوجه يصمد وتبقي تقاطيعه ودلالاته، ثم يتغير الاسلوب، تغرز الجرافات انيابها في جسد القدس، تحرثه، تحاول استبدال أصالته بجسم اخر فتستعين الاصالة بتلك الجذور الضاربة البعيدة، تتخبط الجرافات، لكن صراعها يستمر مع الاصالة.
عامل جذب للمبدعين
كتب عن القدس الكثير، وجرت الدماء في شرايين قصص جسدها عشرات الكتاب والروائيين على الورق، بعد ان استمدوها من اسواقها وحواريها، وهناك من كتب عن القدس، لانه رضع من حليبها، وتفتحت عيناه على اسوارها وبيوتها العتيقة، وتغذى من روح إستثنائيتها. وهناك من جذبته القدس عن بعد، فكتب عنها وحلم بها، وغنى لها رغم انه لم يزرها ولو مرة واحدة، وبعض المبدعين زارها في الخيال ودخل من باب العامود، وراح يمعن النظر في متاجر نبتت منذ زمن بعيد في ازقة ضيقة. وحمل هدية من الاهل الصامدين المنتظرين وعاد وفي يده اجمل واغلى مزهرية كما فعلت الفنانه فيروز .
لكن محود شقير في كتابه "ظل اخر للمدينة"، مثل حالة مختلفة بالنسبة الى القدس، إذ برهن انه عاشق من نوع خاص، لانه خبر بشكل مدهش تفاصيل المدينة ضاربة الجذور في القدم، منذ ان كان طفلا، ثم عندما اصبح شابا، ومن بعدان تعمد في معترك الرجولة الناضجة التي اعطتها التجربة القاسية بعدا لشدة تميزه اصبح مختلفاً مختلفا.
بعد عودته من منفاه الى القدس منهياً ثمانية عشر عاما من التشرد، انجز هذا الكاتب، روايته، مذكراته، نفسه، يومه، امسه، كتاب النص المفتوح الذي ا خذ من الرواية كثيرا ولم يتحول الى رواية ، ونهل حد الارتواء من كتابة السيرة الذاتية لكن نصه تمرد على ان يكون سيرة ذاتية تقليدية باشكال وانماط السير المعروفة لنا.
لقد ارخ شقير بدقة وامانة، رغم انه لم يقصد التأريخ باسلوب المؤرخين الذين يحشون كتبهم بالاحداث والارقام، والديباجات الجافة التي لا حياة فيها.
عمل غني حقا، وضعه شقير مضيفا للمكتبة الفلسطينة العربية إنجازا مهما ارتبط بالقدس وكثف نصف قرن من الزمن، حافلا بالاحادث، انقلب فيها تاريخ المدينة، رأساً على عقب. لقد استند شقير في وصفه الى موهبة كاتب مبدع .وحقائق غرفها الكاتب من رصيد تاريخي، ذاكرته زاخرة. ربط شقير بين ماضي القدس وحاضرهاواتى بمعلومات دقيقة تصرخ باعلى صوتها، تنادي وتقذف في وجه من لا يريد ان يسمع مئات القذائف المعلوماتية القادرة على المحاججه القوية المندفعة، والقادرة ايضا على حرق ما يقابلها او ما يعارضها من مغالطات وتوليفات اقحمت على حاضر المدينة وعلى كتب التاريخ.
(ظل اخر للمدينة)، صدر عن دار القدس للنشر والتوزيع ويقع في (204) صفحات من المقطع المتوسط، واهداه الكاتب الى الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، وفي اهدائه لدرويش الف دلالة ومعنى.
ثنائية الابن والام
نقول ان شقير اثرى المكتبة بكتابه هذا، لان ما قام به ليس تأريخا وتوثيقا، او نسج خيوط لعمل روائي، او عرضاً لسيرة ذاتية .انه كتاب ولد من بين مسامات دفء وحميمية علاقة ثنائية بين ابن وامه، فكتب عن نفسه من خلال الام، وعن امه من منظورالابن، الذي طوى ستين عاما من عمره، وظل طفلا يرتعش في حضنها ارتعاشات متتالية متداخلة حملها الكاتب من سطره الاول وحتى سطره الاخيرة .
وكان من السهل على القاريء المتمعن ان يحس،اي علاقه مندفعه،هادئه ، ومزمجره ، مطمئنه تتمطى على سرير السكينة حينا، وقلقة اقصى درجات القلق حينا اخر.. اي علاقة ابن بامه صاغتها هذه التناقضات، وادخلت في نخاع عظامها حبا خاصا يشتعل في الهدوء، ويتحول الى رصين متأن اوقات التوتر والملاحقة، حين كان الصمت الرصين قارب شقير الاصيل الذي مكن رفاقه من العبور به الى شاطئ الامان عند الشدائد، وفي جولات التحقيق الشرسة، عندما كانوا يهجمون عليه باساليبهم المختلفة لانتزاع اعتراف منه ولا يستطيعون ذلك.
انها القدس الى جانب اصالتها، فهي بالنسبة الى محمود شقير مدينة متجددة... " تفاجئني دائما بكل جديد، كنت لا امل السير في شوارعها وازقتها، اراقب الاشجار التي اخذت تزرعها البلدية مسافات متقاربة في الشارع المؤدي الى باب العامود لتزيين المدينة، ولتخفيف حرارة صيفها المعتدل اصلا، ولم يكن شتاؤها قاسيا وحينما يهطل المطر، فإن بعض اسواق المدينة ذات السقوف شبه المتصلة توفر حماية لمن يؤمها من المتسوقين، كنت امشي تحت هذه السقوف، استشعر طقس الشتاء دون ان يبللني ) ص116من الكتاب.
ثلاثية المناضل، القاص، العاشق
تناول الكاتب باسلوب شيق ذكريات طفل عن نكبة 48، والمرارة التي عاشها شاب جراء هزيمة-67 .كما تناول التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والجغرافية التي طرات على القدس منذ نصف قرن .
ولخص شقير الظروف الي مر بها العمل الحزبي السري والعلني في المدينة المقدسة وتصارع الافكار والاتجاهات. لقد التحق شقير بالعمل النضالي، وتعرض لصنوف شتى من المعاناة، اعتقال، تحقيق ، اقامة جبرية، اختفاء، ثم ابعاد عن الوطن .
وخلال ذلك تفتحت موهبته الابداعية ونشر نتاجاته في مجلة الافق الجديد ، ثم شق طريقه نحو العمل الصحفي، وإن كان متقطعا جنبا الى جنب مع مهنة التدريس .
وظل قلم شقير ملتصقا بالقدس والقضية الفلسطينية ملتزما متحيزا بالمواطن البسيط المسحوق إبتداء من مجموعته القصصية الاولى (خبز الاخرين)، وحتى كتابه الذي انتزعه من بين ضلوعه وقدمه للقدس، من موقع المناضل والمبدع والعاشق .
"...تمتد الصلة بيني وبينها وتزداد غنى ."
"...اصبحت القدس بكل ازقتها واسواقها وشوارعها واحيائها في النصف الاول من السبعينيات جزءا من من كياني، مظهرا يوميا من مظاهر حياتي، فكأنني كنت اودعها، دون ان اعلم، تمهيدا لانقطاع قسري مديد..."،ص159 من الكتاب.
القدس في المنفى
وشقير" المنفي في القدس "
توقفت السيارة العسكرية في اليوم الاخير من شباط عام 1975 ،وقذف جنود الاحتلال بخمسة معتقلين فلسطينين على الحدود اللبنانية كان محمود شقير واحدا منهم ..."
ها هو ذا الابعاد عن الوطن يتلبسنا كانه الفاجعة، وها نحن نمضي بعيدا تحت تهديد السلاح، للتشرد في المنافي القريبة والبعيدة " ص182 من كتاب .
ومنذ اليوم الاول لنفي شقير ظل يحلم بالقدس ، يستذكرها في الليل والنهار يعيش فيها ومعها ، وكان القدس انتقلت عنده الى المنفى، او كانه هرب من منفاه الحقيقي، وتسلل الى المدينة سرا ناقلا المنفى العلني القسري الرهيب، الى "منفى " سري اختياري محبب !! وتدور دائرة الايام، وتتغير الظروف، ومن ابعدوا شقير قبل ثمانية عشر عاما ، يسمحون بعودته مع (دفعة من المبعدين )، فيعود وهويختزن في ذاكرته هذا الكم الهائل من الذكريات والمعلومات عن القدس، التي لم يضعفها المنفى، بل اغناها، اشعلها، زادها اتقادا"... على الهضاب القريبة تتبدى امام عيني القدس بكل بهائها وعراقتها، اتأمل في لحظة غامرة قبة الصخرة، والمسجد الاقصى، والاحياء السكنية المتجمعة على نفسها داخل السور، فأشعر بجلال اللحظة، ثم اتجه نحو البيت، اخيرا، ها انذا اعود الى القدس، ها انذا اعود الى الوطن..." ص14 من الكتاب.
صمود، تعمير،وابداع
يتعرض المواطنون الفلسطينيون في القدس الى سياسة تفريغية تستهدف ارغامهم على الرحيل عن مدينتهم لاحداث خلل في النسبةالسكانيه، (من سحب هويات الى تضييق سبل عيش ورفض اعطاء المواطنين رخص بناء الى فرض ضرائب خياليه ...)
وهنا تبرز دعوات حثيثة من القدس ومن خارجها لترسيخ وتعميق الصمود واعادة اعمار وبناء البيوت والمؤسسات المقدسية، الى جانب اشغال البيوت الفارغة، لا سيما في القدس القديمة من اجل الحفاظ عيلها ومنع تسرب المستوطنين اليها.
كما ان القدس وامام محاولات تزييف التاريخ من حقها على كتابنا ومؤرخينا ومبدعينا، ان يشحذوا اقلامهم لابراز الحقائق كنوع من الرد على توجهات ومخططات التزوير والطمس المضاد.
ومن هنا تنبع اهمية عمل شقير، حيث التوقيت المناسب في هذه المرحلة، وفي ظل التهديد الذي يتعرض له المواطن الفلسطيني في القدس ومحاولات شطب ماضيه، والغاء حاضره.
عاد شقير الى القدس جسدا وروحا وقلما، فوجدها صامدة، كلها حزينة، وما زال الحزن يخيم عليها مكانا وسكانا.
"... مشيت
رحت ابحث عن مكان ظليل، في المدينة التي نادتني ذات فجر بعيد، فبقيت مشدودا اليها كأنها امي التي ولدتني.
انعطف يسارا نحومقهى باب العمود، كان المقهى وديعا حد البكاء.
جلست اتأمل حركة الناس حتى ساعات ما قبل المساء، كان ثمة حزن يخيم على ما حولي من بشر وامكنة وظلال، ولم يكن في المقهى احد سواي..." ص 204 من الكتاب.