الجمعة: 22/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

جماليات المكان في رواية "خلود" للقاص سمير الجندي

نشر بتاريخ: 02/04/2015 ( آخر تحديث: 02/04/2015 الساعة: 14:04 )
جماليات المكان في رواية "خلود" للقاص سمير الجندي
الكاتب: عبد المجيد جابر
العنوان مكون من كلمة واحدة، هي "خلود" وهي خبر لمبتدأ محذوف تقديره "حبي لفلسطين خلود" ،والمعنى الدلالي أن حب الشاعر لوطنه خلود ومخلّد وخالد، والمتلقي المتسرِّع يظن أن الشاعر يعشق فتاة اسمها "خلود" بسبب افتتاحية الرواية بالحب والعشق، وتردد اسم "خلود" في ثنايا الرواية في أكثر من ثلاثة مواضع وشغلها لصفحات غير قليلة في الرواية، ومما يجعلنا نحسن التأويل ما جاء في افتتاحية الرواية بالتغني بمحبوبة الشاعر التي اقترن التغني بها بنكسة عام 1967، واحتلال بقية فلسطين، والحب لا يقترن بنكسات ولا بخيبات ولا بضياع وطن، ولنستمع لافتتاحية الرواية والتي تتحدث في ظاهرها عن عشق الراوي لفتاة يوم هزيمة العرب والخطاب موجه لأم متجذِّرة في وطنها تعشق كل ذرة تراب فيه:

(ها هي حبيبتي التي حدثتك عنها ذات صفوة، ها هي من بحثت عنها أنا وأحلامي المتهالكة، ها هي يا أمي... ألم أقل لك بأنني لن أفقد الأمل بلقائها؟
ألم أقل لك يا أمي بأنها تنتظرني مثل ما أنتظرها في مكان ما في هذا الكون؟

ألم أحدثك عن جمالها وحسنها وحنانها؟ أنا لم أصفها لك كما يجب فأنا لا أحسن وصفها، ومفرداتي عاجزة عن الوفاء لحسنها... ها هي يا أمي موجودة أمامي بلحمها ودمها، وسحر عيونها السوداء الآسرة...لم أفض بمشاعري لأي إنسان غير أمي، هي تفهمني وتقدر ما أقول، لم تلمني أبداً ولم تضجر من سماعي، كانت بئر أسراري، كنت أُحدثها عن مكنونات صدري وأصف لها مشاعري، وآخذ رأيها في منعطفات حياتي، كانت تُبدي لي النصيحة التي غالباً ما آخذ بها، لقد كانت سديدة في رأيها... لم تستعجل الأمور، متأنية، صادقة مع نفسها ومع من حولها، لم أنس قرارها المصيري بعدم ترك المدينة مع من تركوها في حزيران من العام سبعة وستين وتسعمائة وألف، حين أراد والدي النزوح إلى عمان، قالت له:

- لن نترك هذه المدينة أنا وأبنائي، هنا ولدنا وهنا نموت... (خلود 14،15) 
 
الحبية هنا هي المدينة، هي القدس، هي أرض فلسطين، فلقد نجح الروائي سمير الجندي رغم اتكائه على مرحلة تاريخية من مراحل نضال الشعب الفلسطيني وتقديم الأبعاد النفسية والاجتماعية للبيئة المكانية بعيداً عن أسلوب التاريخ، حيث لا تعني الرواية بتقديم التاريخ المجرد للقارئ. "لأن وثائق التاريخ كفيلة بهذه المهمة، وإنما تكمن قيمتها في براعة الكاتب في استغلال الحدث التاريخي واعتماده إطاراً ينطلق فيه لمعالجة قضية حية من قضايا مجتمعه الراهن ".(1)
افتتاحية الرواية:
تُقاس افتتاحيّة الرواية استناداً إلى وظيفتها، وهي إدخال القارئ عالم الرواية التخييلي بأبعاده كلها، من خلال تقديم الخلفيّة العامة لهذا العالم والخلفيّة الخاصّة بكل شخصية ليستطيع ربط الخيوط والأحداث التي ستُنسج بعدُ(2) 

وهذا يعني أن الافتتاحيّة وحدة وظيفيّة أساسيّة من وحدات الرواية، تُمهِّد لما سيأتي بعدها وتفعل فعلها فيه، فضلاً عن أنها تُقدِّم للقارئ المسوغات التخييليّة للحوادث اللاحقة في المجتمع الروائي. وتشير الروايات ذات البناء المتماسك إلى أن الاكتفاء بفقرة صغيرة في عدد قليل من الأسطر لا يستطيع تجسيد وظيفة الافتتاحيّة، ما يعني أن الافتتاحيّة تحتاج إلى شيء من التفصيل يتيح للروائي فرصة بناء نص ذي وحدة وظيفيّة أساسيّة.(3)
و كلمة "وظيفيّة" تشير هنا إلى وظيفة هذه الوحدات على نحو مباشر في إطار بناء العمل)، دون أن يكون القصد من التحليل الانتهاء إلى أن لكل عمل أدبي وحداته المستقلّة عن الأعمال الأدبيـة الأخرى، بل القصد هو الوصول إلى وحدات وظيفية أساسية يمكن استخدامها في تحليل الأعمال الأدبية قديمها وحديثها على السواء. وقد اجتهد البنيويون في هذا الاتجاه، وانتهوا إلى أن العمل القصصي يضمُّ أربع وحدات وظيفيّة، هي: الخروج والعقد والاختبار والانفصال عن المجتمع والاتصال به. ويهمني القـول هنا إن وحدة الخروج تبرز بجلاء في افتتاحية الرواية الجيِّدة، وتغيم أو تتلاشى في الروايات الضعيفة.(4)
ففي رواية (خلود) نرى أن الشخصيات الرئيسة كالراوي ووالده وأمه وأصدقائه، تبرز كلها في الافتتاحيّة راغبة في الخروج من أسر المرحلة السابقة إلى رحاب مرحلة جديدة. يريدون الخرج من هول النكسة والاحتلال والعودة للقدس الوطن والوقوف بثبات وشموخ، ويريدون الخروج من الفقر والعوز إلى الغنى وتحمّل شظف العيش، والخروج من الجهل إلى العلم، حتى "خلود" تريد أن تخرج من بيت زوج يمتهن كرامتها ولا يراعي مشاعرها إلى رحاب أوسع تُحترم فيها الإنسانية والمشاعر.
( توافر الوحدة الوظيفيّة دليل على جودة افتتاحيّة الرواية وتماسكها، وأن بناء هذه الوحدة يحتاج إلى عدد وافر من الصفحات الروائية. وليس شكل الوحدة مهمّاً بعد ذلك، سواء أكان رحلة روائية أم كان انتقالاً من موقع إلى آخر. ذلك لأن الوحدة الوظيفيّة، مهما يكن شكلها، قادرة على تحديد مسار الرواية، وطبيعة السرد فيها، فضلاً عن إثارتها شغف القارئ وحفزه إلى القراءة، والتمهيد لبناء الشخصيات واختراق الأمكنة الروائيّة.(5)
بناء الفضاء الرّوائيّ
الفضاء الروائي والمكان الروائي مصطلحان بينهما صلة وثيقة وإنْ كان مفهومهما مختلفاً. فالمكان الروائي حين يُطلَق من أيّ قيد يدلُّ على المكان داخل الرواية، سواء أكان مكاناً واحداً أم أمكنة عدّة. ولكننا حين نضع مصطلح المكان في مقابل مصطلح الفضاء بغية التمييز بين مفهوميهما فإنـنا نقصد بالمكان المكانَ الروائيَّ المفردَ ليس غير، ونقصد بالفضاء الروائي أمكنةَ الرواية جميعها. بيد أن دلالة مفهوم الفضاء لا تقتصر على مجموع الأمكنة في الرواية، بل تتسع لتشمل الإيقاع المُنظِّم للحوادث التي تقع في هـذه الأمكنة، ولوجهات نظر الشخصيات فيها. ومن ثَمَّ يـبدو مصطلح الفضاء أكثر شمولاً واتساعاً من مصطلح المكان.(6)
ويطلق عليه عادة الفضاء الجغرافي، وهذا الفضاء ليس منقطعاً عن دلالاته الحضارية والاجتماعية، أي أنه ليس مجرد مكان، بل حيويته تتجلى من خلال حركة الشخصيات والعلاقة المرتبطة بزمن معين .
تحتوي كل رواية على مسرح تقع فيه الأحداث وتتصارع في ميدانه الواسع الأفكار والشخصيات, أصطلح عليه النقاد بـ(الفضاء) – أو المكان, ويؤلف المكان إطارا ً محتويا ً ومتفاعلا ً مع بقية العناصر البنائية الأخرى, ويقوم المكان بأداء وظائف عدة في النصوص السردية, لعل أبرزها في نظر النقاد هي قابليته لاستيعاب الزمن مكثفا ً فيه(7) , فوظيفة المكان تتمثل (في احتواء الزمن مكثفا ً في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها" (8)
ومن الأمكنة التي تظهر في الرواية وأغلبها حارات القدس وأزقتها وشوارعها ومبانيها التاريخية ومقدساتها وفلسطين، ويتسع الفضاء المكاني وينتشر ليبلغ أغلب أماكن العالم وأقاصيه، فظهر في رواية خلود الأماكن التالية:
" المدينة "القدس"، الملجأ النتن، الساحات، حوش الغزلان، وحوش الشاي، فُرن الحاج يِّتمْ، ومنزل الست أُميلا، والأحياء الأخرى في البلدة القديمة، يافا، باب السلسلة، سوق العطّارين، مقهى باب السلسلة، الحرم، خان السلطان، ساحة الخان، وغرفه الصغيرة، مخبز درجة الطابونة، مفترق حارة الشرف وسوق الباشورة وسوق الخواجات، محل "أبو أيوب" ومدخل الحي، سوق خان الزيت، الحوانيت المغلقة، طريق عقبة التكية، عقبة المفتي، بيت المفتي، دير ياسين، طريق الآلام، السيد المسيح، الحاج الجليل، غرفة النزوح وتتكون من غرفتين يصل إليها المرء خلال سلم حجري ودهليز مظلم، عمان، نهر الأردن، حافلة الرحيل، العيزرية، أريحا، باب العامود، باب الأسباط، المقبرة اليوسفية، السور، باب الساهرة، مسجد الشوربجي، باتجاه شارع الواد، المدرسة، سوق خان الزيت، المدرسة العمرية، المدير، غرفة المدير، أحد المعلمين، المعلمون، المسجد الأقصى، منزل بحارة السعدية، قبة الصخرة، منزل الراوي بحارة السعدية، بيت صفافا، مكتبة العمرية، الجار علي العازف، إحدى الدول الأوربية، والمساجد والمدارس، مدرسة القادسية، إيطاليا، جامعات ميلانو، مطار عمان الدولي، الأردن، الجامعة الأردنية، فنادق المدينة، صالة الفندق، نيويورك، أمريكا، بيت حنينا، فنادق منطقة الشميساني، وجبل عمان، المدرسة الثانوية في نيويورك، مطعم هاشم في عمّان،"الكوفي شوب" الموجود في بهو الفندق، الغرفة ستة عشر في فندق الوردة الحمراء، الأزقة العتيقة، الراهبة،، مدن وقرى ومخيمات فلسطين، ملعب الروضة، شارع الزهرة، شارع صلاح الدين، شارع السلطان سليمان، مدرسة الرشيدية، سوق الجمعة، البلدة القديمة، المدرسة البكرية، باب الملك فيصل، باب الغوانمة، زقاق الزاوية النقشبندية، بيت أم سعيد،مستشفى الهوسبيس، عقبة الخالدية، عقبة السرايا، القيرمي، السجن، المدرسة الميلوية في عقبة الميلوية، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وأمريكا وسويسرا وايطاليا، والدول الإسكندنافية ودول أمريكا الجنوبية، برلين وجدارها الذي صار أطلالاً، الباسك في اسبانيا، أمريكيا الجنوبية: فنزويلا وجواتيمالا، وهندوراس، ونيكارجوا... ، المشفى، ساحات المدرسة العمرية، كنيسة الفرنسيسكان المجاورة للمدرسة، الكنيسة الأرمنية، كنيسة صغيرة جهة شارع الواد، كنيسة تسمى فيرونيكا وهي المرأة التي مسحت وجه سيدنا عيسى عندما وقع على الأرض ووجهه مضرجا بالدماء، عقبة المفتي، وهذه المحطة وكنيستها الصغيرة لا تفتح أبوابها إلا يوم الجمعة في أثناء "الدورة"، دير يوناني على اليسار في أول عقبة الخانقة ويدعى دير "خرلمبوس"، عقبة الخانقاقو، حارة النصارى، كنيسة القيامة. إحدى مدارس القدس الابتدائية، ساحات للرياضة والنشاطات، مكتب مدير التربية، شارع نابلس، بيت لحم، رام الله، الخليل، مدينة البيرة، غزة، الوطن العربي، فلسطين، تايلند، بانكوك، ميناء جزيرة "كو ساميت" السفينة، الحدود، مدينة "بتايا"، نادٍ للرماية، والشاطئ الذهبي، باكستان، حانوت عبد الله ميناس وبيته، الميناء، السوق، مستشفى رام الله، حاجز الرام العسكري، المركز الصحي، غرفة مكتب دكتور العائلة، مستشفى هداسا، عين كارم".
وبما أن وظيفة المكان تتمثل في احتواء الزمن مكثفا ً، فلزام علينا أن نوضِّح عنصر الزمان. "فللمكان الروائي أهمية كبيرة لا تقل كثيرا ً عن أهمية الزمان, وإذا كانت الرواية في المقام الأول فنا ً زمانيا ً يضاهي الموسيقى في بعض تكويناته, ويخضع لمقاييس مثل الإيقاع ودرجة السرعة, فإنها من جانب آخر تشبه الفنون التشكيلية من رسم ونحت في تشكيلها للمكان.(9)
ويظهر الزمان جليا في رواية خلود ليشمل:
"حزيران من العام سبعة وستين وتسعمائة وألف، والهجرة القصرية عام ثمانية وأربعين، ومعركة سكة الحديد في يافا في العام تسعة وثلاثين وتسع مائة، وأيام الخميس، وليالي الشتاء الباردة، والساعة الثالثة والسابعة مساءً، والقرن السادس عشر، ويوم الأربعاء، والاعتقال ومدته المتوقعة سنة أو سنتان، والساعة التاسعة والربع صباح يوم الثلاثاء الثامن عشر من أيار العام ستة وسبعين، ويوم ويومين وأسبوع وشهر وسنة، خمسة عشر دقيقة، وخمسة عشر عاما، وبداية الانتفاضة الأولى، وحب الراوي لخلود مدة عشرين سنة، واستغراق العملية الجراحية لمصطفى غضون أربع ساعات، ويوم المعلم، ويوم الأم، ويوم العامل، ويوم الأرض؛ ويوم الشهيد، والأسير، والشجرة؛ وحزيران، وآب، وأيلول".
وقد استخدم الراوي تقنية الحذف، أما تقنية الحذف فقد لجأ الراوي إليها ليسقط مرحلة كاملة من زمن القصة، وبهذا الإسقاط سرَّع الراوي من حركة السرد، فحذف الراوي الكثير من الأحداث التي مرت معه أثناء دراسته في عمان، فلم يذكر شيئا عن دراسته أو جامعته إلا صفحات معدودة حول لقائه بخلود وحديثه مع ليلى تمهيدا لعودته إلى الوطن القدس. ولا شكَّ في أن اختزال الزمن في الخلاصة وإسقاطه في الحذف يلبيان حاجة الروايـة إلى الامتداد الزمني من غير أن يضطر الراوي إلى ذكر ما حدث ساعة فساعة، وسنة بعد أخرى. والواضح أن الراوي لجأ كثيراً إلى الحذف، ولكنه لم يُخْفِ في الغالب الأعم المدة الزمنيّة التي حذفها، سواء أكانت يوماً أم شهراً أم سنة أم سنوات.
ومن مواطن الحذف في الرواية، قوله:
"مرت سنة، وأنا على هذا الحال؛ بيع وشراء، ودموع وحزن(خلود ص 42)، فلم يذكر الراوي شيئا عن سجنه خلال السنة التي قضاها هناك.
والراوي يذكر نكبة عام 1948 ويختصر الحديث عنها بلجوئه لتقنية الحذف والتلخيص:
"لقد كانت الحرب نقمة على الناس والشجر والحجر والطير والماء والسماء والأرض؛ كانت نقمة على كل شيء إلا على أبي زهير فقد كانت نعمة ورخاء، تعرّف على أبناء أسرته الذين احتضنوه وقدموا له جزءاً من أرض والده الذي غادرها في سنوات النكبة الأولى عام ثمانية وأربعين، كان أبو زهير أيامها في عز الشباب ولكن والده توفي بعد عام واحد من مغادرته القرية آنذاك... وعندما غادرنا أبو زهير إلى بيته الجديد في بيت صفافا، ترك لنا مذياعه مفتوحاً على نشرة أخبار صوت العرب..." (خلود47،46)
فلم يسهب الراوي كثيرا في الحديث عن الفترة الزمنية من عمر أبي زهير بعد عام 1948.
ويلحظ الحذف بوضوح، فالراوي يعمل أول مرة كمعلم ص 124، وفي الصفحات التي تلي ذلك يظهر فجأة وله دكان يلتقي فيه فجأة بمن أحبها وعانقها وهي خلود في فندق الوردة الحمراء قبل 15 عاما، ولجأ لتقنية الحذف والتلخيص أثناء عمله كمدرس، ولم يتحدّث كثيرا عن متجره وتجارته.
ولجأ لتقنية الحذف في وصف رحلته لتايلند فلم يصف أو يذكر شيئا عن رحلة السفر والطريق ذهابا وإيابا.
التلخيص
إن الخلاصة (أو: التلخيص) تقنية روائية عريقة في الرواية الأجنبيّة والعربيّة على حدّ سواء. والمعروف أن هذه التقنية تختزل الزمن وتُسرِّع حركة السرد، ولكنَّ اختزال الزمن ليس هدفاً للروائي سمير الجندي ولا لغيره من الروائيين، بل هو وسيلة تُحقِّق بعضاً من الأغراض الجماليّـة، وهذا الهدف الجماليّ لا يحتاج إلى تفصيلات حياة الشخصيـة، ولهذا السبب اقترنت تقنيـة الخلاصة عند سمير الجندي بتقنية أخرى هي (الحذف) كما أوضحناه سابقا؛ أي حذف زمنٍ لا تخدم الحوادث التي وقعت فيه الهدف الجماليّ. ومن ثَمَّ كان الحذف قفزاً فوق مدة روائية طويلة أو قصيرة من غير إشارة إلى ما جرى فيها من حوادث ووقائع. وقد استعمل الروائي عبارات تدلُّ على الحذف أو القفز، من نحو : (مرت سنة....) ومثاله قول الراوي:
"ولكنني اليوم أبكي قهراً وألماً، كلما مرّ أمام ناظري شريط الأيام الطويلة التي عملت فيها بظروف قاسية لدرجة القهر)، ليدلَّ على أنه غير راغب في تقديم الحوادث التي وقعت خلال هذه المدة. وهو، كما تدلُّ عبارات القفز المذكورة، يؤثر تحديد مدّة القفز أو مداه، بغية إعلام قارئه بأن ما جرى في هذه المدة المحذوفة لا أهميّة له لأنه لا يختلف في شيء عمّا يُلخِّصه .(10)
ويلجأ القاص سمير الجندي إلى تقنية التلخيص، فقد صور أحداث النكبة وما تلاها حتى عام 1976 بخمسة وسبعين صفحة، لكنه لخص فترة قضائه السجن مدة عام كامل بصفحة واحدة فقط. (خلود 90)
يشكل الزمن عنصراً بارزا في رواية "خلود"، فقد تنقلت بنا الرواية عبر أزمان مختلفة من عمر القضية الفلسطينية، ومن الجدير بالذكر أن عنصر الزمن له خصوصية وهيمنة في هذه القصة، بل يكاد يتربع على عرش السرد فيها ويبشر بغايته المكنونة منذ العنوان، وهو يسير في ثنائية غير متوازنة، يطغى فيها الماضي على المستقبل، ويتلون الحاضر بأصباغ الماضي وأطيافه. للماضي فيها بعدان: أحدهما بعد النكبة، وثانيهما قبل النكسة".(11)
11. ينظر تقانات السرد القصصي في زمن الغياب، نبيل أبو علي، ص219، غزة ،2004
الاسترجاع:
ويظهر الاسترجاع؛ أي العودة للماضي خلال الحوار الذي جرى بين الراوي والأستاذ محمود بحديث الأول عن زيارته لتايلند وقد استغرق ثلاث عشرة صفحة، يصور فيها الراوي فترة سابقة خلال رحلة له يظهر فيها جمال تايلند ومأكل أهلها ونظافتها وإباحيتهم، وانتشار المخدرات فيها، ولعب القمار، والسياحة فيها، وجزرها:
"- اسمح لي بأن أحدثك عن زيارتي إلى تايلند، ربما فيما أقول العبرة والدرس... والإجابة القاطعة عن كل الأسئلة."(خلود ص 109).
ومن صفحة72 وحتى ص 79 يحدث السارد ليلى في عمان عن مواجهة للشبان الفلسطينيين واستشهاد بعضهم عام 1976.
وتظهر تقنية الاسترجاع في قول خلود للراوي:
ألم تكن أول رجل يقتحم حياتي؟ "
ألم أسلمك في تلك الليلة زمام قلبي؟" (خلود 128)
ومنه كما جاء على لسان ليلى:"- ألم تقل لي بأنهم سيعتقلونك على الحدود لو رجعت؟" (خلود 72)
ومن مواطن الاسترجاع قول الراوي عندما ذهب لمنجرة السكناجي لاستلام أجرة عمله المرهق ووجده مغلقا ويظهر الاسترجاع للماضي جليا:
"... لم أبك عندما هدموا بيتي في حارة الشرف... لم أبك عندما ضاع أخي يوم طردنا من بيتنا، يومها ضاع ولم نعثر عليه طيلة أسبوع، حسبناه عند الله، حزنّا كثيراً، وفقدنا الأمل في العثور عليه... إلا إننا وجدناه عند جيران لنا ، كانوا قد وجدوه في جلبة الناس يوم طُردنا من بيتنا وحينا، كانوا قد توجهوا آنذاك للإقامة في المدرسة الميلوية في عقبة الميلوية، التي كانت ما تزال تحت الإنشاء، بقي عندهم لمدة أسبوع وعندما مروا عليهم للإحصاء سجلوا أخي معهم في بطاقتهم العائلية كفرد من أفراد العائلة، وكنا قد سجلناه أيضا بنفس الوقت في بطاقة عائلتنا، فبقي أخي مسجلاً لدى العائلتين لمدة طويلة، وبذلك صار له بطاقتين وعائلتين ووالدتين ووالدين ودزينة ونصف من الأخوة والأخوات..." (خلود 9- 91)
وتظهر تقنية الاسترجاع من خلال مواجهة الراوي لجنود الاحتلال والحديث مع أم سعيد عن مواجهة سابقة حصلت بين مجموعة من الشبان وبين جنود الاحتلال:
"دعينا لا نتنكر لمن ذهبوا، ولمن صاروا أوتادا في عمق ترابه،عبد الله، وسعيد، ومحمود الذي كان بطلا بكل معنى الكلمة، أذكر تماما عندما رأينا صورة لينا النابلسي على الصفحة الأولى لجريدة القدس، كانت جميلة جدا لم تنه الصف العاشر بعد، كانت ما تزال بزيها المدرسي المخطط باللونين الأبيض والأخضر، وها هي تُلف بالأربعة ألوان بعد أن قتلها جندي صهيوني أمام مدرستها بدم بارد، غلت الدماء في وجوهنا وعقولنا واشتعلنا غضبا وحزنا، استطعنا تجميع عدد من الشباب والبنات وصنعنا لافتات عليها شعارات تندد بجرائم الاحتلال الصهيوني، تعبيراً عن استيائنا ورفضنا لكل أشكال القمع اليومي للاحتلال، خرجنا من الحرم الشريف قرابة الساعة التاسعة والربع صباح يوم الثلاثاء الثامن عشر من أيار العام ستة وسبعين، مررنا عبر سوق القطانين صعودا إلى سوق خان الزيت عبر عقبة الخالدية ومن ثم عقبة السرايا فالقيرمي، وعندما وصلنا إلى مفترق سوق العطارين وخان الزيت والدباغة؛ فوجئنا بمجموعة من جنود العدو، لا تزيد عن أربعة جنود، أخذوا بإطلاق الرصاص علينا دون سابق إنذار، فشاهدت صديقي محموداً قد سقط على الأرض، لم أدرك في البداية أنه تلقى رصاصة قاتلة في جبينه من الجهة اليسرى، حاولت مساعدته أنا ومن كان بجانبي وعندما وضعت يدي تحت رأسه كان دمه ساخناً وينزف بشدة، أُحضر باب خشبي، وضعنا الجريح فوقه وطرنا به إلى مستشفى "الهوسبيس" في شارع الواد، كل ذلك ولم تصل الساعة العاشرة، أُعطي الجريح الدم اللازم، حاول الأطباء إنقاذه بكل السبل، خمس ساعات وهو بين الحياة والموت، إلى أن فارق الحياة في الساعة الواحدة ظهراً، فبكته كل العيون، وبكته السماء بأمطار غير معهودة بمثل هذا الوقت من شهر أيار، وبكته الأشجار، وبكته الأقدار وبكته حجارة المدينة، وسورها، وترابها، طيورها.." (خلود 78،77)
ومن الاسترجاع في رواية خلود، ويتحدث فيه الراوي عما قالته له أمه عن نكبة عام 1948 واللجوء:
(لم نعرف وجهتنا، لم تتفوه أمي بكلمة، لازمت الصمت ... لكنها عندما خرجنا من الحارة قالت:
- ها هي قصتنا تتكرر يا بني، أخذت تعيد شريط ذكرياتها، رجعت إلى طفولتها عندما تركت بيتها مع من بقي على قيد الحياة من أبناء أسرتها في قرية زكريا، وبعد أن جاءهم خبر استشهاد والدها في معركة سكة الحديد في يافا في العام تسعة وثلاثين وتسع مائة وألف على يد الإنجليزي المحتل، أخذت تقلب الأمور وتزنها بميزانها الخاص، تُرى أيكون مصيركم مثل مصيري؟ (خلود ص23)
الاسترجاع القبلي: وهو العودة للزمن الماضي قبل أحداث القصة، ومنه في الرواية:
تمنيت في هذا اليوم لو أن والدتي حاضرة لأقول لها: ها أنا يا والدتي قد التقيت بها...
ها هي حبيبتي التي حدثتك عنها ذات صفوة، ها هي من بحثت عنها أنا وأحلامي المتهالكة، ها هي يا أمي... ألم أقل لك بأنني لن أفقد الأمل بلقائها؟
ألم أقل لك يا أمي بأنها تنتظرني مثل ما أنتظرها في مكان ما في هذا الكون؟
ألم أحدثك عن جمالها وحسنها وحنانها؟ أنا لم أصفها لك كما يجب فأنا لا أحسن وصفها، ومفرداتي عاجزة عن الوفاء لحسنها... ها هي يا أمي موجودة أمامي بلحمها ودمها، وسحر عيونها السوداء الآسرة... (ص 14)
ويجمع المحللون والنقاد على أن وعي الإنسان الفلسطيني المبكر لواقعه ولقضيته هو الذي أبرز عنصر الزمن في الأعمال الأدبية الفلسطينية. وقد سبق وعي الفلسطينيين بقية الوطن العربي لواقع قضيتهم، وهذا الوعي العميق تجسد بأشكال متفاوتة ووجد لنفسه مسارات متعدد مع مسيرة التجربة الفلسطينية.(12) .
الزمان والمكان في الرواية الفلسطينية، علي عودة، ص16، ط2، فلسطين، 1997.
الاستباق:
ويتمثل في استعمال الاستباق الزمني في أثناء تحديد هذه الشخصيات. فالروائي سمير الجندي يذكر– على سبيل التمثيل لا الحصر – أن أم خلود تستبق الحوادث الروائية وتعرف ما سيقوله:
يقول الراوي خلال اجتماعه بأم خلود:
"نظرت(أم خلود) نحوي نظرة آمرة تحثّني فيها على الكلام، هي تعرف ما سأقول" (خلود ص 165)
"كان علي مشاورة دلال قبل حضوري، كنت أرغب بمفاجأتها بهذه الزيارة، أن أسعدها، بأنني صرت قريبا من أسرتها، بأنني تقدمت بطلب يدها...هي مفاجأة فعلا، ولكنها مفاجأة سيئة على ما أظن، سوف تعتبرها دلال خطوة تدميرية لعلاقتنا مع أسرتها، سد عال أمام تلك العلاقة، عقبة يصعب تذليلها..." (خلود 166)
"هو(أخو خلود) من سيجد شريكة حياته، وسوف يأتي يوم ويقابل المرأة التي تخطف بصره وقلبه في آن معا، وعندها يتحقق فقط حلم والدتي بتزويجه..." (خلود 173)
"أنا أعرف كم أنت خائفة، وأنا أيضاً خائف، ولكننا لن نهرب من خوفنا، علينا مواجهة هذا الخوف، لأن ما يخيفني أكثر هو ضبابية الحياة هنا في عمان ، بل إن حلمي بدأ يضمحل شيئاً فشيئاً، أنا لا أجد نفسي هنا، أشعر كأن حدود حلمي تنتهي قبل أن تبدأ، لا سماء ولا هواء ولا شجر، المدينة هنا لا تعرفني، ولا أنا أعرفها، لم تسمح لي مشاعري بالتعرف على غير القدس مدينة أعيش فيها، كما تعيش هي في، ولا يمكن لمن عشق القدس أن يعشق غيرها" (خلود ص 79).
"ولا بد من أن تتحرك الشخصيات في مكان لصنع الأحداث و"يصبح المكان وسطا ً حيويا ً تتجسم من خلاله حركة الشخصيات التي تأخذ في مسارها خطا ً مزدوجا ً متناقضا , إذ تبدو أحيانا ً متداخلة ومتشابكة, إلا أنها في أحيان أخرى تبدو متنافرة ومتباعدة فتظهر في شكل وحدات درامية منفصلة:( توحي بمدى ما تتميز به كل شخصية من استقلال واكتفاء, ومن ثم فهي رهينة عالمها الخاص وتجربتها الإنسانية الفريدة" (13)
الزمن التراجيدي في الرواية المعاصرة، سعد عبد العزيز, ص 79 ، مكتبة الانجلو المصرية, المطبعة الفنية ,1970.
وللمكان بعد نفسي داخل النص, إلى جانب وظائفه الفنية وأبعاده الاجتماعية والتاريخية والأيدلوجية التي ترتبط بالمكان ولا تفارقه, فالتركيز على المكان من الاستراتيجيات النصية المهمة التي تلجأ إليها الكتابات الجديدة، فمدينة القدس في روابة خلود. لم يعد المكان ممثلا ً للإطار الذي تجري فيه الأحداث وتتصارع فيه الشخصيات, بل إنه قد يكتسب سمات الشخصية الحية, إذ يتم تحديد أدوار الشخصيات الروائية وفق عمق ارتباطها بالمكان, مما يدفع الكاتب إلى إضفاء صفات خيالية على خصائص المكان الفعلية, وبناء المكان في النص .. يتم على أساس التخيل المحض, إلا أنه لا يمكن أن يكتسب ملامحه وأهميته بل وديمومته إذا لم يتماثل بطريقة أو بأخرى مع العالم الحقيقي خارج النص, فهو يوصل الإحساس بمغزى الحياة ويضاعف التأكيد على تواصلها وامتداداتها.(14)
ينظر: البناء الفني في رواية الحرب- دراسة لنظم السرد والبناء في الرواية العراقية المعاصرة، عبد الله إبراهيم، ص 12، دار الشؤون الثقافية- بغداد
الشخصيات
ويعد المكان من العناصر المهمة في بناء الشخصيّة الروائية فلا يمكن أن توجد شخصيّة بدون مكان. فالمكان فضاؤها وحيّزُها الذي تتحرك فيه، فهوَ لا يقلُّ أهمية عن دور الزمان في بناء الشخصيّة، فكلاهما يشكلان دوراً ذا أهمية كبيرة في بناء الشخصيّة وهما متصلان ومتلازمان "فلا يمكن تناول المكان بمعزل عن تضمين الزمان كما يستحيل تناول الزمان، في دراسة تنصب على عمل سرديّ، دون أن لا ينشأُ عن ذلك مفهوم المكان، في أيّ مظهر من مظاهره"(15)
في نظرية الرواية -بحث في تقنيات السرد، د. عبد الملك مرتاض، ص 227، عالم المعرفة، الكويت، 1998.
"ومن الجدير بالذكر أن تجربة الإنسان التي يعيشها ضمن ظروف معينةٍ وعامل الحس الإنسانيّ في نفس الإنسان قد يدفع إلى الميل نحو الزمان أو المكان. تقول نبيلة إبراهيم: "إنّ تجربة الإنسان مع الزمان أو المكان تعتمد إلى حد كبير على ميل الحس الإنساني نحو الزمان أو المكان"(16).
فن القص في النظرية والتطبيق، نبيلة إبراهيم، ص160، مكتبة غريب، مصر، د.ت.
وقد يرتبط الزمان مع المكان في العمل الروائيّ وهذا ما يطلق عليه "الزمكان الروائيّ" الذي يعني -على حد تعبير "باختين": "العلاقة المتبادلة الجوهرية بين الزمان والمكان المستوعبة في الأدب استيعاباً فنيّاً"(17).
أشكال الزمان والمكان في الرواية، ميخائيل باختين، ترجمة: يوسف خلاق، ص 5، وزارة الثقافة، دمشق، 1990
وفي الرواية تظهر الشخصيات التالية:
"الراوي، وأخته، والحبيبة، والأم "أم حكيم" وأبناء أسرتها ووالدها وجدته وأعمامه، الأب في الخمسين من عمره وأخوته وأخواته، الجار أبو زهير وزوجته وابنه زهير وأخته سهام، جنود الجيش المحتل، الرجال الذين أجبروا على التجمع في الساحات، الأخ الصغير والأصغر، وامرأة تحمل بين أحضانها طفلين صغيرين، وعجوز تمشي بمعاونة حفيدها، ورجال فقدوا شهية رجولتهم، وأطفال صودرت طفولتهم، وصبية تائهون حائرون، وأطفال حفاة ممسكين بأطراف ثوب أجهضته الأوساخ، وشيخ يتكئ على عصاً، أبو حليمة بائع الحلاوة بسمسمية، الحاج أمين الحسيني، السائق، مصطفى بن خال الراوي وأبيه، وأبو عطوان، طلاب المدرسة، بنت الجيران، أولياء أمور الطلاب، الباشا صاحب الفندق، والفتاة خلود التي قابلها السارد هناك وضاجعها، ووالدها ووالدتها وأخوها وليد وأطفالها وأختها وزوجها وعمها، مدير الاستقبال في الفندق، ابنة عمة السارد ليلى وخاله "أبو مصطفى" وزوجته، ابن خاله مصطفى، الحدود، جمال عبد الناصر، أم سعيد وابنها سعيد، مجموعة من الصهاينة، من المناضلين:عبد الله، وسعيد، ومحمود،والشهيدة لينا النابلسي، رهبان وراهبات وقساوسة ومطارنة، الأستاذ محمود، ستة عمال استشهدوا على أطراف غزة، سائق شاحنة عسكرية، السلحوت، أحد العمال التايلنديين، السياح، السماسرة وسائقو الدرجات النارية، ياسر عرفات، الباعة في تايلند، عبد الله ميناس وزوجته وحماته وعمته وبناته الثلاث، دكتور العائلة، أحد العمال العرب، الدكتور غسان، رجال الإصلاح بين الناس.
وأغلب الشخصيات ثانوية، ومعظم الأحداث تجري على لسان الراوي، وتظهر شخصية الأم والأب وخلود.
وتمثل شخصية الأم التجذُّر في الأرض، فيصفها الراوي بقوله:
" كانت بئر أسراري، كنت أُحدِّثها عن مكنونات صدري وأصف لها مشاعري، وآخذ رأيها في منعطفات حياتي، كانت تُبدي لي النصيحة التي غالباً ما آخذ بها، لقد كانت سديدة في رأيها... لم تستعجل الأمور، متأنية، صادقة مع نفسها ومع من حولها، لم أنس قرارها المصيري بعدم ترك المدينة مع من تركوها في حزيران من العام سبعة وستين وتسعمائة وألف، حين أراد والدي النزوح إلى عمان، قالت له:
- لن نترك هذه المدينة أنا وأبنائي، هنا ولدنا وهنا نموت...
كانت رابطة الجأش، قوية العزيمة، نافذة البصيرة، متماسكة في أصعب الظروف، شديدة الثقة بنفسها، وتُقدر من حولها... (خلود ص 14،15).
"ولكنها تذكر تماما تلك المعاناة التي حُفرت في بؤرة ذاكرتها ونُقشت نقشا في مخيلتها، وها هي الأحداث تعيد نفسها فتتكرر المعاناة ويزداد الألم بعد أن اتسع الجرح"(خلود ص 23)
وتمثل خلود: خلود الفلسطيني في عشقه لوطن وتمسكه بحبات ترابه وتعلقه بوطنه الحبيب، فهي لا تريد احتلالا غاصبا ولا زوجا بلا حب ومشاعر:
""هي (خلود) تحاول جاهدة التأقلم مع حياتها المفروضة عليها، وأن تقبل بقدرها، حتى أنها جعلت من ممارستها للحياة ممارسة ميكانيكية، بأن سلخت واقعها عن مشاعرها وأحاسيسها وكل ما له علاقة بحبها وبرغبتها المتولدة من هذا الحب، جعلت من نفسها آلة همها الوحيد التعامل مع أسرتها بما يتطلب منها الوضع الاجتماعي، تخدم أولادها وزوجها بجسد لا تحركه الروح، وعقل متجمد، وحركات لا إرادية، هكذا صارت بكل بساطة كما يريدها الجميع أن تكون، آلة، بلا إرادة، بلا أحاسيس، جسد على شكل جسد، فارغ من الحياة، محنط، بلا لون ولا رائحة." (خلود 143، 144) .
ويمثل الأب: الإنسان المكافح من أجل أن يوفر لأسرته مقومات الحياة بكرامة.
وتمثل أم خلود: الدول العربية التي تنكّرت لمعاناة فلسطين مما جعل"خلود" تنفصل عن العائلة، وتهيم على وجهها، تجابه الأخطار والعواصف وحدها، هي ومن أحبها من أبناء الوطن.
ويمثل عم "خلود" وهو والد زوجها الدول العربية التي تحاول استثمار قضية فلسطين لصالحها حتى لو أدّى ذلك لضياعها وامتهان كرامتها.
الراوي العالِم بكل شيء:
وتجري أحداث القصة على لسان الراوي العالم بكل شيء في نفوس الشخصيات، وقد استخدم الراوي ضمير المتكلم "أنا".
(وغير خاف على أحد أن ضمير المتكلم أدى هنا مهمّتين، الأولى هي أن الشخصية الروائية أكثر دراية بعواطفها وأحاسيسها وأفكارها من أي إنسان آخر؛ لأن هذه الأشياء خاصة بها وحدها. ويستطيع الروائي ضمان قدر أكبر من قناعة القارئ بالشخصية إذا تركها تعرض أفكارها بنفسها، وتُحلّل أمام القارئ أحاسيسها وآراءها وتأثير واقعها في حياة أسرتها. فإذا قدّمت ذلك كله ضمنت للروائي موضوعيّة عرض الشخصية دون تدخُّل منه. أما المهمّة الثانية فهي قدرة ضمير المتكلم على ضمان تقديم الشخصية من الداخل إلى الخارج وليس العكس. وهذا الأسلوب في التقديم يبني شخصية متكاملة حيّةً لا يستطيع الناقد العزوف عن تحليلها في مقارباته النقدية للنصوص الروائيّة، ولا يملك غير تخصيص فصل يخصُّ الرُّؤيا الرّوائيّة وحدها.(18)

الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص ،179 ، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق – 2003
العلاقة بين السارد والروائي (مؤلِّف الرواية)
اهتمَّ نقّاد السرديّات، ولاسيّما البنيويون، بالعلاقة بين الروائي (مؤلِّف الرواية) والسّارد (الذي يتولّى مهمّة سرد الحكاية داخل الرواية). ونتج عن هذا الاهتمام اجتهادات كثيرة، ومناقشات مستفيضة، ذهب بعضها إلى موت المؤلِّف (بارت) ومسؤولية السارد عن الرواية كلّها. واعترف بعضها الآخر (تودوروف) بالمؤلِّف وسمّاه المؤلِّف الضمني، وخصَّ السارد بمهمّة تقديم الحكاية، أو سردها على المسرود له. ودمج بعض ثالث (جنيت) بين المؤلِّف والسارد، فعدَّ المؤلِّف صاحب الرواية، وعدَّ السارد شريكاً له فيها. وما من شكّ في أن هذه الاجتهادات وغيرها أسهمت في ترسيخ مفهومات سردية جديدة، وحفزت على مناقشتها. بيد أن القضيـة، في أثناء تحليل النصوص الروائيـة، لا تكمن في الانحياز إلى اجتهاد من هذه الاجتهادات (الغربية مولداً ونشأةً)، ولا في تلفيقها، أي الجمع بينها، بغية الإفادة منها كلّها، بل تكمن في طبيعة النصّ المحلَّل، وفي قدرة المحلِّل على تفكيكه وإعادة تركيبه بعد تمثُّله المفهومات السردية.
ولاشكّ عندي في أن الروائي هو الذي يبدع روايته، ولكن طبيعـة الإبداع السردي التخييلية تدفعه إلى بناء مجتمع روائي يُوهِم بالمجتمع الخارجي الحقيقي، وتجبره على ألا يُحرِّك هذا المجتمع بنفسه، بل يتركه للسارد ليتصرَّف فيه كما يشاء الروائي، مما يجعل السارد جزءاً من اللعبة الروائية التخييلية، ويُحدِّد مستوى الرواية الفنيّ تبعاً للمكان الذي وضع فيه الروائي سارده، واستناداً إلى قدرة هذا المكان على الإيهام باختفاء الروائي وبمحدودية عِلْم السارد.(19)
الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص ص32، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق - 2003
الروائي سمير الجندي لا يختلف عن الروائيين العرب الآخرين في أنه لم يرغب في إدارة دفّة روايته (خلود) بشكل مباشر، ومن ثَمَّ اصطنع بوساطة اللغة سارداً ذا مهمّة محدّدة، هي تنظيم تقديم الحكاية الروائية للقارئ. وهـذا السارد جزء من اللعبة الروائية التخييلية، ولكنه ليس جزءاً من الحكاية الروائية. والملاحظة الرئيسة هي علاقة هذا السارد بالمسرود، أي الحكاية الروائية التي انتدب سمير الجندي -انتدب السارد لتقديمها للقارئ. وسأسعى ههنا إلى تقديم وجهة نظر في قدرة الروائي سمير الجندي على الاختفاء وراء السارد الذي ابتدعه، بغية التمهيد للحديث القابل الذي سيتكفَّل بالإشارة إلى مدى عِلْم السارد.
فبينهما تطابق شكلي، فالروائي سمير الجندي فلسطيني، وكذلك السارد، وكلاهما يعيش في القدس، ووالد كليهما فاقد للنظر، وأمّ كل منهما من قرية زكريا المحتلة عام 1948، وقد جاء على لسان الأم: "هي قصتنا تتكرر يا بني، أخذت تعيد شريط ذكرياتها ، رجعت إلى طفولتها عندما تركت بيتها مع من بقي على قيد الحياة من أبناء أسرتها في قرية زكريا... "(خلود ص 23) وكلاهما شاهد النكسة واصطلى بلهيبها، وكلاهما كان عمره عشر سنوات عام النكسة، وكلاهما درس الابتدائية في المدرسة العمرية في القدس.
ولاشكّ في أن معرفة الروائي سمير الجندي للحارات والأزقة في القدس قد تسرَّبت إلى رواية (خلود) بوساطة السارد الذي فضح نيابته عن الروائي سمير باستخدامه معارف الروائـي وأهله وخاصته الذي يختفي وراءه. ولو اختير عنوان الرواية (حياتي) مثلا للرواية لافتُضح أمر المختفي، وابتدأ خيط جديد من التحليل يتعلّق بالرواية السيريّة، أو الرواية التي تضمّ قدراً من سيرة صاحبها، كما هي حال الروايات الأولى للروائيين في الغالب الأعم.
أما التشابه الفلسفي بين الروائي سمير والسارد فواضح من رؤيا كلٍّ منهما للعالم. فسمير الجندي شخصية روائية تملك رؤيا إنسانية وطنية للعالم، وهي رؤيا تنطلق من أن الإنسان خيِّر، يستحقّ أن يعيش بأمان بعيداً عـن الظلم وضرورات الحياة المادية، حالم بالحب والحنان، يكره الظلم والعدوان وامتهان الأوطان واحتلالها، ولا يكفّ عن مساعدة الآخرين والإحساس بهم وبهمومهم، وتلتقي هذه الأفكار بأفكار السارد.
إن العلاقة بين الروائي والسارد حتمية، ولكنها علاقة إبداعية تخضع لشروط الإبداع الروائي وإجراءاته. وقد حرص الروائي سمير الجندي على أن يُبْعِد القارئ عن التشابه بينه وبين شخصية السارد، باختياره "خلود" عنواناً للرواية. بيد أن تفكيك نص الرواية يحيل إلى أن الرغبة شيء وتجسيدها شيء آخر، ومن ثَمَّ يفتح كوّة الرواية السيرية. (20)
ينظر: الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص33-35، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق - 2003

الأحداث
فالمكــــان هو الإطــار المحدد لخصوصيــة اللحظة المعالجة, والحـــدث لا يكون في لا مكان بل إنه في مكان محدد, والبنية المكانية لنص من النصوص هي " تحقق لأنساق مكانية أكثر عمومية – قد تكون هذه الأنساق إما نسقا ً مجملا ً لأعمال كاتب معين, وأما نسق تيار من التيارات الأدبية, وإما نسق ثقافة من الثقافات الإقليمية – وتتمثل دائما ً هذه البنية صيغة من صيغ النسق العام, غير أن المكانية الخاصة تدخل أيضا ً وبطريقة محددة في صراع مع هذه الصيغة من خلال تحطيم أوتوماتية لغتها"(20).
مشكلة المكان الفني، يوري لوتمان – ت: سيزا قاسم – مجلة ألف باء – ع6 – 1986م : 81 ، وينظر: الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا : ص 171 .
والأحداث تجري بصورة منطقية، تقع حرب عام ألف وتسعماية وسبعة وستين، وتحتل إسرائيل القدس ضمن ما احتلته ويأتي عام النكسة بعد مضي تسعة عشر عاما من نكبة عام 1948، وتصور الرواية الأيام العصيبة يوم النكسة، وحالة الخوف والذعر والقتل والنزوح الذي صاحبها مع العودة لبعض الإشارة للقتل والترحيل عام 1948.
كما تصور مقاومة الأهل للمحتل وحالة الثبات وتجذر الأهل في فلسطين، وخروج البعض من أبنائها للتعليم خارج الوطن، كما تصور أحياء القدس وحاراتها ومدارسها ودور عباداتها، وتفريغها من ساكنيها العرب، ومنع المحتل للمواطنين العرب من دخولها إلا بتصريح خاص، كما تبين حاجة المستشفيات والمدارس للأجهزة التقنية والوسائل العلمية المساعدة، وتنتهي الرواية بتلاحم الأهل في المكان، في فلسطين وفي القدس، حيث يحاول المحتل سرقة أسمائها وتحريف تاريخها بغية السيطرة عليها وعلى تراثها وتاريخها كليا.
التشويق:
لجأ الراوي لعنصر التشويق وحرص على توفيره للمتعة والإثارة، فابتدأ الرواية بالتغني بالمحبوبة وإظهار جمالها بأسلوب بليغ وبوصف محبب للروح والنفس، لكن التحليل المعمّق يرى أن المحبوبة هي القدس، هي فلسطين، واستمر الراوي في الحديث عن المأساة الفلسطينية، وكلما شعر الراوي بتوتر المتلقي نتيجة للألم الذي يلحق به خلال شريط الأحداث وما فيه من ظلم وتدمير نفسي واحتلال أرض وامتهان كرامة، كان الراوي يعرج لقضية حبه لخلود ليزيل التوتر والقلق والعناء الذي لحق بالمتلقي وهو يتابع الرواية، ففي صفحة 58 من الرواية عرّج الراوي لعنصر التشويق بتصويره للقاء حب مثير مع من أحب وهي خلود، واستمر اللقاء الذي وصفه الراوي من صفحة 59 – ص 66، ولنستمع للحظة لقاء الراوي بالمحبوبة ووصفه العذب لجمالها وإثارتها؛ من أجل توفير عنصر التشويق:
"لقد أعجبت بشخصية هذا الرجل"صاحب الفندق" وكياسته، ولكنني لم أحدثه بكلمة طيلة فترة عملي قبل أن أفصل منه... فقد جاءني قرار الفصل من مدير الفندق، صباح ليلة قضيتها في الغرفة رقم (16) مع فتاة من نزلاء الفندق، كانت فتاة لم أقابل أجمل منها في حياتي، قامتها ليست طويلة، وبنيتها قليلة، وهيئتها مثل تمثال من المرمر، آية من الجمال، نُحت بيد فنان ايطالي من فناني القرن السادس عشر، شعرها أحمر كالياقوت، في عينيها سحر آسر، صدرها قد استكمل استدارته كقبتي من النحاس المصقول، شفتاها ورديتان برائحة المسك والعنبر، عيناها واسعتان بلون سواد الليل، تعانقت عيوننا والتحمت أجسادنا التحاماً كأن الشاطئ بالشاطئ اصطدم، وغرقنا في نشوة ألهبت كل ما حولنا، غطاء السرير، وسادة تقاسمناها، اختل توازن مرآتها ، تناثرت الأوراق والأسماء، والمساحات ضاقت، لم يعد هناك لغة غير لغة الجسد، تفوقت الطبيعة على كل القيم، جفت الكلمات فلم يكسر سكون الليل إلا صوت نشوتنا وثرثرة القبل التي تبعثرت على مساحات الجسد، وآهات تذيب الصخر، غرزت أناملها الطرية في جسدي وهي تشدني إليها حرصا على نشوتها، أخذ جسدها يثور، يتحفز لجولة أخرى، تدحرجت من طرف عينها اليسرى دمعة، احتضنتني بكل حنان وهي تقبلني، وتلثم شفتي ووجهي وعنقي، أغمضت عينيها وغابت في نوم عميق وبسمة رُسمت على محياها الجميل الغض الذي كانت تفيض منه رائحة اللوز.
نزلت من غرفتها قبل موعد الإفطار بنصف ساعة تقريبا، ظناً مني بأن لا أحد في بهو الفندق، غير أن ظني لم يكن في محله، إذ أن مدير الاستقبال في الفندق كان ينتظرني بجانب المصعد، فقال لي دون مقدمات:
- اجمع أغراضك وغادر الفندق، لقد تم فصلك من العمل، لم أجادله، تركت الفندق من فوري، وذهبت إلى جامعتي ولكن طيفها لم يغادرني لحظة واحدة، فقد قالت لي أنها مسافرة إلى "نيويورك" صباح هذا اليوم فلم يتسن لي وداعها، وكنت قد نسيت قصاصة الورق التي دونت عليها عنوانها، فقُطعت عني أخبارها". (خلود 61-63)
وبعدها خرج لموضوعه الرئيس وهو الوطن وما يعانيه أهله من جور الاحتلال وتصوير حال الوطن الذبيح حتى صفحة 125، حيث شعر بالقلق يحدق بالمتلقي من خلال تصوّره للمآسي المتلاحقة والمؤسفة، فأدرك الروائي سمير الجندي حينها أن المتلقي بحاجة للحظة يزيل المتلقي عن نفسه قلقه وتوتره، فعاد لخلق عنصر التشويق ولقاء الحبيبة بعد خمسة عشر عاما من الفرقة وتصويره للقاء في صفحات غير قلية:
وبعد يومين من لقائهما الثاني يلتقيان مرة ثالثة: "ومع كل نشوة ضممتها وحضنتني، عاد إلي ذلك الإحساس الجميل الذي عاش في تفكيري وسكن باطن نفسي، ونقش نقشا على قلبي، عاد كما كان في الغرفة 16. كم أُحب هذا الرقم الذي ارتبط بها، بحبي الأول وعشقي الأبدي، كيف يدور الزمن وهو يحمل كل هذا القدر من المفاجآت!" (خلود ص 128)
وبعدها عاد لموضوع الرواية الرئيس واختتمها بالحديث عن فراق خلود لزوجها والتحام الراوي بوطنه.
الحوار:
إن تقنية الحوار عنصر تكويني مهم في بناء الرواية وهو وسيلة بيد الروائي الجيد، تجسد رؤيته للكون وإحساسه بالحياة، ومهارته في رسم أبعاد شخصياته الروائية وإمكاناته الفكرية وقناعاتها. وهي مهمة للقارئ الذي يعتمد إقباله على قراءة الرواية على جاذبية الحوار وقدرته على الإقناع والإثارة، ومن هنا يتنوع الحوار الروائي، ويتعدد وفقاً لقربه من الحدث أو بعده عنه، ووفقاً للوظيفة البنيوية التي يؤديها للسرد. وله أهمية كبيرة في بنية الرواية، فهو من أبرز التقنيات السردية للتعبير عن الذات وعن الوعي الاجتماعي بكل تفاعلاته المختلفة وبكل تناقضاته أيضاً.
ومن نماذج الحوار الخارجي في رواية خلود والذي يصور جمع المحتل للعرب في ساحة في القدس خلال حرب عام 1967:
"قبض أبو زهير على يدي وشدها حتى خيل إليَّ بأنه ينتزعها من مكانها، وهمس بأذني قائلاً: - ابق هنا بجانبي، لا تتحرك.
بعد أن أنهى الجندي تهديداته، صرخ قائلاً:
- هيا تفرقوا ... تفرقوا ... تفرقوا ... (خلود ص 19)
ومن الحوار في رواية خلود:
قالت أختي:
- أسمعت ما قاله السائق العجوز؟
- نعم، وعلينا العودة فورا..." (خلود ص 33)
ومنه ما جرى بين الراوي الذي حاول شراء علبة علكة كي يبيعها ولم يكن يملك كامل ثمنها:
"نظر إليّ (البائع) قائلا:
- هذا لا يكفي، فثمن العلبة عشرون قرشاً، أطرقت صامتاً وهممت بالخروج، فقال لي:
- اسمع يا بني، أنا أعطيك العلبة، ويبقى من ثمنها عشرة قروش دين عليك، فإذا انتهيت من بيعها، تدفع لي الباقي." (خلود ص 38)
ومنه الحوار الذي جرى بين الراوي ومدير التربية بعد أن اقتلع الأول الأشجار لتوفير ساحة للمدرسة:
فقال لي مدير التربية:
- كيف تجرؤ أن تفعل ما فعلته دون إذن مسبق؟
قلت:
- لقد قال لي المدير عليك التدبر، فهذا شأنك عندما سألته أين أعطي حصة التربية الرياضية إذ لا توجد ساحة في المدرسة؟
فكان تدبري على ما رأيت.
قال:
- أتُحضر الجرّافة، وتقص الأشجار، وتقلب المدرسة بدون سؤال ولا جواب؟
- وماذا أفعل غير ذلك، لقد اجتهدت، ورأيت أن المدرسة بدون ساحة لا تكون مدرسة.
قال:
- اذهب الآن، وسوف أنظر في أمرك لاحقا."(خلود ص 99)
النجوى
قلت في نفسي : تُرى من هذا المتصل؟ أيكون من أفكر به؟
من يا ترى يتصل بي دون أن يُظهر رقمه؟!(خلود ص10)
المضمون
تُظهر الرواية المعاناة القاسية التي يعاني منها الفلسطينيون في وطنهم المحتل، ففي حرب عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين، وتبين مدى تضليل الإعلام العربي للمواطن، وتظهر المفارقات الجسيمة:
"كنا داخل ذلك الملجأ النتن، الذي تفوح منه رائحة كريهة تقتل كل مشاعر الأمان والجمال والحياة، وبينما كان مذياع أبي زهير ينشد بصوت عال:
"ع الميدان يا ابن الأردن ع الميدان..."
فإذا صوت يعلو منادياً عبر مكبرات الصوت:
- على جميع الرجال والشباب الخروج من المنازل والتجمع في الساحة فوراً ... (خلود ص18)
يتهامس الرجال بصوت يشبه الهمهمات... هم اليهود وقد احتلوا المدينة، وهاهم يجمعون الرجال في الساحات، جنود مدججين بالأسلحة التي لم أتعود رؤيتها من قبل، يضعون على رؤوسهم الخوذ السميكة، ويوجهون بنادقهم نحونا ... وقف الجندي الذي يحمل بيده مكبراً للصوت يقول:
- نحن " جيش الدفاع الإسرائيلي " نحذركم ... نأمركم بترك منازلكم خلال ثلاث ساعات وإلا سوف نهدمها على رؤوس من فيها... (خلود ص19)
ويصف الراوي وجوه المقدسيين وبعض مآسيهم بُعيد هزيمة حزيران:
"وجوه الرجال غيرها قبل خمسة أيام، لا أدري ماذا حلّ بها فقد صارت هزيلة، وألوانها غريبة ورائحة الحموضة تفوح من الأجساد، كرائحة الخضار المتعفنة، عيونهم متعبة ناعسة، وحول العيون ذلك اللون الأسود الذي يكوّن إطارا من التعب والخوف والرهبة من المجهول، فمعظم الرجال الذين تجمعوا في الساحة عاشوا عذابات الشتات والهجرة القصرية عام ثمانية وأربعين..." (خلود ص 18،19)
"كان هناك الكثير من الجثث لأناس كانوا قبل أيام قليلة يتحركون ويحلمون مثلنا، قال أبي:
كنا نسير بين الجثث، رائحة الموت سيطرت على كل شيء، الهواء والسماء والشجر، قتلت كل الأحاسيس، قتلت الخوف أيضا، لم يعد لدينا قدرة على المضي بسبب عائق أو جثة ملقاة على قارعة الطريق، فينزل بعض الركاب لفتح الطريق أمامها، كانت الجثث بكل الألوان، منها ما هو متفحم، ومنها ما هو أزرق، ومنها ما هو بدون لون أو حتى رائحة، نزلنا من الحافلة المكتظة بالناس، نساء ورجالا وأطفالا وشيوخا وعجائز، نزلنا قبل أن نصل إلى جسر نهر الأردن الخشبي بعشرات الأمتار" (خلود ص 32)
ويصف الراوي حالة الهلع والذعر التي حلّت بالفلسطينيين وهم في طريقهم للجوء:
" فكان قرارنا أن نترك الحافلة، ونزل آخرون مثلنا، عدنا أدراجنا، ولكن ليس بالسهولة نفسها، كان علينا السير على الأقدام، التمسنا خطواتنا بين الجثث، وأجزاء الآليات المدمرة، والطائرات تحوم فوق رؤوسنا على مستويات منخفضة، كانت الطائرات تقذف كل سيارة أو آلية تتحرك باتجاه القدس، أدركنا ولو متأخراً أن طريق عودتنا إلى القدس محفوف بالمخاطر الكبيرة، انتظرنا حتى يعم الظلام، فالسير ليلا أكثر أماناً، كنا متعبين لدرجة الإرهاق، جلسنا بجانب صخرة على حافة الشارع، وما كاد الظلام يبتلع المكان حتى سمعنا صوتا قادماً باتجاهنا، أدركنا أنه صوت جرار يسير بدون إنارة، كان محملا بالكثير من الناس، ركبنا على غطاء دولابه الخلفي، إذ لم يكن متوفرا غير هذه المساحة للجلوس عليها، أو نكمل طريقنا سيرا على الأقدام، أشار لنا الركاب بأن نلتزم الصمت، حتى نسمع صوت الطائرات عندما تقترب من المكان فيطفئ سائق الجرار المحرك، وهكذا استمر الأمر إلى أن وصلنا مشارف العيزرية..." (خلود ص 34)
ويهدف المحتل دوما تفريغ الأرض من ساكنيها:
"فقط الطريق متاحة لمن يغادر باتجاه الشرق، خارج حدود الوطن" (ص 34)
ومن مضامين الرواية تجسيد المأساة الفلسطينية إثر الاحتلال وتصويرها:
"لقد تشردت(الأمّ) وعاشت برد الشتاء القارص، وحر الصيف اللافح في خيمة تقاسمت عذابها، وبؤسها، مع أطفال في مثل سنها، وشيوخ دَفنوا أبناءهم، فتحجرت دموعهم في مآقيها، ونسوة جف حليب أثدائهن حزنا على أزواجهن الذين فُقدوا للأبد، أو استشهدوا، كانت آنذاك طفلة في الخامسة من عمرها.. (خلود ص 23)
" وكلما سرنا سار معنا العذاب، صرنا على موعد مع القهر، فجأة أصبحنا بلا مأوى، بلا بيت نركن إليه، أين سأضع جسدي إذا ما شعرت بالنعاس؟
أين أركن حقيبتي المدرسية؟
كيف أتقي لسعة برد الفجر؟
كيف أُسكت ظمئي؟
لقد نسينا أخذ "طبلية" الطعام التي تجمعنا على العشاء كل ليلة!! فهل سنجتمع على العشاء من جديد؟
"هل سيكون عشاء بعد الآن!!!" (خلود ص 28)
(عدنا إلى الملجأ، وهو عبارة عن إسطبل تقاسمناه مع حمير وبغال الحاج عطوان، يحمينا من القصف والدمار.. كان معتماً، قذراً، لم تغادره رائحة الروث رغم محاولات تنظيفه المتكررة، يقع تحت منازل الحي في حوش الغزلان، داخل دهليز معتم، لا يبعد كثيراً عن فُرن الحاج يِّتمْ، ومنزل "الست أُميلا" (الداية) التي ولَّدت معظم نساء الحي والأحياء الأخرى في البلدة القديمة، بل إن سمعتها وصلت إلى خارج المدينة...
للملجأ بوابة واحدة، ضخمة، أرضيته من التراب المشبع بالبرودة، وجدرانه عارية، تبرز حجارته من كل جانب، بعضها صغير بحجم حبة جوز الهند، وبعضها ضخم كتلك التي بني منها سور القدس، ولا توجد له منافذ أو فتحات...
اختلطت رائحة الروث الحادة برائحة الأنفاس، امتزجت مع الخوف، وانتظار المجهول الذي يقع تحت جلودنا الملتصقة بجدران الملجأ الباردة، كانت أعداد الأطفال كبيرة جدا يصارعون الجوع والعطش والحبس ببكائهم المتواصل، كان الرجال يتبرمون من بكائهم في البداية ولكنهم تعودوا عليه بعد ذلك، وكانت الأمهات تحاولن إلهائهم بأثداء فارغة من كل شيء ما عدا الخوف الممزوج بالحنان...
كان قبل كل انفجار يصدر صفيراً مرعباً يعقبه دعوات وصلوات، فنلتصق بأجساد أمهاتنا مرعوبين خائفين، وتهتزّ الجدران كمن يطوح بها، فيصفق الباب معلناً سقوط قذيفة أخرى في مكان ما...تمتمات وأدعية وخشوع وخوف، وانتظار... انتظار صفير آخر...وموت آخر...وألم آخر." (خلود ص21)
وتظهر الرواية النزعة القومية والتمسك بعرى العروبة، فهاهو الراوي يصف لحظة عثوره على علم أردني مدفون:
" كان مدفونا تحت التراب ولم يظهر منه إلا طرفه، أخذت أزيل عنه التراب تارة وأسحبه تارة أخرى، كان العرق يسيل من رأسي، وأخذ قلبي يزداد خفقانا، ودارت في رأسي الأحلام، وارتسمت على هامتي مراسم الكبرياء والأنفة...
أخيرا استطعت إخراجه، طويته وخبأته تحت قميصي، وتركت المكان مسرعا إلى البيت، دخلت غرفتي غلّقت بابها خلفي... فرشته فوق السرير، كان علماً أردنيا، أخذت أزيل النجمة السباعية البيضاء التي تتوسط اللون الأحمر حتى حررته للمرة الثانية هذا اليوم. ابتسمت وأنا أنظر إليه فخيل إلي انه يريد عناقي فابتسمت له ابتسامة عريضة، غسلته من آثار الماضي، ثم وضعته داخل كيس من النايلون وأودعته المزراب." (رواية خلود ص 56)
وتبيِّن الرواية حالة التجذُّر في الوطن وتحمّل الاعتقال والسجن والضرب والتنكيل، ويصور ذلك الحوار الذي جرى في عمان بين كل من الراوي وليلى:
الراوي: "- نعم، ولكن ما قيمة الإنسان بدون وطن؟
ليلى: - كم مدة الاعتقال التي تتوقعها؟
- لا أعرف، ربما سنة أو سنتين .
- إذا كان الأمر كذلك فلا مانع عندي من أن نعود، ولكن إذا كنت ستقضي سنوات طويلة في المعتقل فالأحسن أن نبقى هنا في عمان، حيث لنا أصدقاء وأهل، وعملك جيد ومكسبه ممتاز.
- ولكن هناك القدس مسقط رأسي وأهلي وعزوتي، وبيتي، وحارتي وجيراني، هناك أستطيع ملء رئتيّ هواءً نقيا، تطيب له نفسي وتطمئن له إرادتي، هناك الناس الذين يفهمون لغتي وأفهم أنا لغتهم، هناك ذكرياتي المحفورة على كل ركن من أركانها.... - أجل، قلت لك ذلك كله، وما زلت عند رأيي، إلا أنني أحن كثيرا إلى القدس، وحاراتها وأزقتها، أتوق للجلوس تحت شجرة البيلسان الصامدة رغم العواصف والأعاصير التي تحيط بها من كل جانب، أشتاق لأحاديثها، ونسماتها، ورائحة عبيرها،لا يغادرني طيفها. (خلود ص 72)
وجاء على لسان الراوي:
"نعم، لي دور، وعلي القيام به، أنا عازف منفرد، لا يمكن أن أعزف بمصاحبة آخرين، لأن النغم يصبح نشازا، لأنهم لا يتقنون قراءة "النوتة" الموسيقية التي ألفتها لحظة هدوء مع النفس، ألفتها لتعزف من قبل عازف واحد، وهذا أنا، أعزفها ويطرب على نغمها الشهداء، هم وحدهم الذين يستطيعون الغناء، وأنا أعزف لهم تلك النغمة التي يبتسم لها التراب المقدس، نحن وهذا التراب امتزجنا امتزاجا عضويا، هو موجود إذا أنا الإنسان موجود، وهو مسلوب إذا أنا الإنسان مسلوب الإرادة والمكان...هذا طريق اخترته، وتركت كل المفارق، والتحويلات، والمؤتمرات، والجماعات، لأنني تعبت من كل الانتكاسات، والمؤامرات، لا أحب المفاجآت، هنا، أنا أقرر...( خلود187)
وتبرز رواية خلود التضحية والفداء من أجل تحرير الوطن والإنسان، ففي الحوار الذي جرى بين ليلى وبين الراوي في عمان والراوي والذي يظهر جزءاً قليلاً من هذه التضحية:
وجاء على لسان الراوي "دعينا لا نتنكر لمن ذهبوا، ولمن صاروا أوتادا في عمق ترابه، عبد الله، وسعيد، ومحمود الذي كان بطلا بكل معنى الكلمة، أذكر تماما عندما رأينا صورة لينا النابلسي على الصفحة الأولى لجريدة القدس، كانت جميلة جدا لم تنه الصف العاشر بعد، كانت ما تزال بزيها المدرسي المخطط باللونين الأبيض والأخضر، وها هي تُلف بالأربعة ألوان بعد أن قتلها جندي صهيوني أمام مدرستها بدم بارد، غلت الدماء في وجوهنا وعقولنا واشتعلنا غضبا وحزنا، استطعنا تجميع عدداً من الشباب والبنات وصنعنا لافتات عليها شعارات تندد بجرائم الاحتلال الصهيوني، تعبيراً عن استيائنا ورفضنا لكل أشكال القمع اليومي للاحتلال، خرجنا من الحرم الشريف قرابة الساعة التاسعة والربع صباح يوم الثلاثاء الثامن عشر من أيار لعام ستة وسبعين، مررنا عبر سوق القطانين صعودا إلى سوق خان الزيت عبر عقبة الخالدية ومن ثم عقبة السرايا فالقيرمي وعندما وصلنا إلى مفترق سوق العطارين وخان الزيت والدباغة؛ فوجئنا بمجموعة من جنود العدو، لا تزيد عن أربعة جنود، أخذوا بإطلاق الرصاص علينا دون سابق إنذار، فشاهدت صديقي محموداً قد سقط على الأرض، لم أدرك في البداية أنه تلقى رصاصة قاتلة في جبينه من الجهة اليسرى، حاولت مساعدته أنا ومن كان بجانبي وعندما وضعت يدي تحت رأسه كان دمه ساخناً وينزف بشدة، أٌحضر باب خشبي، وضعنا الجريح فوقه وطرنا به إلى مستشفى "الهوسبيس" في شارع الواد، كل ذلك ولم تصل الساعة العاشرة، أُعطي الجريح الدم اللازم، حاول الأطباء إنقاذه بكل السبل، خمس ساعات وهو بين الحياة والموت، إلى أن فارق الحياة في الساعة الواحدة ظهراً، فبكته كل العيون، وبكته السماء بأمطار غير معهودة بمثل هذا الوقت من شهر أيار، وبكته الأشجار، وبكته الأقدار وبكته حجارة المدينة، وسورها، وترابها، طيورها..(خلود ص78،77 )
ومن المضامين التي تحملها رواية خلود تعريف العالم بقضيتنا ونزاهتنا، وجاء على لسان الراوي وهو يتحدث مع السائحين الأجانب وقد غررتهم الدعاية الصهيونية وخدعت بصيرتهم:
"كنت أحدثهم عن المعاناة التي نشعر بها نحن أصحاب الأرض الشرعيين، كنت أدعو بعضهم إلى بيتي ومقابلة عائلتي حتى يتعرفوا عن قرب على حياتنا، وبأننا شعب يريد أن يحيا بكرامة على أرضه، يريد أن يقرر مصيره بنفسه دون وصاية من أحد كبقية البشر، نريد هوية ووطن" (خلود ص 97- 98 )
ومن المضامين الأخرى في الرواية التعريف بالإسلام في تايلند وتمسك المسلمين بعرى دينهم رغم كونهم في بحر طاغٍ من الكفر والإلحاد، وتبيان نظافة أهلها:
"- إن جميع أسماء الذكور نسميهم "عبد الله"، واسم آخر تايلندي يتبعه، فاسمي أنا هو" عبد الله ميناس". (خلود 116)
"لقد حافظت الجالية الإسلامية على مبادئها السامية في جو مسموم بالإباحية والرذيلة، وذلك بالإرادة والإيمان الحق، ونحن هنا في بلادنا العربية نستطيع اخذ الدروس والعبر من تلك الشعوب الفقيرة بأن نحذو حذوها وأن نتمسك بقيمنا العربية الإسلامية النبيلة، بدءا بأسرتنا الصغيرة وصولا إلى المجتمع بأسره..." (خلود 123)
التنبيه من بعض من يسمح لهم بدخول البيوت من الأقارب وتبيان مدى خطرهم ويمثل ذلك في الرواية عم خلود وهو والد زوجها بالتحرش الجنسي بخلود." (ينظر: خلود ص 144)
وتبيِّن الرواية شظف العيش والفصل العنصري ومنع العرب من دخول القدس، فها هو مصطفى بن خال الراوي لا يستطيع دخول القدس وزيارته:
" فقد كان يخاف "مصطفى" أن يمسكه جنود الاحتلال داخل القدس دون تصريح ويعرض نفسه للاعتقال، عكس خالي الذي كان يحاول الدخول إلى القدس عبر الطرق الجبلية والوعرة التي اخترعها العمال المطّريين للدخول لطلب الرزق." (خلود 152)
كما تظهر الرواية معاناة المرضى وحاجة مستشفيات الضفة للأجهزة الطبية، فابن خال الراوي مصطفى متخوف من إجراء عملية ورم خلف أذنه في مستشفى رام الله، فيقول والده:
" - لا توجد الإمكانات الفنية في مستشفيات الضفة لإجراء مثل هذه العملية، لأن الورم قريب جدا من مركز الدماغ ويخشى من التسبب بالشلل-لا قدر الله- إذا حدث أي خطأ، وأضاف: إن المكان الوحيد الذي تتوفر فيه مثل هذه الإمكانات هو مستشفى هداسا، ولكن هيهات هيهات، فلا يتوفر لدينا المال ولا التصريح لعبور القدس. ..." (خلود157)
وتهدف الرواية ضمن ما تهدف خلق حالة تماسك بين العرب وتقوية عرى المحبة والألفة فيما بينهم، وجاء على لسان الراوي:
"بنيت جسور الثقة مع الناس، لمست احتياجاتهم الحقيقية، صنعت لهم نبراسا، يضيئون به ظلام واقعهم الصعب، ورسمت لهم الطريق للوصول إليه، آمنوا بي وبأحلامي الكبيرة، وساروا معي بخطى ثابتة، تجمعنا المحبة والهدف، وزرعنا حقول القدس ببذور الأمل التي تعمقت جذورها هناك داخل الصخر المرمري، زرعت الإنسان على أرضه، جنبا إلى جنب مع أحلامه النرجسية، وكان مع كل نبتة تعانق تربتها الطاهرة، تسكن الطمأنينة، ويزداد الأمل إشراقا، وأنا مع كل هذا، أرتقي نحو المجد ارتقاءً." (خلود 186،187)
ومن المضامين التي تتضمنها رواية خلود تزييف التاريخ وسرقة الموروث الثقافي وتغيير اليهود لأسماء أماكن القدس وفلسطين بقصد سرقة وانتحال تاريخها والاستحواذ عليها:
"هم يغيرون أسماء الشوارع، صار الواد "حاجاي" والمصرارة "نفئيم" والشيخ جراح "هار هتسوفيم" وحارة الشرف "حارة اليهود"، والقدس، كل القدس صار اسمها "أورشليم"..(خلود ص 187)
وتغرس الرواية في نفس المتلقي جوانب اجتماعية مهمة، فتهمس في روح الزوج بأن يعامل زوجته برفق، وأن يسمعها عذب الحديث ويحترم مشاعرها وأحاسيسها، فخلود تهرب من بيت زوجها لجهله في معرفة مشاعر المرأة وأحاسيسها الرقيقة، كما تحذِّر الرواية من أقرباء الزوج، فبعضهم يستغل حرمة البيت ولا يحسن احترام ذوي القربى، فوالد زوج خلود حاول جاهدا نهش عرض زوجة ابنه خلود".
والكثير من النساء يمقتن أزواجهن ويطالبن بالانفصال بسبب جهل الرجل في إسماع المرأة كلمة عذبة تحسسها بذاتها وكيانها "إنه هو(الزوج) من حرمني من كل شيء جميل في هذه الحياة، إنني لم أسمع منه جملة واحدة تعبر عن إنسانيتي ... فهو يعتبرني "جاريته"، له الأمر وعليّ الطاعة العمياء، لا حقوق لي عليه، فهو إن أطعمني، يمُنّ عليّ، وإن ألبسني، يمُنّ عليّ ،أنا في نظره "جارية" لا حقوق لها، مجردة من الأحاسيس والمشاعر الإنسانية، أعيش فقط لخدمته وتلبية مطالبه.." (خلود 137)
وتقول: "هو(زوجها) يختلف عن الرجال، لا يتحدث إلا إذا طلب منه الحديث، فلا رأي له بين الرجال، ولا دور يقوم به في حياتنا إنه سلبي لأبعد حدود، الجميع هنا صغير كان أم كبير، يسيطرون عليه، فلا يقدر عن الدفاع عن حقه، يتعدون عليَّ أمامه ولا يجرؤ على الدفاع عني، يتهجمون علينا فلا يبادر بالدفاع عن حقوقنا أمام الجيران أو أمام أخيه، المتسلط، لقد مللت هذه الحياة، أنا أموت عشرات المرات كل يوم" (خلود 139)
ومن مضامين الرواية ورود بعض الحكم والإفادة من الموروث الثقافي:
" فعندما يتحكم بنا الخوف؛ يشل جهازنا العصبي، فلا نستطيع الحراك أو التفكير بصورة سليمة، حتى بصيرتنا يصيبها العقم، ويبرد الجسد ليصبح كجثة هامدة" (خلود ص 167) ومن الأمثلة في الرواية: "وفاقد الشيء لا يعطيه."( خلود 181)
ولعل أهم المضامين التي احتفلت بها الرواية العناية بالتركيز على القدس وحاراتها وأزقتها وذكر مدارسها وأهم معابدها الدينية إسلامية ومسيحية، منها:
"المدينة (القدس)، حوش الغزلان، وحوش الشاي، فُرن الحاج يِّتمْ، ومنزل "الست أُميلا، والأحياء الأخرى في البلدة القديمة، باب السلسلة، سوق العطّارين، مقهى باب السلسلة، الحرم، خان السلطان، ساحة الخان، مخبز درجة الطابونة، مفترق حارة الشرف وسوق الباشورة وسوق الخواجات، محل "أبو أيوب" ، ومدخل الحي، سوق خان الزيت، الحوانيت المغلقة، طريق عقبة التكية، عقبة المفتي ،بيت المفتي، حجارة البيت، المفتي الشاب، دير ياسين. طريق الآلام، العيزرية، باب العامود، باب الأسباط، المقبرة اليوسفية، السور، باب الساهرة، مسجد الشوربجي، باتجاه شارع الواد، المدرسة، سوق خان الزيت، المدرسة العمرية، المسجد الأقصى، منزل بحارة السعدية، قبة الصخرة، منزل الراوي بحارة السعدية، بيت صفافا، مكتبة العمرية، والمساجد والمدارس، ومدرسة القادسية، الأزقة العتيقة، مدن وقرى ومخيمات فلسطين، ملعب الروضة، شارع الزهرة، شارع صلاح الدين، شارع السلطان سليمان، مدرسة الرشيدية، سوق الجمعة، البلدة القديمة، المدرسة البكرية، باب الملك فيصل، باب الغوانمة، زقاق الزاوية النقشبندية، بيت أم سعيد،مستشفى الهوسبيس، عقبة الخالدية، عقبة السرايا، القيرمي، المدرسة الميلوية في عقبة الميلوية، المشفى، ساحات المدرسة العمرية، كنيسة الفرنسيسكان المجاورة للمدرسة، الكنيسة الأرمنية، كنيسة صغيرة جهة شارع الواد، كنيسة تسمى فيرونيكا، عقبة المفتي، دير يوناني على اليسار في أول عقبة الخانقة ويدعى دير "خرلمبوس، عقبة الخانقاة، وحارة النصارى وكنيسة القيامة. وإحدى مدارس القدس الابتدائية، وساحات للرياضة والنشاطات، ومكتب مدير التربية، وشارع نابلس، ومستشفى رام الله، وحاجز الرام العسكري، والمركز الصحي، وغرفة مكتب دكتور العائلة، ومستشفى هداسا، وعين كارم".
اللغة
والراوي المتمكن يحسن توظيف لغة الأدب، اللغة الواضحة لدى المتلقي، وما فيها من تشبيهات واستعارات ومجازات وانزياح ومن ضروب علم البديع، فاللغة هي التي تصوغ الاستعارة والرمز والتَّشبيه، وتبدع الصورة الفنية، إنَّ " التعبير بالصورة هو الخاصية الأساسية منذ تكلم الإنسان البدائي شعراً، واللغة هي التي تفتح لنا العالم، لأنها وحدها التي تعطينا إمكان الإقامة بالقرب من موجود منفتح من قبل... وكل ما هو كائن لا يمكن أن يكون إلا في (معبد اللغة)... اللغة تقول الوجود، كما يقول القاضي القانون. واللغة الصحيحة هي خصوصاً تلك التي ينطق بها الأديب، بكلامه الحافل. أما الكلام الزائف فهو كلام المحادثات اليومية. إن هذا الكلام سقوط، وانهيار.(22)
ينظر: الصورة والبناء الشعري، د. محمد حسن عبد الله، ص 12، دار المعارف – القاهرة، 1981 م
1.التشبيه:
يستخدم الأديب التشبيه أحيانا للتجسيم وتصوير الفكرة وبيانها وتوضيحها، وذلك عندما يكون المشبه مجردا؛ أو قد يكون القصد التعبير عن الانفعال، وتوليد الانفعال في المتلقي، وربما كانت هذه هي الصفة الأساسية للتشبيه في الأدب،
ويستخدم الزينة والزخرفة؛ ويقع هذا عندما يعنى الأديب بالشكل بطريقة غير متكلفة؛ وتكون غاية التشبيه أن يسهم في خلق الإيقاع الشعري، وليس الغاية إظهار البراعة اللفظية، وقد نظر البلاغيون العرب إلى التشبيه "بوصفه الأسلوب الذي لا تستطيع البلاغة أن تستغني عنه، حتى إن بعضا من هؤلاء رفعه إلى مكانة سامقة، معتبرا إياه من أشرف أنواع البلاغة، وأنه ينهض برهانا على مقدرة الشاعر الإبداعية وفطنته العقلية"(23)
البلاغية في البلاغة العربية، سمير أبو حدان، ص151، منشورات عويدات، بيروت، لبنان، ط 1، 1991
التشبيه المفرد
أ‌. التشبه المرسل المجمل، وهو ما ذكرت فيه أداة التشبه وحذف منه وجه الشبه:
" فالموت مثل النوم" (خلود ص51 ) : شبه الراوي الموت بالنوم بجامع عدم اليقظة في كل.
"شعرها أحمر كالياقوت" (خلود ص62 ) : شبه الراوي حمرة شعر المحبوبة بلون الياقوت.
"هي امرأة ليست كباقي النساء، مرت علي كنسمة"" (خلود ص 63) : شبه الراوي مرور هذه المرأة بهبة النسيم في الخفة.
"وقُبَل بطعم الشهد" (خلود ص 62) : شبه الكاتب مذاق تقبيل المحبوبة بمذاق الشهد والعسل.
وما سبق كله من التشبيه المرسل المجمل.
ب‌. التشبيه البليغ: وهو ما حذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه:
"مرت علي كنسمة، فراشة حطت على كتفي فشيدت قصورها في أوعيتي"(خلود ص 63) :
شبه الكاتب المرأة بالفراشة بالخفة والرشاقة والجمال.
"شفتاها كحبتي فراولة ناضجة" (خلود ص 10): شبه الكاتب شفتي المحبوبة بحبتي فراولة ناضجتين.
1. الاستعارة
وكاتبنا يتقن فن توظيف الاستعارة، فالاستعارة تحلّقُ بك في عالم الخيال، وتعرض عليك أشكالاً من الصور البيانية الرائعة، وتسبح في بحر الألفاظ، وتنتقل سريعًا من المعنى الحقيقي للفظ المستعار،وتكسب اللفظ حلاوة وجمالا ورونقا.
أ‌. الاستعارة المكنية: وهي التي ذُكر فيها المشبه وحُذف منها المشبه به:
"عانقني صوتها" : شبه الكاتب صوت المحبوبة بإنسان يُعانِق"
"وتتعانق الآلام" (خلود ص 28): شبه الكاتب الآلام بإنسان يٌعانِق.
"أذابني همسها" : شبه الكاتب همس المحبوبة بشيء يُذيب كما الماء.
"طوقتني أنفاسها" : شبه الكاتب أنفاس المحبوبة بكائن حي يُطوّق.
"جسدها الغض، الذي تكاد الأرض لا تحمل سواه، كان يهتز لها قلبي ويرقص طربا، صادقت طيفها، أودعته كل أسراري (خلود ص 10)
شبه الكاتب القلب بإنسان يهتز ويرقص طربا، كما شبه طيف المحبوبة بإنسان يُصادَق. استعارة مكنية في كل.
"حجارة البيت في مكانها تشهد على خطط وأفكار وأحلام المفتي الشاب": شبه الكاتب حجارة البيت بشاهد يشهد.
"فمع كل خطوة من خطواتنا سار الألم مكشراً عن أنيابه" (خلود ص 28) : شبه الكاتب الألم بوحش مفترس وله أنياب.
"يجرنا خلفه كتلا يمزقها القلق، ....وعقولنا تثرثر بأفكار متضاربة" خلود ص 29) : شبه الراوي القلق بكائن حي يمزِّق، وشبه العقول بإنسان يتحدث ويثرثر.
"طارت أمي فرحاً" (خلود ص 43) : شبه الراوي الأم بطائر.
"فابتسم له الحظ لأول مرة" (خلود 46) و"شعرت بأن الحياة تبتسم من جديد. (خلود ص 11): شبه الراوي الحظ بإنسان يبتسم، كما شبه أيضا الحياة بإنسان يبتسم هو الآخر.
عانقني صوتها بنبرته الشفافة" (خلود ص126) : شبه الكاتب الصوت بإنسان يُعانِق.
ب‌. الاستعارة التصريحية: وهي ما حُذف منها المشبه وصُرح فيها المشبه به:
"جسدها الغض...أودعته كل أسراري (ص 10) : شبه الكاتب بثّ الشوق بالإيداع.
"فإنني لا أعرف كيف أعبر ما تبقى لي من مساءات وحيدا، أحلق فيها مع نسمات طيفك الخجولة " (خلود 126) :
شبه الكاتب التفكير بمساءات المحبوبة بالتحليق.
"لدى والدي إحساس عميق وشفاف بالكلمة، يستطيع اقتناص الأخطاء اقتناصاً"(خلود 52) :شبه الكاتب كشف الأخطاء بالاقتناص.
"أخذ جسدها يثور، يتحفز لجولة أخرى" (خلود ص 62) : شبه الكاتب انفعال المحبوبة مع الحبيب بالثورة.
"تسللت خفقاتها عبر أوعيتي واستقرت في عمق وجداني" (خلود ص 126) : شبه الكاتب وصول إحساس المحبوبة والتأثر بالحبيب بالتسلل بجامع الوصول في كل.
طربت على تعابيرها الملتهبة التي أذابت خلايا جسدي" (خلود ص 126) : شبه الكاتب الأثر الذي أحدثته المحبوبة في نفس الحبيب بالطرب، وشبه الأثر الذي أحدثته المحبوبة في خلايا جسده بالإذابة. وكل ما سبق استعارة تصريحية.
الكناية
خرجنا من حوش الشاي عبر حوش الغزلان ...لأول مرة هو غير موجود، مقهى باب السلسلة مغلقا، لا دخان سجائر، لا أصوات لحجارة النرد ولا حجارة تطرق بنشوة" (خلود ص 26، 27): كناية عن خلو المقهى من مرتاديه.
"فاكتسب وجهي لونه الوردي". (خلود 126) : كناية عن الخجل.
امتزجت في دمي واستقرت تحت جلدي" (خلود 126) : كناية عن الامتزاج والتوحُّد.
وأودعتك مفاتيح قلبي ذاك المساء" (خلود 126) : كناية عن ثقة الكاتب بالمحبوبة وإعلانه حبه لها.
"هي امرأة ليست كباقي النساء، مرت علي كنسمة"" (خلود ص 63) : كناية عن تمايز هذه المرأة عن باقي النساء.
"وجلست قربي حتى لم يعد يفصلني عنها شيء" : كناية عن التصاق الحبيبين.
"حتى وصلنا إلى سوق خان الزيت، كانت رائحة التوابل هي هي، تفصح عن نفسها تتسلل من خلف أبواب الحوانيت المغلقة، تصرخ معلنة عن رفضها الغرباء" :كناية عن رفض الفلسطينيين للمحتل.
"لم يعد هناك لغة غير لغة الجسد " (خلود ص 62) : كناية عن انغماس كل من الحبيين في النشوة.
"ليلة واحدة، وسرير، ونشوة حمراء، وبعض حديث، وآهات ليست بتلك البراءة، وحبات عرق امتزجت مع شهوة طرية" (خلود ص 63): كناية عن ممارسة الجنس.
"فامتزجت مع أنفاسي وأحلامي وعشقي" : كناية عن امتزاج الحبيبين وتوحُّدُهما.
المجاز المرسل:
"التواقة للمس أناملك المعروقة... " (خلود ص 126) و"غرزت أناملها الطرية في جسدي" (خلود ص 62) : ذكر الراوي الأنامل "الجزء" وأراد بها الأصابع "الكل". مجاز مرسل علاقته الجزئية في كل.
"أسرتني بسحر بيانها وتألق حروفها" (خلود ص 126) ذكر الراوي الحروف "الجزء" وأراد بها الكلام "الكل". مجاز مرسل علاقته الجزئية.
"وأن آخذ فرصة ثانية في إثبات إخلاصي وانتمائي لهذا المكان" (خلود ص 67) : ذكر الكاتب "المكان" وأراد من فيه، مجاز مرسل علاقته المكانية.
" ألسنتنا صامتة، وقلوبنا تتحرك متثاقلة" :ذكر الكاتب اللسان وهو آلة الكلام، مجاز مرسل علاقته الآلية أو الجزئية.
علم البديع
1. الطباق
"مرت سنة، وأنا على هذا الحال؛ بيع وشراء، ودموع وحزن. (خلود ص 42) : طابق الكاتب بين كل من "بيع" و"شراء" .
"كنت احلم بالمدرسة أثناء نومي ويقظتي".(خلود ص 42) : طابق الكاتب بين كل من "نومي" و"يقظتي" .
" فلم اعد أميز بين دموع الضحك ودموع البكاء" : طابق الكاتب بين كل من "دموع الضحك " و"ودموع البكاء " .
كان يخدم الغريب قبل القريب " (خلود 162) :طابق الكاتب بين كل من "الغريب" و"القريب"، وهما أيضا جناس غير تام.
"لا علاقة هنا بين الشجاعة والجبن" (خلود 166) :طابق الكاتب بين كل من "الشجاعة" و"الجبن"
"لقد كانت الحرب نقمة على الناس والشجر والحجر والطير والماء والسماء والأرض" (خلود ص46) :طابق الكاتب بين كل من "السماء" و"الأرض"
الجناس
"لقد كانت الحرب نقمة على الناس والشجر والحجر" (خلود ص46) :جانس الكاتب بين كل من "الشجر" و"الحجر"، جناس غير تام.
كان يخدم الغريب قبل القريب " (خلود 162) : جانس الكاتب بين كل من "الغريب " و"القريب" ،جناس غير تام.
الترادف:
"فقد كانت نعمة ورخاء" (خلود ص 46) : الترادف بين كل من "نعمة" و"رخاء"
التقسيم:
"وكيف يعودون عبر مياه نهر الأردن، فمنهم من يموت غرقاً، ومنهم من يموت برصاص اليهود ومنهم من ينتزع حياته لغم زرعه مجرم، ومنهم من يموت حسرة..." (خلود ص46) : قسّم الكاتب أنواع موت من يعود من الفلسطينيين عبر نهر الأردن بأربعة أقسام لا خامس لها: الموت غرقا، أو الموت برصاص اليهود، أو الموت بانفجار لغم، أو الموت حسرة.
الانزياح
تعد ظاهرة الانزياح من الظواهر المهمة، وبخاصة في الدراسات الأسلوبية الحديثة، التي تدرس النص الشعري على أنه لغة مخالفة للمألوف العادي. (24)
ظاهرة الانزياح الأسلوبي، صالح شتيوي ص83، مجلة جامعة دمشق المجلد 21، العدد (3 4) 2005
"فالأدب يوجد بقدر ما ينجح في قول ما لا تستطيع اللغة العادية أن تقوله، ولو كان يعني ما تعنيه اللغة العادية لم يكن مبرر لوجوده" (25)
نظرية البنائية في النقد الأدبي، فضل، صلاح، ص 316، مكتبة الأنجلو المصرية القاهرة 1978.
والانزياح أو الانحراف عن المعيار من أهم الظواهر التي تميز اللغة الشعرية عن السردية مع منحها شرف الشعر وخصوصيته. فإن هذا النوع من الانزياح يتسم ببعض السمات المصاحبة له كالابتكار والجدة والنضارة والإثارة.
ومن أنواع الانزياح في الرواية:
أ.الانزياح الإضافي:
ويتمثَّل في المفاجئة التي ينتجها حصول اللامنتظر من خلال المنتظر؛ أي أن يتوقع المتلقي مضافاً إليه يتلاءم والمضاف. وبتوفره، يصبح لدينا انزياح إضافي شعري بحت.
"وكلما سرنا سار معنا العذاب، صرنا على موعد مع القهر" (خلود 28.) فعندما يسمع المتلقي عبارة "موعد مع" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "الصديق" لكنه يتفاجأ بحصول اللامنتظر ووجود كلمة "القهر" وهذا انزياح إضافي بحت.
"لم يعد هناك لغة غير لغة الجسد" (خلود ص 62) : وعندما يسمع المتلقي كلمة "لغة" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "القوم"، لكنه يتفاجأ بحصول اللامنتظر ووجود كلمة "الجسد" وهذا انزياح إضافي.
" جفت الكلمات" (خلود ص 62) :وعندما يسمع المتلقي كلمة "جفّتت" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "البحيرة" ، لكنه يتفاجأ بوجود كلمة "الكلمات".0.
"وآهات تذيب الصخر" (خلود ص 61) : وعندما يسمع المتلقي كلمة "آهات" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "الروح" لكنه يتفاجأ بوجود كلمة "تذيب الصخر".
"فيختل توازن الروح ويتبعثر بقايا الرماد..." (خلود 126) : وعندما يسمع المتلقي كلمة "توازن" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "الجسم" لكنه يتفاجأ بوجود كلمة "الروح"،، وعندما يسمع المتلقي كلمة "بقايا" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "الورد" لكنه يتفاجأ بوجود كلمة "الرماد".
نغوص معا في يمّ النشوة القرمزية، تدغدغني ذبذبات جسد يكسر بثورته أمواج العشق المتدفق، رغبة تصارع الإرادة أيتها الدوحة الباسقة فروعها، الممتدة إلى متاهات النفس" (خلود 126) :وعندما يسمع المتلقي كلمة النشوة" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "العذبة" لكنه يتفاجأ بوجود كلمة "القرمزية"، وعندما يسمع المتلقي كلمة "ذبذبات" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "الصوت" لكنه يتفاجأ بوجود كلمة "جسد"،،و
وتظهر خصيصة تبادل معطيات الحواس على طريقة الرمزيين في عبارة: "شفتاها ورديتان برائحة المسك والعنبر" (خلود ص 62) فالشفتان الورديتان تخضعان لحاسة البصر، لكن الراوي أخضعهما لحاسة الشم وهي الرائحة على طريقة الرمزيين، وهنا أيضا انزياح إضافي: وعندما يسمع المتلقي عبارة "شفتاها ورديتان" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "كالعناب" لكنه يتفاجأ بوجود كلمة "برائحة".
ب.الانزياح التركيبي
وهو مخالفة التراتبية المألوفة في النظام الجملي. من خلال بعض الانزياحات المسموح بها في الإطار اللغوي، كالتقديم والتأخير في بعض بنى النص، كتقديم الخبر على مبتدئه. أو الفاعل على الفعل أو النتيجة على السبب. كذلك الحذف الفني الذي يستغني عن بعض البنى والمفردات سعياً وراء التلميح لا التصريح، الذي هو أبلغ أثراً وأعمق دلالة. كذلك حذف بعض الكلمات والاستغناء عنها ببعض النقاط كدلالة مسكوتة عنها، ومنه في الرواية:
"فقد تاهت منها الضحكات" (خلود ص 43) : تقدمت شبه الجملة "منها" وحقها التأخير، على الفاعل "الضحكات" وحقه التقديم.
"في عينيها سحر آسر" (خلود ص 62) : تقدمت شبه الجملة "في عينيها" وهو خبر، وحقها التأخير، على المبتدأ "سحر آسر" وحقه التقديم.
"الذي كانت تفيض منه رائحة اللوز. " (خلود ص 62) : تقدمت شبه الجملة"منه" وحقها التأخير، على الفاعل "رائحة اللوز" وحقه التقديم.
"ومستقبلي الذي بنت عليه عائلتي كل آمالها. " (خلود ص 67) : تقدمت شبه الجملة "عليه" وحقها التأخير، على كل من الفاعل "عائلتي" والمفعول به "كلّ آمالها" وحقهما التقديم.
"ألم أسلمك في تلك الليلة زمام قلبي؟" (خلود 128) : تقدمت شبه الجملة "في تلك الليلة" وحقها التأخير، على المفعول به الثاني "زمام قلبي" وحقه التقديم.
ج. الانزياح بالحذف
ولكن من أين...؟ من أين أعرفها...؟" (خلود 127)
ففي الجملة الأولى "ولكن من أين؟" انزياح بالحذف والتقدير: من أين أعرفها؟، وقد أوضحنا سابقا أن في عنوان الرواية "خلود" انزياح بالحذف أيضا.
التضمين واستخدام الموروث الثقافي:
والتراث أحد أوجه الجمال الإبداعي عند الكتّاب المبدعين في رصيد الإنسانية؛ ولذلك كان المهم التعرف على قدرة الشاعر في استلهام التراث وتمثله في الصياغة والتعبير، وتوظيف مرجعياته المعرفية في خدمة النص، توظيفا لا يجهل روح الأمة ونبضها وأبعاد التجربة الإنسانية بما تمتلكه من عمق وقدرة خلاقة أثبتتها عصور التراث، وبما يبعث في روح الأديب المعاصر مهارة تطويع المصادر التراثية والمعرفية لخدمة التجربة الشعرية الأدبية للتعبير عن رؤى الشاعر للحضارة وفهمه لأسرار الحياة.
ومن ذلك ما تقوله خلود لوالدتها عندما قررت الانفصال عن زوجها: "- " لا ُيصلح العطار ما أفسده الدهر" يا أمي..." (خلود ص 138)
اللغة الدارجة:
استخدم الراوي أحيانا اللغة الدارجة التي تناسب الشخصية، ومن ذلك:
"ماذا تقولين؟ هذا بيتك وإذا ما شالتك الأرض، تشيلك عيوننا." (خلود ص 182)
ويختتم الراوي روايته بقوله: ""شفت كيف الأرض كريمة’"؟ (خلود 188)
و"كنت أعدو والجنود خلفي، والناس تصرخ قائلة: أرميه أرميه، وأنا أعدو بأسرع ما أستطيع".
الحبكة
وهذا كله يشير إلى أن بناء الشخصية الروائية عمل متكامل تُقاس جودته بالتحام عناصره وقدرتها على الدلالة، ولا تُقاس بأهميتها الفكرية المجردة أو بمحاكاتها شيئاً في الواقع الخارجي. وقد بُنِيت الشخصية الروائية عند سمير الجندي في روايته "خلود" على هذا النحو من الالتحام، من المعلومات المبعثرة عن المظهر الخارجي والصفات إلى التدرُّج في اختبار مصداقية الصفات لبيان ثباتها قبل تحوُّلها بفعل حدث خارجي كبير.
توظيف تقنية الجزئيّات بين الصُّور والوصف:
الوصف في المصطلح الأدبي هو" تصوير العالم الخارجي أو العالم الداخلي من خلال الألفاظ، والعبارات، وتقوم فيه التشابيه والاستعارات مقام الألوان لدى الرسام والنغم لدى الموسيقي"(26).
المعجم الأدبي، الدكتور جبور عبد النور، ص293، دار العلم للملايين، الطبعة الثانية 1984
وينظر: الفضاء في روايات عبد الله عيسى السلامة، م. بان صلاح الدين محمد حمدي، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية، المجلد ١١، العدد ١، كلية التربية للبنات، جامعة الموصل، 2011.

ووظيفة الوصف هي خلق البيئة التي تجري أحداث القصة فيها وتكوين نسيجها، ولا يحق للقاص أن يتخذ من الوصف مادة للزينة وإنما يوظفه في تأدية دور ما في بناء الحدث. ومن المتفق عليه أن على الكاتب أن يقدّم الأشياء الموصوفة، ليس كما يراها هو، بل كما تراها شخصياته. و" أن تكون اللغة قريبة من لغة الشخصية، لكي تحقق شيئاً من المنطقية الفنية، لأن الشخصية هي التي ترى الشيء وتصفه وتتأثر به"(27).
معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مجدي وهبة وكامل المهندس. مكتبة لبنان. بيروت. ط.2. 1984.
ولكنّ لغة روايته التي نهضت بالبناء الروائي تُقدِّم لنا آثاراً أخرى، أبرزها غزارة الصور والأوصاف والمبالغة فيهما، والعناية بالجزئيّات وتضخيم آثارها.
وسمير الجندي لم يكتف بسرد الحكايات، بل راح يوجِّه اهتمامه إلى الجزئيات الصغيرة مصورا الأمكنة التي تحيط بالبطل، فيشرع يصفها أو يُقدِّم صوراً لها، مبالغاً في الوصف أيَّ مبالغة، ومضخِّماً الآثار أيَّ تضخيم. أي أن الراوي في رواياته لم يتقمّص شخصية البطل المحوري فحسب، بل راح ليتحدَّث عمّا يُحيط به من جزئيات ماديّة، وما يعتمل في دخيلته من أفكار وأحاسيس، منطلقاً من الرغبة في توضيح الإطار الذي يتحرك فيه هذا البطل المحوري، سواء أكان هذا الإطار مادياً أم معنوياً. بل إن الراوي كان يبالغ في ذلك، فلا يكتفي بوصـف ما له تأثير في البطل، بل كان يصف ما يحيط به سواء أكان مرتبطاً به أم لم يكن. ومن ثَمَّ كبر حجم الحكاية، فغدت رواية (خلود) في ماية وتسع وسبعين صفحـة. فكاتبنا سمير الجندي بهذا استطاع أن يكون ذاك الوصَّاف الماهر والملاحظ الذكي في بناء روايته.
وأسلوب سمير الجندي أحيانا يحكمه الخيال لا الواقع الموضوعيّ للشيء الموصوف المصوَّر. ولهذا الخيال أثر واضح في الوصف كوصفه لخلود. من أجل خلق عنصر التشويق، فهو خيال خالق، يجعل الصغير كبيراً والأمر العادي عظيماً، يُجسِّم ويُشخِّص ويُضخِّم ويخلق علاقات جديدة بين الأشياء.
وإذا دقَّقنا في الجزئيات لاحظنا أنها غزيرة جداً، ولكنّ بنيتها تكاد تكون واحدة. فهي عناصر المكان وخاصة القدس وأحياؤها وأزقتها وحاراتها، ومدارسها، وأماكن العبادة كوصفه لضرب الآلام تفصيلا مسهبا، أو تصوير بعض معالم العالم الخارجيّ كتصويره لتايلند وبعض مدنها ورحلته البحرية هناك وتقاليد الناس وعاداتهم وتمسكهم بالدين ووصف حضارتهم وعمال النظافة وطبيعتها الخلابة. .(28)
ينظر الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل، ص214-218، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق - 2003
وقد ازدادت أهمية المكان في الرواية الحديثة, إذ بدأ بالتعبير عن استقلاله التام بوقوعه في الخارج, يؤطر الأشياء ويخضعها لسلطته . ومن أهم الأساليب التي مارسها الروائيون في تجسيد المكان ورسم ملامحه وأبعاده , أسلوب الوصف(29).
ينظر: الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا، إبراهيم جنداري، ص 175، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 2001م
تصوير ووصف لحظة اعتقال الراوي في رواية خلود، ومثاله:
" كانت الساعة الثانية صباحا عندما سمعت طرقا قويا أيقظ كل من في البيت، كما أيقظ معظم سكان الحي... ما أن فتح والدي الباب لمعرفة الطارق المزعج حتى اندفع الجنود وانتشروا في أرجاء البيت، أخذوا يسألون أبي عن أسماء أولاده، وما هي إلا لحظات حتى بدأ الطرق هذه المرة على باب غرفتي، كنت قد جهزت نفسي ارتديت (الجينز) ولبست ملابس ثقيلة رغم أننا في تموز، شعرت بالبرد يدب بين أوصالي، إنه ليس كبرد الشتاء ولكنه برد من نوع آخر، أخذوا يفتشون غرفتي ويقلبون أشيائي، ويصادرون أوراقي، وصوري ويكسرون رسوماتي، انكبوا على صورة "لينا النابلسي" يمزقونها بطريقة تدل على حقدهم من كل باحث عن الحرية والسلام، هم يخافون من السلام ويرتعدون عند ذكر الحق والعدل، لهم مفاهيمهم السادية الراسخة في عقولهم المتحجرة، فلا يتوانون عن ركل طفل ما زال في مهده لم يتجاوز عمره أيام قليلة، ويحتجزون شيخا طاعنا لا حول له ولا قوة، يصرخون بوجهه مهددين متوعدين مكشرين عن أنيابهم الزرق، أمام زوجته وأولاده.
أدركت من اللحظة الأولى بأنهم قادمون لاعتقالي فهيأت نفسي لذلك.
وضعوا رأسي داخل كيس من الكتان المقوى، عليه آثار معاناة، دماء ولعاب وثقوب بحجم حبة سمسم؛ وقيدوني بالسلاسل من خلف ظهري، مضوا بي مسرعين عبر حوش البسطامي، شعرت بعيون الجيران ترقب من خلف العتمة، وصلتني أنفاسهم ودعواتهم الدافئة، فتعرقت يداي وعادت لي شجاعتي وإيماني وإرادتي." (خلود ص86-87)
تصوير حاله في السجن:
" كانت سنة طويلة حُرمت فيها من كل الأشياء؛ وسادتي ورفيقتي وسريري وأوراقي ومكتبتي وقلمي وابتسامتي وأنفاسي وأنسامي وأنغامي وقصيدة غنيتها ذات يوم على شرفة منزلي، ومحراب احتضن دعواتي، وأيقونة صادرتها أيدي أعدائي، وكوب شاي بالنعناع بعد الفجر من يد أمي، وخبز وزعتر وزيت زيتون بطعم العشق، ورائحة كعك مقدسي تفوح من مدخنة فرن في الحارة، وصوت مؤذن يكسر صمت السكون في ليالي الشتاء الباردة، وفراشة كنت أرقبها متعجبا، وحمامة كان هديلها يؤنس صباحاتي الصيفية، وشعاع اعتاد مداعبتي صباح صباح، وزحام كم تمنيت أن لا أضيق به عند عبوري خان الزيت لتناول الكنافة، وسلة تين أمام امرأة تضع على صدرها أعظم نياشين الكرامة والعزة، تجلس على درجات باب العامود علما من أعلام المدينة، وعمادا من أعمدتها، حرمت من صديق كان قد غادر دون وداع، وزفاف بنت العم وابن الجيران" (خلود ص 90)
ومن ذلك الحوار الذي جرى بين ليلى وبين الراوي في عمان والراوي وقد استغرق الحديث والوصف لمدينة القدس ومجابهة جنود الاحتلال وأصدقائه المقاومين من ص 71- ص 79 في الرواية وذكرت جزءا منه في حديثي عن مضمون الرواية هنا.
وصف وتصوير طريق الآلام الطريق الذي سار عليه سيدنا عيسى عليه السلام، عندما عُذب واضطهد في صفحتين. (خلود ص 96، 97)
تصوير الراوي لأول مدرسة عيِّن فيها:
" كانت البناية عبارة عن بيت كبير للسكن، ولم تكن مجهزة لتصبح مدرسة، فغرفها صغيرة الحجم نسبيا، وممراتها ضيقة، وعدد الغرف لا يتجاوز أصابع اليدين، تتكون البناية من طابقين يعلوهما كرميد أحمر، والسطح على شكل هرمي، وأمام البناية حديقة بأشجار وأزهار ونباتات كثيرة، أنا أحب الأزهار والأشجار والنباتات، ولكنني أحب أن أقوم بعملي على أكمل وجه، وتلك الحديقة كانت عقبة أمامي مع الأسف الشديد." (خلود ص 99)
تصوير تايلند قرابة الصفحتين:
" لم أر أجمل من تلك البلاد، هي من البلاد الاستوائية، أمطارها غزيرة جدا، وحرارتها مرتفعة كحرارة قلوب أبنائها الأسيويين، بقاماتهم القصيرة وأنوفهم المنبسطة وابتساماتهم العريضة الدافئة حتى أنهم يسمونها "البلاد المبتسمة" لأنك لا تقابل شخصا إلا مبتسما، ورطوبة جوها عالية لدرجة أن الملابس تلتصق التصاقا بالجلد، وطبيعتها خضراء حتى تخالها قاربت اللون الأسود من شدة خضرة غاباتها.
كم أعجبني ذلك العامل الذي ينظف شارعاً من شوارع مدينة "بانكوك"، كان يحاول التقاط ورقة صغيرة من بين حجرين بجانب رصيف الشارع بينما الأمطار تهطل بغزارة، يحمل تحت أبطه قفة من القش، وعلى رأسه قبعة عريضة من القش أيضا، يغوص فيها رأسه حتى تلامس نهاية حاجبيه، بقي يحاول نزع تلك الورقة بمقشته إلى أن أخرجها بيده ووضعها داخل القفة، وأكمل مسيره باحثا عما يعكر نظافة الشارع، لقد كانت شوارع المدينة نظيفة بشكل لافت، ولا غرابة إذا كان عمّال النظافة بهذا القدر من الانتماء للعمل..." (خلود 112)
أشكال الفضاء:
ظهرت تصنيفات عدة للمكان، منها الأليف والمعادي، والمغلق والمفتوح، والواقعي والخيالي، والعتبة والواصل.
1- الفضاء الأليف والفضاء المعادي:
من الطبيعي أن يكون الإحساس بالمكان مرتبطا ً بنوعية علاقته بالشخصية التي تصفه، يقول الراوي وجنود الاحتلال تلاحقه في القدس: "ثم دخلت إلى زقاق الزاوية النقشبندية، اندفعت داخل بيت أم سعيد، أغلقته خلفي، هم لم يعرفوا أين دخلت، فقد حجبتني عنهم زوايا المدينة وأزقتها الضيقة..." (خلود ص 76).
فزقاق النقشبندية في القدس حينها كان فضاء معاديا بفعل الاحتلال، وهو مكان أليف عند خلوه من الجنود، فهذه الشخصية طموحة وقلقة. هذا القلق ظهر على علاقته بالمكان, بل شعر نحوها بالعداء والكراهية, وهي أماكن يقيم فيها الإنسان تحت ظرف إجباري, وأصبح بيت أم سعيد فضاء أليفا، كما أن السجن مكان غير أليف بل هو مكان معاد لا يشعر فيه بألفة وعلاقته بالشخصية علاقة قلق وتوتر وخوف، فهو فضاء معادٍ، فقد دخل السجن الراوي مدة عام كامل وعندما خرج من السجن أصبح بيته هو الفضاء الأليف.
.. حتى عندما استقر في عمان التي أقام فيها أربع سنوات من أجل الدراسة وقابل فيها حبيبة عمره رأينا أن المكان في آخر الأمر أصبح معاديا وأخذ الراوي يعمل جاهدا على العمل للعودة للقدس وهي المكان الأليف رغم أن السجن كان ينتظره هناك.
فالمكان المعادي يأتي في الطرف النقيض للمكان الأليف, فثمة أمكنة لا يشعر الإنسان بألفة ما نحوها, بل يشعر نحوها بالعداء والكراهية, وهي أماكن قد يقيم فيها الإنسان تحت ظرف إجباري, كالمنافي والسجون والمعتقلات والأماكن الخالية من البشر وأماكن الغربة. وبيت خلود مع زوجها يعتبر مكانا معاديا، فهاهي تنفصل عن زوجها لتغادر ذلك المكان:
"- إن عيشتي معه رتيبة لا حياة فيها ، أنا في الظاهر على قيد الحياة ، ولكن في حقيقة الأمر أنا مدفونة في قبر برودته، وجبروته، وجهله، وتحجر أفكاره، وسلبيته، أنا ميتة منذ الأسبوع الأول لزواجنا قبل عشرة أعوام طويلة، كان الزمان يسير فيها أبطأ من عربة ثقيلة تسير ميلاً واحداً كل سنة، إلا أنني تحملته للأسباب نفسها التي تضغطون عليّ بها الآن، ولكنني اليوم وبعد أن استخرت عشرات المرات ليس أمامي سوى الانفصال عنه تماما." (خلود 137)
والساحة التي جمع المحتل فيها المواطنين في نكسة عام 1967 تعتبر مكانا معاديا.
وكذلك أماكن العمل. كمنجرة السكناجي فهي مكان معادٍ، فالراوي يقول: " تراكمت في نفسي آلام القهر، وزاد حقدي عليهم، ليس أنا ولا أمثالي من يجب أن يكون محتجزاً في معتقل، بل ذلك "السكناجي" الذي عملت في منجرته تسعة وعشرين يوما في عطلتي الصيفية الأولى، كنت أعمل من الساعة السابعة والنصف صباحاً لغاية الساعة الرابعة ظهراً، كان يعطيني ورق "السنفرة" ويطلب مني سنفرة الطاولات والطرابزات، ويتردد عليّ كل عشر دقائق ليأمرني بالاستمرار بالعمل، فقد كان يغضب اشد الغضب إذا ما راني جالساً، كانت يداي تتحركان باتجاهين حتى أصبحت حركتهما ميكانيكية لا إرادية، كان يتحسس الطاولات التي انتهيت من سنفرتها وكل مرة يلمس الطاولات فيها يطلب إعادة سنفرتها، لقد هلكني هلك ابن الحرام، لم أعرف نواياه العنصرية، إذ كان يتعامل معي بلؤم مبطن، وحقد يجري في دمه الملوث بالخبث. (خلود ص90-91)
2- الفضاء العتبة والفضاء الواصل:
العتبة تسمية أطلقها (باختين) في دراسته لأعمال (دوستويفسكي) , حيث لاحظ أن الكاتب استخدم في رواياته فضاء ً رمزيا ً خاصا ً, يتمثل في المداخل والممرات والأبواب والنوافذ المشرعة على الشوارع, والحانات والأكواخ والخنادق وشتى وسائل النقل أشكال عدة لفضاء العتبة فـ( المدرسة ) تشكل واحدا ً منها, حيث كانت المدرســة نقطة انطلاق فالمدرسة مكان انتقالي تقضي فيه الشخصية وقتا ً معينا ً ثم تغادره, بل هي محطة عبور إلى مستويات أخرى. وكذلك المقهى محطة أخرى تقضي فيها الشخصية وقتا ً معينا ً ثم تعود إلى عالمها الخاص.(30)
ينظر: الفضاء الروائي في الغربة – الإطار والدلالة، منيب محمد البوريمي، ص 22, 23، دار الشؤون الثقافية العامة, بغداد.
ومثاله في الرواية مقهى باب السلسلة:
"خرجنا من حوش الشاي عبر حوش الغزلان ...لأول مرة هو غير موجود، مقهى باب السلسلة مغلقا، لا دخان سجائر، لا أصوات لحجارة النرد ولا حجارة تطرق بنشوة" (خلود ص 26، 27)
ومثاله أيضاً: الكوفي شوب" الموجود في بهو فندق الورد الحمراء.
ومن فضاء العتبة المدرسة، حيث كانت المدرســة نقطة انطلاق فالمدرسة مكان انتقالي تقضي فيه الشخصية وقتا ً معينا ً ثم تغادره, بل هي محطة عبور إلى مستويات أخرى .
" - لقد التحقت بالمدرسة، وأنا الآن في الصف الرابع... وأول ما أُقابل مصطفى سأخبره بأنني صرت بنفس صفه."( خلود 43)
ومنه غرفة النزوح وتتكون من غرفتين يصل إليها المرء خلال سلم حجري ودهليز مظلم.
"أما الفضاء الواصل , فهو الفضاء الذي يربط عالمين أو مجتمعين أو ثقافتين أو ما يربط الداخل المختنق بالخارج المنفتح. وغالبا ً ما يتمثل في الأعمال الروائية الحديثة بالنافذة , أو الحلم أو البحر أو العربة, وهناك أيضا ً, النافذة المشرعة، فالنافذة كانت فضاء ً واصلا ً يربط الداخل المقيد والواقع المرير بالخارج الحر والحلم الجميل.(31)
ينظر: الفضــــــــــــــــاء وتشكلاته السردية في الرواية العربية الحديثة، الدكتـــــور /حمد العزي صغيـــر، أستاذ الأدب والنقد - جامعة الحديدة – اليمن.
https://www.facebook.com/alamedbag/posts/425638900781445
ومثاله في الرواية نافذة السيارة:
"مررنا بأنظارنا عبر نافذة السيارة على سور القدس وهو يعانق المدينة بشموخ وكبرياء، وأخذنا نقرأ الفاتحة على أرواح موتى المسلمين..." (خلود ص 82)
ومن الفضاء الواصل في الرواية "الدراجة" :والقارب" "والسفينة" ، ومثاله في الروية:
تحركت بنا الدراجة النارية وأنا جالساً خلفه بكثير من الحذر، إذ أنني لم أعتد ركوب الدراجة النارية بعد، فهي بالنسبة لي مغامرة بحد ذاتها، لم أتصور نفسي راكبا على دراجة نارية أبداً، واليوم فإنني لا أتنقل إلا بواسطتها، "فللضرورة أحكام" . (خلود ص 119)
ومنه القارب في الرواية حيث قال عبد الله ميناس للراوي في تايلند: "- هيا بنا نُسرع قبل مغادرة المركب، ركبنا قارباً صغيرا، حملنا إلى السفينة التي كانت راسية في المياه العميقة، هي ليست نفس السفينة التي جئت على متنها إلى الجزيرة، كما أنها لا ترسو في نفس المكان، وبرنامج مغادرتها غير البرنامج الخاص بالسفينة الأولى، فقد تبين أن هناك أكثر من موقع للسفن. اقترب قاربنا الصغير من جسم السفينة حتى التصق بها تماما، ثم صعدنا إلى السفينة بكل حذر بمعاونة أحد البحارة الذي كان يساعد ركاب القارب بالصعود إلى السفينة، وبحار آخر يقف بجانبه لاستلام الأجرة من المسافرين." (خلود ص118)
3- الفضاء المفتوح والفضاء المغلق:
وفق مسار الأحداث أماكن أخرى كثيرة منها المفتوح ومنها المغلق فالقرية مكان مفتوح , تتحرك فيه الشخصيات وتتعامل بأساليب وأشكال مختلفة , وهي تشتمل على مجموعة من البيوت المغلقة , والحقول والبساتين المفتوحة والحقول فالحقول تكشف مدى إحساس الشخصية بالمكان وقدرتها على الانفتاح والتواصل والحياة ولكن في ضمن هذا الفضاء المفتوح ذو المساحة الصغيرة , تتشكل فضاءات مغلقة كثيرة , وهنا يبرز الصراع الجدلي بين ثنائية المكان المفتوح والمغلق :(( واستيقظت ثاني يوم وصولي , في فراشي الذي أعرفه , في الغرفة التي تشهد جدرانها على ترهات حياتي في طفولتها ومطلع شبابها" (32).
ينظر:الفضــــــــــــــــاء وتشكلاته السردية في الرواية العربية الحديثة، الدكتـــــور /حمد العزي صغيـــر،أستاذ الأدب والنقد - جامعة الحديدة – اليمن.
https://www.facebook.com/alamedbag/posts/425638900781445
فالمكان المغلق يبدو أكثر درامية إلا أن بعض الأماكن المغلقة تصبح علبا ً مغلقة لأصحابها, تتسم تصرفاتهم بالانعزالية والانطوائية, وإن ثنائية المكان المفتوح والمغلق تتشكل من خلال ثنائيات أخرى كثيرة, القلعة والمدينة, والقصر والساحة وغيرها. فالمكان الضيق والمغلق ميدان خصب لصراع الأفكار والشخصيات.
ومن الفضاء المغلق في الرواية بيت خلود مع زوجها، فهي لا تطيقه بسبب تنكره لمشاعرها الرقيقة وعدم تمكنه من حمايتها وتحرش حماها بها: "لا أحد يقف في صفها، جميع من حولها يمارسون عليها دور الواعظ الشريف البريء المثالي، وخاصة عمها الذي تحرش بها مرات عديدة ولا يأتي إلى بيتها إلا صباحا وهي وحيدة، حتى أنه في إحدى المرات دخل المطبخ ووضع يديه حول خصرها ومسك عجزها، فانتفضت كمن لطشته كهرباء، وتركت المكان من فورها خائفة مرعوبة من تصرف عمها الذي هو حماها، (خلود 144), فالمكان الضيق والمغلق ميدان خصب لصراع الأفكار والشخصيات إلا أنهما في أثناء دخولها دكان الراوي الذي قابلته فيها فهو مكان مفتوح تتصل به مع من تحب.
2- الوصف وتجسيد الفضاء:
وقد حدد النقاد للوصف ثلاث وظائف في السرد، وهي:
1- الوظيفة التزينية : وهي أسلوب يركز فيه الكاتب على زخارف القول والمحسنات اللفظية والبلاغية, فهو يهدف إلى إشباع حاجات جمالية لدى القارئ, وهذا النوع من الوصف نادر الوجود في النصوص الروائية.
2- الوظيفة التفسيرية أو ما يصطلح عليها بـ( التوثيقية ), وهي وظيفة دلالية تهدف إلى الكشف عن الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات الروائية, وموضعة أفعالها, وبيان أسباب سلوكها, عن طريق وصف بيئة الشخصية ومكوناتها, وكل ما يكوِّن خلفيتها.
3- الوظيفة الإيهامية: إذ يتم من خلال إدخال القارئ إلى عالم الرواية التخييلي موهما ً إياه بواقعية الأحداث , وبأن ما يقرأ واقعي وحقيقي، أما الوصف من حيث علاقته بالموصوف ومدى إلمامه بأجزائه وأحواله فهو نوعان:
1.الوصف الإجمالي: وهو الوصف الذي يذكر فيه بعض أجزاء الموصوف أو .... بعض أحواله ومظاهره, ويطلق عليه الوصف الانتقائي، ومثاله في الرواية:
"بعد يومين من انتقالنا، عاد أبي في حالة يرثى لها، رايته هزيلا، ملابسه رثة، وسخة، علامات العرق واضحة على قميصه، كانت حالته تعرب عما لقيه من معاناة فترة غيابه، أبي رجل في الخمسين من عمره، قامته متوسطة، وشعره أبيض كبياض الثلج، هو متحدث بارع، لديه العديد من الأصدقاء، ولكنه يأنس كثيرا بأخوته وأخواته، ربما لأنه تربى في مدرسة داخلية لفاقدي البصر" (خلود ص 32)
فالوصف الإجمالي: شكل من أشكال الاختزال, ففيه يقوم الراوي بوصف المفاصل الكبرى للأشياء إذ يرسم الخطوط العامة للشيء الموصوف, وبشكل سطحي, من دون الخوض في تفاصيل جزئياته.
2.الوصف التفصيلي: "وهو الوصف الذي يذكر فيه كل أو معظم أجزاء الموصوف وكل أو معظم مظاهره, ويطلق عليه الوصف الاستقصائي. (33)
ينظر:.البناء الفني في الرواية العربية في العراق -2- ص 23، الوصف وبناء المكان، شجاع مسلم العاني، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 2000.
"وهو وصف استقصائي يعمد فيه الراوي إلى تقديم صورة مفصلة تحتوي كل جزيئات الشيء الموصوف, وهذا يعني أن مقاطع الوصف تطول وتتفرع على وفق قانون شجرة الوصف التي رسمها جان ريكاردو(34).
حيث حدد ريكاردو في هذه الشجرة خمسة مظاهر هي ( الشكل – اللون – الهيأة – المادة – الوضع )(35), فالراوي في الوصف الاستقصائي ينبغي أن يلم بكل أو معظم هذه المظاهرة, عند تعرضه لوصف الأشياء .
ينظر: بناء الرواية دراسة مقارنة، سيزرا قاسم، ص 88، مكتبة الأسرة، 2004 .
.البناء الفني في الرواية العربية في العراق -2- ص 23، الوصف وبناء المكان، شجاع مسلم العاني، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 2000.
ومثاله في الرواية وصف المحبوبة خلود التي قابلها الراوي في عمان في فندق الوردة الحمراء واستغرق وصفها من صفحة 59 – ص 66 في الرواية بتصوير السارد للقاء حب مثير مع من أحب وهي خلود، وقد ذكرته في موضع حديثي حول عنصر التشويق ولن أكرره هنا.
ويكرر الراوي وصفها وحالته أيضا في قرابة أربع صفحات من ص 126 – 129 بعد لقياهما لبعض ثانية بعد مرور خمسة عشر عاما فيقول:"لأنني عرفتك ذات مساء، وأودعتك مفاتيح قلبي ذاك المساء، فإنني لا أعرف كيف أعبر ما تبقى لي من مساءات وحيدا، أحلق فيها مع نسمات طيفك الخجولة، ينقلني عبق عطرك إلى جداول الهيام، نغوص معا في يم النشوة القرمزية، تدغدغني ذبذبات جسد يكسر بثورته أمواج العشق المتدفق، رغبة تصارع الإرادة، فيختل توازن الروح ويتبعثر بقايا الرماد... أيتها الدوحة الباسقة فروعها، الممتدة إلى متاهات النفس التواقة للمس أناملك المعروقة... يا من تتهادى فوق مساحات العشق الوردية، بهذا الدلال الأنثوي الطاغي، تصادرين نبضات الكون وتزرعين السكون تحت رماد الجمر، تزرعين الرهبة فيمن يتمناك على مائدته المزدحمة بالكرستال التشيكي، ذات الألوان الليلكية...عانقني صوتها بنبرته الشفافة، تسللت خفقاتها عبر أوعيتي واستقرت في عمق وجداني، طربت على تعابيرها الملتهبة التي أذابت خلايا جسدي، فأيقظت أحلامي من غيبوبتها، أسرتني بسحر بيانها وتألق حروفها، تفوقت على قصائد العشق في أجندة الشعراء، امتزجت في دمي واستقرت تحت جلدي فاكتسب وجهي لونه الوردي." (خلود 126)
أ ) وصف الأماكن، ومنه في الرواية وصف الراوي لتايلند:
"لم أر أجمل من تلك البلاد، هي من البلاد الاستوائية، أمطارها غزيرة جدا، وحرارتها مرتفعة كحرارة قلوب أبنائها الأسيويين، بقاماتهم القصيرة وأنوفهم المنبسطة وابتساماتهم العريضة الدافئة حتى أنهم يسمونها " البلاد المبتسمة" لأنك لا تقابل شخصا إلا مبتسما، ورطوبة جوها عالية لدرجة أن الملابس تلتصق التصاقا بالجلد، وطبيعتها خضراء حتى تخالها قاربت اللون الأسود من شدة خضرة غاباتها".(خلود ص 112)
ومنه كما جاء على لسان الراوي في وصف بيوت تايلند:
"كانت المساكن (في تايلند) عبارة عن بنايات صغيرة الحجم، مستقلة عن بعضها البعض، لكل بناية مدخل خاص بها ، يشبه ساحة مربعة صغيرة المساحة يحيط بها سور بعلو خاصرة الرجل، عُلق على جدار البيت الأمامي إطار كُتب فيه سورة قرآنية، لاحظت ذلك في جميع بيوت الحي الذي يتوسطها مسجد صغير بمئذنة لا يزيد ارتفاعها عن عشرة أمتار، انتابني شعور بالطمأنينة لهذا المكان..." (خلود ص 118، 119)
"" كانت السفينة متوسطة الحجم، والمسافرين يجلسون على كل شيء، التمست لي مكانا على طرف السفينة في الجهة اليمنى، عندما أخذت تمخر عباب الماء برشاقة فتكسر الأمواج على بدنها الحديدي، كان صوت الآلة عال جدا، مما جعل الناس لا يسمعون بعضهم بسهولة" (خلود ص 113)
ب ) وصف الشخصيات:
كم أعجبني ذلك العامل الذي ينظف شارع من شوارع مدينة "بانكوك"، كان يحاول التقاط ورقة صغيرة من بين حجرين بجانب رصيف الشارع بينما الأمطار تهطل بغزارة، يحمل تحت إبطه قفة من القش وعلى رأسه قبعة عريضة من القش أيضا، يغوص فيها رأسه حتى تلامس نهاية حاجبيه، بقي يحاول نزع تلك الورقة بمقشته إلى أن أخرجها بيده ووضعها داخل القفة، وأكمل مسيره باحثا عما يعكر نظافة الشارع، لقد كانت شوارع المدينة نظيفة بشكل لافت، ولا غرابة إذا كان عمّال النظافة بهذا القدر من الانتماء للعمل." (خلود ص 112)
المكان الجذب والمكان الطارد
نلحظ في الرواية بعض الأمكنة التي تعتبر مكاناً طارداً وبعضها مكاناً جاذباً، وأن هناك تبادلاً بين الأمكنة يكاد يكون مقصوداً. فالأمكنة التي رحلت منها الشخصيات مكان طارد، ففي عام 1967 عام النكسة كانت القدس مكانا طاردا بسبب الخوف من الاحتلال؛ ولأن الشخصيات كانت ترغب في الانتقال منه إلى مكان آخر جاذب أصبحت عمان وقتئذ مكانا جاذبا، هذا في أول الرواية، وعندما ذاق الناس ويلات اللجوء وأراد القسم الكبير العودة للقدس تبدّلت المواقع فأصبحت عمان مكاناً طارداً بعد أن كانـت مكاناً جاذباً، وصارت القدس مكاناً جاذباً بعد أن كانت مكاناً طارداً، ونلحظ هذا بعد زواج السارد في عمان وإتمامه لدراسته.
أن الحمد لله رب العالمين
............................................
اللواحق
1. اتجاهات الرواية المصرية، شفيع السيد، ص24، مصر، دار المعارف، 1978
2. تاريخ الرواية الحديثة، ر. م. ألبيريس ترجمة : جورج سالم، دار عويدات، بيروت، 1967
3. الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص ،39 ، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق – 2003
4. الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص ،40 ، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق – 2003
5. الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص ،50 ، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق – 2003
6. الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية، د.سمر روحي الفيصل،ص ،73 ،من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق – 2003
7. جماليات المكان، غاستون باشلار ، ت – غالب هلسا، ص45 , بغداد , 1980 .
8. ينظر : نفسه : 45 .
9. ينظر:بناء الرواية دراسة مقارنة في "ثلاثية" نجيب محفوظ، سيزا قاسم، ص99، مكتبة الأسرة، الطبعة: 1،عام2004
10. ينظر الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص 161،162)، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق – 2003
11. ينظر تقانات السرد القصصي في زمن الغياب، نبيل أبو علي، ص219، غزة ،2004
12. الزمان والمكان في الرواية الفلسطينية، علي عودة، ص16، ط2، فلسطين، 1997.
13. الزمن التراجيدي في الرواية المعاصرة، سعد عبد العزيز, ص 79 ، مكتبة الانجلو المصرية, المطبعة الفنية ,1970.
14. ينظر: البناء الفني في رواية الحرب- دراسة لنظم السرد والبناء في الرواية العراقية المعاصرة، عبد الله إبراهيم، ص 12، دار الشؤون الثقافية- بغداد


15. في نظرية الرواية -بحث في تقنيات السرد، د. عبد الملك مرتاض، ص 227، عالم المعرفة، الكويت، 1998.
16. فن القص في النظرية والتطبيق، نبيلة إبراهيم، ص160، مكتبة غريب، مصر، د.ت.
17. أشكال الزمان والمكان في الرواية، ميخائيل باختين، ترجمة: يوسف خلاق، ص 5، وزارة الثقافة، دمشق، 1990
18. الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص ،179 ، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق – 2003
19. الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص ص32، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق - 2003
20. ينظر: الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص33-35، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق – 2003
21. مشكلة المكان الفني، يوري لوتمان – ت: سيزا قاسم – مجلة ألف باء – ع6 – 1986م : 81 ، وينظر: الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا : ص 171 .
22. ينظر: الصورة والبناء الشعري، د. محمد حسن عبد الله، ص 12، دار المعارف – القاهرة، 1981 م
23. البلاغية في البلاغة العربية، سمير أبو حدان، ص151، منشورات عويدات، بيروت، لبنان، ط 1، 1991
24. ظاهرة الانزياح الأسلوبي، صالح شتيوي ص83، مجلة جامعة دمشق المجلد 21، العدد (3 4) 2005
25. نظرية البنائية في النقد الأدبي، فضل، صلاح، ص 316، مكتبة الأنجلو المصرية القاهرة 1978.
26. المعجم الأدبي، الدكتور جبور عبد النور، ص293، دار العلم للملايين، الطبعة الثانية 1984
وينظر: الفضاء في روايات عبد الله عيسى السلامة، م. بان صلاح الدين محمد حمدي، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية، المجلد ١١، العدد ١، كلية التربية للبنات، جامعة الموصل، 2011.
27. معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مجدي وهبة وكامل المهندس. مكتبة لبنان. بيروت. ط.2. 1984.
28. ينظر الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل، ص214-218، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق - 2003
29. ينظر: الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا، إبراهيم جنداري، ص 175، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 2001م
30. ينظر: الفضاء الروائي في الغربة – الإطار والدلالة، منيب محمد البوريمي، ص 22, 23، دار الشؤون الثقافية العامة, بغداد.
31. ينظر: الفضــــــــــــــــاء وتشكلاته السردية في الرواية العربية الحديثة، الدكتـــــور /حمد العزي صغيـــر، أستاذ الأدب والنقد - جامعة الحديدة – اليمن.
https://www.facebook.com/alamedbag/posts/425638900781445
32. نفسه.
33. ينظر:.البناء الفني في الرواية العربية في العراق -2- ص 23، الوصف وبناء المكان، شجاع مسلم العاني، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 2000.
34. ينظر: بناء الرواية دراسة مقارنة، سيزرا قاسم، ص 88، مكتبة الأسرة، 2004 .
35. البناء الفني في الرواية العربية في العراق -2- ص 23، الوصف وبناء المكان، شجاع مسلم العاني، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 2000.
36. رواية خلود، سمير الجندي، دار الجندي، ط 2، 2112.
ر

جماليات المكان في رواية "خلود" للقاص سمير الجندي.
بقلم عبد المجيد جابر
عنوان الرواية:
العنوان مكون من كلمة واحدة، هي "خلود" وهي خبر لمبتدأ محذوف تقديره "حبي لفلسطين خلود" ،والمعنى الدلالي أن حب الشاعر لوطنه خلود ومخلّد وخالد، والمتلقي المتسرِّع يظن أن الشاعر يعشق فتاة اسمها "خلود" بسبب افتتاحية الرواية بالحب والعشق، وتردد اسم "خلود" في ثنايا الرواية في أكثر من ثلاثة مواضع وشغلها لصفحات غير قليلة في الرواية، ومما يجعلنا نحسن التأويل ما جاء في افتتاحية الرواية بالتغني بمحبوبة الشاعر التي اقترن التغني بها بنكسة عام 1967، واحتلال بقية فلسطين، والحب لا يقترن بنكسات ولا بخيبات ولا بضياع وطن، ولنستمع لافتتاحية الرواية والتي تتحدث في ظاهرها عن عشق الراوي لفتاة يوم هزيمة العرب والخطاب موجه لأم متجذِّرة في وطنها تعشق كل ذرة تراب فيه:
(ها هي حبيبتي التي حدثتك عنها ذات صفوة، ها هي من بحثت عنها أنا وأحلامي المتهالكة، ها هي يا أمي... ألم أقل لك بأنني لن أفقد الأمل بلقائها؟
ألم أقل لك يا أمي بأنها تنتظرني مثل ما أنتظرها في مكان ما في هذا الكون؟
ألم أحدثك عن جمالها وحسنها وحنانها؟ أنا لم أصفها لك كما يجب فأنا لا أحسن وصفها، ومفرداتي عاجزة عن الوفاء لحسنها... ها هي يا أمي موجودة أمامي بلحمها ودمها، وسحر عيونها السوداء الآسرة...لم أفض بمشاعري لأي إنسان غير أمي، هي تفهمني وتقدر ما أقول، لم تلمني أبداً ولم تضجر من سماعي، كانت بئر أسراري، كنت أُحدثها عن مكنونات صدري وأصف لها مشاعري، وآخذ رأيها في منعطفات حياتي، كانت تُبدي لي النصيحة التي غالباً ما آخذ بها، لقد كانت سديدة في رأيها... لم تستعجل الأمور، متأنية، صادقة مع نفسها ومع من حولها، لم أنس قرارها المصيري بعدم ترك المدينة مع من تركوها في حزيران من العام سبعة وستين وتسعمائة وألف، حين أراد والدي النزوح إلى عمان، قالت له:
- لن نترك هذه المدينة أنا وأبنائي، هنا ولدنا وهنا نموت... (خلود 14،15)
الحبية هنا هي المدينة، هي القدس، هي أرض فلسطين، فلقد نجح الروائي سمير الجندي رغم اتكائه على مرحلة تاريخية من مراحل نضال الشعب الفلسطيني وتقديم الأبعاد النفسية والاجتماعية للبيئة المكانية بعيداً عن أسلوب التاريخ، حيث لا تعني الرواية بتقديم التاريخ المجرد للقارئ. "لأن وثائق التاريخ كفيلة بهذه المهمة، وإنما تكمن قيمتها في براعة الكاتب في استغلال الحدث التاريخي واعتماده إطاراً ينطلق فيه لمعالجة قضية حية من قضايا مجتمعه الراهن ".(1)
افتتاحية الرواية:
تُقاس افتتاحيّة الرواية استناداً إلى وظيفتها، وهي إدخال القارئ عالم الرواية التخييلي بأبعاده كلها، من خلال تقديم الخلفيّة العامة لهذا العالم والخلفيّة الخاصّة بكل شخصية ليستطيع ربط الخيوط والأحداث التي ستُنسج بعدُ(2)
وهذا يعني أن الافتتاحيّة وحدة وظيفيّة أساسيّة من وحدات الرواية، تُمهِّد لما سيأتي بعدها وتفعل فعلها فيه، فضلاً عن أنها تُقدِّم للقارئ المسوغات التخييليّة للحوادث اللاحقة في المجتمع الروائي. وتشير الروايات ذات البناء المتماسك إلى أن الاكتفاء بفقرة صغيرة في عدد قليل من الأسطر لا يستطيع تجسيد وظيفة الافتتاحيّة، ما يعني أن الافتتاحيّة تحتاج إلى شيء من التفصيل يتيح للروائي فرصة بناء نص ذي وحدة وظيفيّة أساسيّة.(3)
و كلمة "وظيفيّة" تشير هنا إلى وظيفة هذه الوحدات على نحو مباشر في إطار بناء العمل)، دون أن يكون القصد من التحليل الانتهاء إلى أن لكل عمل أدبي وحداته المستقلّة عن الأعمال الأدبيـة الأخرى، بل القصد هو الوصول إلى وحدات وظيفية أساسية يمكن استخدامها في تحليل الأعمال الأدبية قديمها وحديثها على السواء. وقد اجتهد البنيويون في هذا الاتجاه، وانتهوا إلى أن العمل القصصي يضمُّ أربع وحدات وظيفيّة، هي: الخروج والعقد والاختبار والانفصال عن المجتمع والاتصال به. ويهمني القـول هنا إن وحدة الخروج تبرز بجلاء في افتتاحية الرواية الجيِّدة، وتغيم أو تتلاشى في الروايات الضعيفة.(4)
ففي رواية (خلود) نرى أن الشخصيات الرئيسة كالراوي ووالده وأمه وأصدقائه، تبرز كلها في الافتتاحيّة راغبة في الخروج من أسر المرحلة السابقة إلى رحاب مرحلة جديدة. يريدون الخرج من هول النكسة والاحتلال والعودة للقدس الوطن والوقوف بثبات وشموخ، ويريدون الخروج من الفقر والعوز إلى الغنى وتحمّل شظف العيش، والخروج من الجهل إلى العلم، حتى "خلود" تريد أن تخرج من بيت زوج يمتهن كرامتها ولا يراعي مشاعرها إلى رحاب أوسع تُحترم فيها الإنسانية والمشاعر.
( توافر الوحدة الوظيفيّة دليل على جودة افتتاحيّة الرواية وتماسكها، وأن بناء هذه الوحدة يحتاج إلى عدد وافر من الصفحات الروائية. وليس شكل الوحدة مهمّاً بعد ذلك، سواء أكان رحلة روائية أم كان انتقالاً من موقع إلى آخر. ذلك لأن الوحدة الوظيفيّة، مهما يكن شكلها، قادرة على تحديد مسار الرواية، وطبيعة السرد فيها، فضلاً عن إثارتها شغف القارئ وحفزه إلى القراءة، والتمهيد لبناء الشخصيات واختراق الأمكنة الروائيّة.(5)
بناء الفضاء الرّوائيّ
الفضاء الروائي والمكان الروائي مصطلحان بينهما صلة وثيقة وإنْ كان مفهومهما مختلفاً. فالمكان الروائي حين يُطلَق من أيّ قيد يدلُّ على المكان داخل الرواية، سواء أكان مكاناً واحداً أم أمكنة عدّة. ولكننا حين نضع مصطلح المكان في مقابل مصطلح الفضاء بغية التمييز بين مفهوميهما فإنـنا نقصد بالمكان المكانَ الروائيَّ المفردَ ليس غير، ونقصد بالفضاء الروائي أمكنةَ الرواية جميعها. بيد أن دلالة مفهوم الفضاء لا تقتصر على مجموع الأمكنة في الرواية، بل تتسع لتشمل الإيقاع المُنظِّم للحوادث التي تقع في هـذه الأمكنة، ولوجهات نظر الشخصيات فيها. ومن ثَمَّ يـبدو مصطلح الفضاء أكثر شمولاً واتساعاً من مصطلح المكان.(6)
ويطلق عليه عادة الفضاء الجغرافي، وهذا الفضاء ليس منقطعاً عن دلالاته الحضارية والاجتماعية، أي أنه ليس مجرد مكان، بل حيويته تتجلى من خلال حركة الشخصيات والعلاقة المرتبطة بزمن معين .
تحتوي كل رواية على مسرح تقع فيه الأحداث وتتصارع في ميدانه الواسع الأفكار والشخصيات, أصطلح عليه النقاد بـ(الفضاء) – أو المكان, ويؤلف المكان إطارا ً محتويا ً ومتفاعلا ً مع بقية العناصر البنائية الأخرى, ويقوم المكان بأداء وظائف عدة في النصوص السردية, لعل أبرزها في نظر النقاد هي قابليته لاستيعاب الزمن مكثفا ً فيه(7) , فوظيفة المكان تتمثل (في احتواء الزمن مكثفا ً في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها" (8)
ومن الأمكنة التي تظهر في الرواية وأغلبها حارات القدس وأزقتها وشوارعها ومبانيها التاريخية ومقدساتها وفلسطين، ويتسع الفضاء المكاني وينتشر ليبلغ أغلب أماكن العالم وأقاصيه، فظهر في رواية خلود الأماكن التالية:
" المدينة "القدس"، الملجأ النتن، الساحات، حوش الغزلان، وحوش الشاي، فُرن الحاج يِّتمْ، ومنزل الست أُميلا، والأحياء الأخرى في البلدة القديمة، يافا، باب السلسلة، سوق العطّارين، مقهى باب السلسلة، الحرم، خان السلطان، ساحة الخان، وغرفه الصغيرة، مخبز درجة الطابونة، مفترق حارة الشرف وسوق الباشورة وسوق الخواجات، محل "أبو أيوب" ومدخل الحي، سوق خان الزيت، الحوانيت المغلقة، طريق عقبة التكية، عقبة المفتي، بيت المفتي، دير ياسين، طريق الآلام، السيد المسيح، الحاج الجليل، غرفة النزوح وتتكون من غرفتين يصل إليها المرء خلال سلم حجري ودهليز مظلم، عمان، نهر الأردن، حافلة الرحيل، العيزرية، أريحا، باب العامود، باب الأسباط، المقبرة اليوسفية، السور، باب الساهرة، مسجد الشوربجي، باتجاه شارع الواد، المدرسة، سوق خان الزيت، المدرسة العمرية، المدير، غرفة المدير، أحد المعلمين، المعلمون، المسجد الأقصى، منزل بحارة السعدية، قبة الصخرة، منزل الراوي بحارة السعدية، بيت صفافا، مكتبة العمرية، الجار علي العازف، إحدى الدول الأوربية، والمساجد والمدارس، مدرسة القادسية، إيطاليا، جامعات ميلانو، مطار عمان الدولي، الأردن، الجامعة الأردنية، فنادق المدينة، صالة الفندق، نيويورك، أمريكا، بيت حنينا، فنادق منطقة الشميساني، وجبل عمان، المدرسة الثانوية في نيويورك، مطعم هاشم في عمّان،"الكوفي شوب" الموجود في بهو الفندق، الغرفة ستة عشر في فندق الوردة الحمراء، الأزقة العتيقة، الراهبة،، مدن وقرى ومخيمات فلسطين، ملعب الروضة، شارع الزهرة، شارع صلاح الدين، شارع السلطان سليمان، مدرسة الرشيدية، سوق الجمعة، البلدة القديمة، المدرسة البكرية، باب الملك فيصل، باب الغوانمة، زقاق الزاوية النقشبندية، بيت أم سعيد،مستشفى الهوسبيس، عقبة الخالدية، عقبة السرايا، القيرمي، السجن، المدرسة الميلوية في عقبة الميلوية، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وأمريكا وسويسرا وايطاليا، والدول الإسكندنافية ودول أمريكا الجنوبية، برلين وجدارها الذي صار أطلالاً، الباسك في اسبانيا، أمريكيا الجنوبية: فنزويلا وجواتيمالا، وهندوراس، ونيكارجوا... ، المشفى، ساحات المدرسة العمرية، كنيسة الفرنسيسكان المجاورة للمدرسة، الكنيسة الأرمنية، كنيسة صغيرة جهة شارع الواد، كنيسة تسمى فيرونيكا وهي المرأة التي مسحت وجه سيدنا عيسى عندما وقع على الأرض ووجهه مضرجا بالدماء، عقبة المفتي، وهذه المحطة وكنيستها الصغيرة لا تفتح أبوابها إلا يوم الجمعة في أثناء "الدورة"، دير يوناني على اليسار في أول عقبة الخانقة ويدعى دير "خرلمبوس"، عقبة الخانقاقو، حارة النصارى، كنيسة القيامة. إحدى مدارس القدس الابتدائية، ساحات للرياضة والنشاطات، مكتب مدير التربية، شارع نابلس، بيت لحم، رام الله، الخليل، مدينة البيرة، غزة، الوطن العربي، فلسطين، تايلند، بانكوك، ميناء جزيرة "كو ساميت" السفينة، الحدود، مدينة "بتايا"، نادٍ للرماية، والشاطئ الذهبي، باكستان، حانوت عبد الله ميناس وبيته، الميناء، السوق، مستشفى رام الله، حاجز الرام العسكري، المركز الصحي، غرفة مكتب دكتور العائلة، مستشفى هداسا، عين كارم".
وبما أن وظيفة المكان تتمثل في احتواء الزمن مكثفا ً، فلزام علينا أن نوضِّح عنصر الزمان. "فللمكان الروائي أهمية كبيرة لا تقل كثيرا ً عن أهمية الزمان, وإذا كانت الرواية في المقام الأول فنا ً زمانيا ً يضاهي الموسيقى في بعض تكويناته, ويخضع لمقاييس مثل الإيقاع ودرجة السرعة, فإنها من جانب آخر تشبه الفنون التشكيلية من رسم ونحت في تشكيلها للمكان.(9)
ويظهر الزمان جليا في رواية خلود ليشمل:
"حزيران من العام سبعة وستين وتسعمائة وألف، والهجرة القصرية عام ثمانية وأربعين، ومعركة سكة الحديد في يافا في العام تسعة وثلاثين وتسع مائة، وأيام الخميس، وليالي الشتاء الباردة، والساعة الثالثة والسابعة مساءً، والقرن السادس عشر، ويوم الأربعاء، والاعتقال ومدته المتوقعة سنة أو سنتان، والساعة التاسعة والربع صباح يوم الثلاثاء الثامن عشر من أيار العام ستة وسبعين، ويوم ويومين وأسبوع وشهر وسنة، خمسة عشر دقيقة، وخمسة عشر عاما، وبداية الانتفاضة الأولى، وحب الراوي لخلود مدة عشرين سنة، واستغراق العملية الجراحية لمصطفى غضون أربع ساعات، ويوم المعلم، ويوم الأم، ويوم العامل، ويوم الأرض؛ ويوم الشهيد، والأسير، والشجرة؛ وحزيران، وآب، وأيلول".
وقد استخدم الراوي تقنية الحذف، أما تقنية الحذف فقد لجأ الراوي إليها ليسقط مرحلة كاملة من زمن القصة، وبهذا الإسقاط سرَّع الراوي من حركة السرد، فحذف الراوي الكثير من الأحداث التي مرت معه أثناء دراسته في عمان، فلم يذكر شيئا عن دراسته أو جامعته إلا صفحات معدودة حول لقائه بخلود وحديثه مع ليلى تمهيدا لعودته إلى الوطن القدس. ولا شكَّ في أن اختزال الزمن في الخلاصة وإسقاطه في الحذف يلبيان حاجة الروايـة إلى الامتداد الزمني من غير أن يضطر الراوي إلى ذكر ما حدث ساعة فساعة، وسنة بعد أخرى. والواضح أن الراوي لجأ كثيراً إلى الحذف، ولكنه لم يُخْفِ في الغالب الأعم المدة الزمنيّة التي حذفها، سواء أكانت يوماً أم شهراً أم سنة أم سنوات.
ومن مواطن الحذف في الرواية، قوله:
"مرت سنة، وأنا على هذا الحال؛ بيع وشراء، ودموع وحزن(خلود ص 42)، فلم يذكر الراوي شيئا عن سجنه خلال السنة التي قضاها هناك.
والراوي يذكر نكبة عام 1948 ويختصر الحديث عنها بلجوئه لتقنية الحذف والتلخيص:
"لقد كانت الحرب نقمة على الناس والشجر والحجر والطير والماء والسماء والأرض؛ كانت نقمة على كل شيء إلا على أبي زهير فقد كانت نعمة ورخاء، تعرّف على أبناء أسرته الذين احتضنوه وقدموا له جزءاً من أرض والده الذي غادرها في سنوات النكبة الأولى عام ثمانية وأربعين، كان أبو زهير أيامها في عز الشباب ولكن والده توفي بعد عام واحد من مغادرته القرية آنذاك... وعندما غادرنا أبو زهير إلى بيته الجديد في بيت صفافا، ترك لنا مذياعه مفتوحاً على نشرة أخبار صوت العرب..." (خلود47،46)
فلم يسهب الراوي كثيرا في الحديث عن الفترة الزمنية من عمر أبي زهير بعد عام 1948.
ويلحظ الحذف بوضوح، فالراوي يعمل أول مرة كمعلم ص 124، وفي الصفحات التي تلي ذلك يظهر فجأة وله دكان يلتقي فيه فجأة بمن أحبها وعانقها وهي خلود في فندق الوردة الحمراء قبل 15 عاما، ولجأ لتقنية الحذف والتلخيص أثناء عمله كمدرس، ولم يتحدّث كثيرا عن متجره وتجارته.
ولجأ لتقنية الحذف في وصف رحلته لتايلند فلم يصف أو يذكر شيئا عن رحلة السفر والطريق ذهابا وإيابا.
التلخيص
إن الخلاصة (أو: التلخيص) تقنية روائية عريقة في الرواية الأجنبيّة والعربيّة على حدّ سواء. والمعروف أن هذه التقنية تختزل الزمن وتُسرِّع حركة السرد، ولكنَّ اختزال الزمن ليس هدفاً للروائي سمير الجندي ولا لغيره من الروائيين، بل هو وسيلة تُحقِّق بعضاً من الأغراض الجماليّـة، وهذا الهدف الجماليّ لا يحتاج إلى تفصيلات حياة الشخصيـة، ولهذا السبب اقترنت تقنيـة الخلاصة عند سمير الجندي بتقنية أخرى هي (الحذف) كما أوضحناه سابقا؛ أي حذف زمنٍ لا تخدم الحوادث التي وقعت فيه الهدف الجماليّ. ومن ثَمَّ كان الحذف قفزاً فوق مدة روائية طويلة أو قصيرة من غير إشارة إلى ما جرى فيها من حوادث ووقائع. وقد استعمل الروائي عبارات تدلُّ على الحذف أو القفز، من نحو : (مرت سنة....) ومثاله قول الراوي:
"ولكنني اليوم أبكي قهراً وألماً، كلما مرّ أمام ناظري شريط الأيام الطويلة التي عملت فيها بظروف قاسية لدرجة القهر)، ليدلَّ على أنه غير راغب في تقديم الحوادث التي وقعت خلال هذه المدة. وهو، كما تدلُّ عبارات القفز المذكورة، يؤثر تحديد مدّة القفز أو مداه، بغية إعلام قارئه بأن ما جرى في هذه المدة المحذوفة لا أهميّة له لأنه لا يختلف في شيء عمّا يُلخِّصه .(10)
ويلجأ القاص سمير الجندي إلى تقنية التلخيص، فقد صور أحداث النكبة وما تلاها حتى عام 1976 بخمسة وسبعين صفحة، لكنه لخص فترة قضائه السجن مدة عام كامل بصفحة واحدة فقط. (خلود 90)
يشكل الزمن عنصراً بارزا في رواية "خلود"، فقد تنقلت بنا الرواية عبر أزمان مختلفة من عمر القضية الفلسطينية، ومن الجدير بالذكر أن عنصر الزمن له خصوصية وهيمنة في هذه القصة، بل يكاد يتربع على عرش السرد فيها ويبشر بغايته المكنونة منذ العنوان، وهو يسير في ثنائية غير متوازنة، يطغى فيها الماضي على المستقبل، ويتلون الحاضر بأصباغ الماضي وأطيافه. للماضي فيها بعدان: أحدهما بعد النكبة، وثانيهما قبل النكسة".(11)
11. ينظر تقانات السرد القصصي في زمن الغياب، نبيل أبو علي، ص219، غزة ،2004
الاسترجاع:
ويظهر الاسترجاع؛ أي العودة للماضي خلال الحوار الذي جرى بين الراوي والأستاذ محمود بحديث الأول عن زيارته لتايلند وقد استغرق ثلاث عشرة صفحة، يصور فيها الراوي فترة سابقة خلال رحلة له يظهر فيها جمال تايلند ومأكل أهلها ونظافتها وإباحيتهم، وانتشار المخدرات فيها، ولعب القمار، والسياحة فيها، وجزرها:
"- اسمح لي بأن أحدثك عن زيارتي إلى تايلند، ربما فيما أقول العبرة والدرس... والإجابة القاطعة عن كل الأسئلة."(خلود ص 109).
ومن صفحة72 وحتى ص 79 يحدث السارد ليلى في عمان عن مواجهة للشبان الفلسطينيين واستشهاد بعضهم عام 1976.
وتظهر تقنية الاسترجاع في قول خلود للراوي:
ألم تكن أول رجل يقتحم حياتي؟ "
ألم أسلمك في تلك الليلة زمام قلبي؟" (خلود 128)
ومنه كما جاء على لسان ليلى:"- ألم تقل لي بأنهم سيعتقلونك على الحدود لو رجعت؟" (خلود 72)
ومن مواطن الاسترجاع قول الراوي عندما ذهب لمنجرة السكناجي لاستلام أجرة عمله المرهق ووجده مغلقا ويظهر الاسترجاع للماضي جليا:
"... لم أبك عندما هدموا بيتي في حارة الشرف... لم أبك عندما ضاع أخي يوم طردنا من بيتنا، يومها ضاع ولم نعثر عليه طيلة أسبوع، حسبناه عند الله، حزنّا كثيراً، وفقدنا الأمل في العثور عليه... إلا إننا وجدناه عند جيران لنا ، كانوا قد وجدوه في جلبة الناس يوم طُردنا من بيتنا وحينا، كانوا قد توجهوا آنذاك للإقامة في المدرسة الميلوية في عقبة الميلوية، التي كانت ما تزال تحت الإنشاء، بقي عندهم لمدة أسبوع وعندما مروا عليهم للإحصاء سجلوا أخي معهم في بطاقتهم العائلية كفرد من أفراد العائلة، وكنا قد سجلناه أيضا بنفس الوقت في بطاقة عائلتنا، فبقي أخي مسجلاً لدى العائلتين لمدة طويلة، وبذلك صار له بطاقتين وعائلتين ووالدتين ووالدين ودزينة ونصف من الأخوة والأخوات..." (خلود 9- 91)
وتظهر تقنية الاسترجاع من خلال مواجهة الراوي لجنود الاحتلال والحديث مع أم سعيد عن مواجهة سابقة حصلت بين مجموعة من الشبان وبين جنود الاحتلال:
"دعينا لا نتنكر لمن ذهبوا، ولمن صاروا أوتادا في عمق ترابه،عبد الله، وسعيد، ومحمود الذي كان بطلا بكل معنى الكلمة، أذكر تماما عندما رأينا صورة لينا النابلسي على الصفحة الأولى لجريدة القدس، كانت جميلة جدا لم تنه الصف العاشر بعد، كانت ما تزال بزيها المدرسي المخطط باللونين الأبيض والأخضر، وها هي تُلف بالأربعة ألوان بعد أن قتلها جندي صهيوني أمام مدرستها بدم بارد، غلت الدماء في وجوهنا وعقولنا واشتعلنا غضبا وحزنا، استطعنا تجميع عدد من الشباب والبنات وصنعنا لافتات عليها شعارات تندد بجرائم الاحتلال الصهيوني، تعبيراً عن استيائنا ورفضنا لكل أشكال القمع اليومي للاحتلال، خرجنا من الحرم الشريف قرابة الساعة التاسعة والربع صباح يوم الثلاثاء الثامن عشر من أيار العام ستة وسبعين، مررنا عبر سوق القطانين صعودا إلى سوق خان الزيت عبر عقبة الخالدية ومن ثم عقبة السرايا فالقيرمي، وعندما وصلنا إلى مفترق سوق العطارين وخان الزيت والدباغة؛ فوجئنا بمجموعة من جنود العدو، لا تزيد عن أربعة جنود، أخذوا بإطلاق الرصاص علينا دون سابق إنذار، فشاهدت صديقي محموداً قد سقط على الأرض، لم أدرك في البداية أنه تلقى رصاصة قاتلة في جبينه من الجهة اليسرى، حاولت مساعدته أنا ومن كان بجانبي وعندما وضعت يدي تحت رأسه كان دمه ساخناً وينزف بشدة، أُحضر باب خشبي، وضعنا الجريح فوقه وطرنا به إلى مستشفى "الهوسبيس" في شارع الواد، كل ذلك ولم تصل الساعة العاشرة، أُعطي الجريح الدم اللازم، حاول الأطباء إنقاذه بكل السبل، خمس ساعات وهو بين الحياة والموت، إلى أن فارق الحياة في الساعة الواحدة ظهراً، فبكته كل العيون، وبكته السماء بأمطار غير معهودة بمثل هذا الوقت من شهر أيار، وبكته الأشجار، وبكته الأقدار وبكته حجارة المدينة، وسورها، وترابها، طيورها.." (خلود 78،77)
ومن الاسترجاع في رواية خلود، ويتحدث فيه الراوي عما قالته له أمه عن نكبة عام 1948 واللجوء:
(لم نعرف وجهتنا، لم تتفوه أمي بكلمة، لازمت الصمت ... لكنها عندما خرجنا من الحارة قالت:
- ها هي قصتنا تتكرر يا بني، أخذت تعيد شريط ذكرياتها، رجعت إلى طفولتها عندما تركت بيتها مع من بقي على قيد الحياة من أبناء أسرتها في قرية زكريا، وبعد أن جاءهم خبر استشهاد والدها في معركة سكة الحديد في يافا في العام تسعة وثلاثين وتسع مائة وألف على يد الإنجليزي المحتل، أخذت تقلب الأمور وتزنها بميزانها الخاص، تُرى أيكون مصيركم مثل مصيري؟ (خلود ص23)
الاسترجاع القبلي: وهو العودة للزمن الماضي قبل أحداث القصة، ومنه في الرواية:
تمنيت في هذا اليوم لو أن والدتي حاضرة لأقول لها: ها أنا يا والدتي قد التقيت بها...
ها هي حبيبتي التي حدثتك عنها ذات صفوة، ها هي من بحثت عنها أنا وأحلامي المتهالكة، ها هي يا أمي... ألم أقل لك بأنني لن أفقد الأمل بلقائها؟
ألم أقل لك يا أمي بأنها تنتظرني مثل ما أنتظرها في مكان ما في هذا الكون؟
ألم أحدثك عن جمالها وحسنها وحنانها؟ أنا لم أصفها لك كما يجب فأنا لا أحسن وصفها، ومفرداتي عاجزة عن الوفاء لحسنها... ها هي يا أمي موجودة أمامي بلحمها ودمها، وسحر عيونها السوداء الآسرة... (ص 14)
ويجمع المحللون والنقاد على أن وعي الإنسان الفلسطيني المبكر لواقعه ولقضيته هو الذي أبرز عنصر الزمن في الأعمال الأدبية الفلسطينية. وقد سبق وعي الفلسطينيين بقية الوطن العربي لواقع قضيتهم، وهذا الوعي العميق تجسد بأشكال متفاوتة ووجد لنفسه مسارات متعدد مع مسيرة التجربة الفلسطينية.(12) .
الزمان والمكان في الرواية الفلسطينية، علي عودة، ص16، ط2، فلسطين، 1997.
الاستباق:
ويتمثل في استعمال الاستباق الزمني في أثناء تحديد هذه الشخصيات. فالروائي سمير الجندي يذكر– على سبيل التمثيل لا الحصر – أن أم خلود تستبق الحوادث الروائية وتعرف ما سيقوله:
يقول الراوي خلال اجتماعه بأم خلود:
"نظرت(أم خلود) نحوي نظرة آمرة تحثّني فيها على الكلام، هي تعرف ما سأقول" (خلود ص 165)
"كان علي مشاورة دلال قبل حضوري، كنت أرغب بمفاجأتها بهذه الزيارة، أن أسعدها، بأنني صرت قريبا من أسرتها، بأنني تقدمت بطلب يدها...هي مفاجأة فعلا، ولكنها مفاجأة سيئة على ما أظن، سوف تعتبرها دلال خطوة تدميرية لعلاقتنا مع أسرتها، سد عال أمام تلك العلاقة، عقبة يصعب تذليلها..." (خلود 166)
"هو(أخو خلود) من سيجد شريكة حياته، وسوف يأتي يوم ويقابل المرأة التي تخطف بصره وقلبه في آن معا، وعندها يتحقق فقط حلم والدتي بتزويجه..." (خلود 173)
"أنا أعرف كم أنت خائفة، وأنا أيضاً خائف، ولكننا لن نهرب من خوفنا، علينا مواجهة هذا الخوف، لأن ما يخيفني أكثر هو ضبابية الحياة هنا في عمان ، بل إن حلمي بدأ يضمحل شيئاً فشيئاً، أنا لا أجد نفسي هنا، أشعر كأن حدود حلمي تنتهي قبل أن تبدأ، لا سماء ولا هواء ولا شجر، المدينة هنا لا تعرفني، ولا أنا أعرفها، لم تسمح لي مشاعري بالتعرف على غير القدس مدينة أعيش فيها، كما تعيش هي في، ولا يمكن لمن عشق القدس أن يعشق غيرها" (خلود ص 79).
"ولا بد من أن تتحرك الشخصيات في مكان لصنع الأحداث و"يصبح المكان وسطا ً حيويا ً تتجسم من خلاله حركة الشخصيات التي تأخذ في مسارها خطا ً مزدوجا ً متناقضا , إذ تبدو أحيانا ً متداخلة ومتشابكة, إلا أنها في أحيان أخرى تبدو متنافرة ومتباعدة فتظهر في شكل وحدات درامية منفصلة:( توحي بمدى ما تتميز به كل شخصية من استقلال واكتفاء, ومن ثم فهي رهينة عالمها الخاص وتجربتها الإنسانية الفريدة" (13)
الزمن التراجيدي في الرواية المعاصرة، سعد عبد العزيز, ص 79 ، مكتبة الانجلو المصرية, المطبعة الفنية ,1970.
وللمكان بعد نفسي داخل النص, إلى جانب وظائفه الفنية وأبعاده الاجتماعية والتاريخية والأيدلوجية التي ترتبط بالمكان ولا تفارقه, فالتركيز على المكان من الاستراتيجيات النصية المهمة التي تلجأ إليها الكتابات الجديدة، فمدينة القدس في روابة خلود. لم يعد المكان ممثلا ً للإطار الذي تجري فيه الأحداث وتتصارع فيه الشخصيات, بل إنه قد يكتسب سمات الشخصية الحية, إذ يتم تحديد أدوار الشخصيات الروائية وفق عمق ارتباطها بالمكان, مما يدفع الكاتب إلى إضفاء صفات خيالية على خصائص المكان الفعلية, وبناء المكان في النص .. يتم على أساس التخيل المحض, إلا أنه لا يمكن أن يكتسب ملامحه وأهميته بل وديمومته إذا لم يتماثل بطريقة أو بأخرى مع العالم الحقيقي خارج النص, فهو يوصل الإحساس بمغزى الحياة ويضاعف التأكيد على تواصلها وامتداداتها.(14)
ينظر: البناء الفني في رواية الحرب- دراسة لنظم السرد والبناء في الرواية العراقية المعاصرة، عبد الله إبراهيم، ص 12، دار الشؤون الثقافية- بغداد
الشخصيات
ويعد المكان من العناصر المهمة في بناء الشخصيّة الروائية فلا يمكن أن توجد شخصيّة بدون مكان. فالمكان فضاؤها وحيّزُها الذي تتحرك فيه، فهوَ لا يقلُّ أهمية عن دور الزمان في بناء الشخصيّة، فكلاهما يشكلان دوراً ذا أهمية كبيرة في بناء الشخصيّة وهما متصلان ومتلازمان "فلا يمكن تناول المكان بمعزل عن تضمين الزمان كما يستحيل تناول الزمان، في دراسة تنصب على عمل سرديّ، دون أن لا ينشأُ عن ذلك مفهوم المكان، في أيّ مظهر من مظاهره"(15)
في نظرية الرواية -بحث في تقنيات السرد، د. عبد الملك مرتاض، ص 227، عالم المعرفة، الكويت، 1998.
"ومن الجدير بالذكر أن تجربة الإنسان التي يعيشها ضمن ظروف معينةٍ وعامل الحس الإنسانيّ في نفس الإنسان قد يدفع إلى الميل نحو الزمان أو المكان. تقول نبيلة إبراهيم: "إنّ تجربة الإنسان مع الزمان أو المكان تعتمد إلى حد كبير على ميل الحس الإنساني نحو الزمان أو المكان"(16).
فن القص في النظرية والتطبيق، نبيلة إبراهيم، ص160، مكتبة غريب، مصر، د.ت.
وقد يرتبط الزمان مع المكان في العمل الروائيّ وهذا ما يطلق عليه "الزمكان الروائيّ" الذي يعني -على حد تعبير "باختين": "العلاقة المتبادلة الجوهرية بين الزمان والمكان المستوعبة في الأدب استيعاباً فنيّاً"(17).
أشكال الزمان والمكان في الرواية، ميخائيل باختين، ترجمة: يوسف خلاق، ص 5، وزارة الثقافة، دمشق، 1990
وفي الرواية تظهر الشخصيات التالية:
"الراوي، وأخته، والحبيبة، والأم "أم حكيم" وأبناء أسرتها ووالدها وجدته وأعمامه، الأب في الخمسين من عمره وأخوته وأخواته، الجار أبو زهير وزوجته وابنه زهير وأخته سهام، جنود الجيش المحتل، الرجال الذين أجبروا على التجمع في الساحات، الأخ الصغير والأصغر، وامرأة تحمل بين أحضانها طفلين صغيرين، وعجوز تمشي بمعاونة حفيدها، ورجال فقدوا شهية رجولتهم، وأطفال صودرت طفولتهم، وصبية تائهون حائرون، وأطفال حفاة ممسكين بأطراف ثوب أجهضته الأوساخ، وشيخ يتكئ على عصاً، أبو حليمة بائع الحلاوة بسمسمية، الحاج أمين الحسيني، السائق، مصطفى بن خال الراوي وأبيه، وأبو عطوان، طلاب المدرسة، بنت الجيران، أولياء أمور الطلاب، الباشا صاحب الفندق، والفتاة خلود التي قابلها السارد هناك وضاجعها، ووالدها ووالدتها وأخوها وليد وأطفالها وأختها وزوجها وعمها، مدير الاستقبال في الفندق، ابنة عمة السارد ليلى وخاله "أبو مصطفى" وزوجته، ابن خاله مصطفى، الحدود، جمال عبد الناصر، أم سعيد وابنها سعيد، مجموعة من الصهاينة، من المناضلين:عبد الله، وسعيد، ومحمود،والشهيدة لينا النابلسي، رهبان وراهبات وقساوسة ومطارنة، الأستاذ محمود، ستة عمال استشهدوا على أطراف غزة، سائق شاحنة عسكرية، السلحوت، أحد العمال التايلنديين، السياح، السماسرة وسائقو الدرجات النارية، ياسر عرفات، الباعة في تايلند، عبد الله ميناس وزوجته وحماته وعمته وبناته الثلاث، دكتور العائلة، أحد العمال العرب، الدكتور غسان، رجال الإصلاح بين الناس.
وأغلب الشخصيات ثانوية، ومعظم الأحداث تجري على لسان الراوي، وتظهر شخصية الأم والأب وخلود.
وتمثل شخصية الأم التجذُّر في الأرض، فيصفها الراوي بقوله:
" كانت بئر أسراري، كنت أُحدِّثها عن مكنونات صدري وأصف لها مشاعري، وآخذ رأيها في منعطفات حياتي، كانت تُبدي لي النصيحة التي غالباً ما آخذ بها، لقد كانت سديدة في رأيها... لم تستعجل الأمور، متأنية، صادقة مع نفسها ومع من حولها، لم أنس قرارها المصيري بعدم ترك المدينة مع من تركوها في حزيران من العام سبعة وستين وتسعمائة وألف، حين أراد والدي النزوح إلى عمان، قالت له:
- لن نترك هذه المدينة أنا وأبنائي، هنا ولدنا وهنا نموت...
كانت رابطة الجأش، قوية العزيمة، نافذة البصيرة، متماسكة في أصعب الظروف، شديدة الثقة بنفسها، وتُقدر من حولها... (خلود ص 14،15).
"ولكنها تذكر تماما تلك المعاناة التي حُفرت في بؤرة ذاكرتها ونُقشت نقشا في مخيلتها، وها هي الأحداث تعيد نفسها فتتكرر المعاناة ويزداد الألم بعد أن اتسع الجرح"(خلود ص 23)
وتمثل خلود: خلود الفلسطيني في عشقه لوطن وتمسكه بحبات ترابه وتعلقه بوطنه الحبيب، فهي لا تريد احتلالا غاصبا ولا زوجا بلا حب ومشاعر:
""هي (خلود) تحاول جاهدة التأقلم مع حياتها المفروضة عليها، وأن تقبل بقدرها، حتى أنها جعلت من ممارستها للحياة ممارسة ميكانيكية، بأن سلخت واقعها عن مشاعرها وأحاسيسها وكل ما له علاقة بحبها وبرغبتها المتولدة من هذا الحب، جعلت من نفسها آلة همها الوحيد التعامل مع أسرتها بما يتطلب منها الوضع الاجتماعي، تخدم أولادها وزوجها بجسد لا تحركه الروح، وعقل متجمد، وحركات لا إرادية، هكذا صارت بكل بساطة كما يريدها الجميع أن تكون، آلة، بلا إرادة، بلا أحاسيس، جسد على شكل جسد، فارغ من الحياة، محنط، بلا لون ولا رائحة." (خلود 143، 144) .
ويمثل الأب: الإنسان المكافح من أجل أن يوفر لأسرته مقومات الحياة بكرامة.
وتمثل أم خلود: الدول العربية التي تنكّرت لمعاناة فلسطين مما جعل"خلود" تنفصل عن العائلة، وتهيم على وجهها، تجابه الأخطار والعواصف وحدها، هي ومن أحبها من أبناء الوطن.
ويمثل عم "خلود" وهو والد زوجها الدول العربية التي تحاول استثمار قضية فلسطين لصالحها حتى لو أدّى ذلك لضياعها وامتهان كرامتها.
الراوي العالِم بكل شيء:
وتجري أحداث القصة على لسان الراوي العالم بكل شيء في نفوس الشخصيات، وقد استخدم الراوي ضمير المتكلم "أنا".
(وغير خاف على أحد أن ضمير المتكلم أدى هنا مهمّتين، الأولى هي أن الشخصية الروائية أكثر دراية بعواطفها وأحاسيسها وأفكارها من أي إنسان آخر؛ لأن هذه الأشياء خاصة بها وحدها. ويستطيع الروائي ضمان قدر أكبر من قناعة القارئ بالشخصية إذا تركها تعرض أفكارها بنفسها، وتُحلّل أمام القارئ أحاسيسها وآراءها وتأثير واقعها في حياة أسرتها. فإذا قدّمت ذلك كله ضمنت للروائي موضوعيّة عرض الشخصية دون تدخُّل منه. أما المهمّة الثانية فهي قدرة ضمير المتكلم على ضمان تقديم الشخصية من الداخل إلى الخارج وليس العكس. وهذا الأسلوب في التقديم يبني شخصية متكاملة حيّةً لا يستطيع الناقد العزوف عن تحليلها في مقارباته النقدية للنصوص الروائيّة، ولا يملك غير تخصيص فصل يخصُّ الرُّؤيا الرّوائيّة وحدها.(18)

الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص ،179 ، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق – 2003
العلاقة بين السارد والروائي (مؤلِّف الرواية)
اهتمَّ نقّاد السرديّات، ولاسيّما البنيويون، بالعلاقة بين الروائي (مؤلِّف الرواية) والسّارد (الذي يتولّى مهمّة سرد الحكاية داخل الرواية). ونتج عن هذا الاهتمام اجتهادات كثيرة، ومناقشات مستفيضة، ذهب بعضها إلى موت المؤلِّف (بارت) ومسؤولية السارد عن الرواية كلّها. واعترف بعضها الآخر (تودوروف) بالمؤلِّف وسمّاه المؤلِّف الضمني، وخصَّ السارد بمهمّة تقديم الحكاية، أو سردها على المسرود له. ودمج بعض ثالث (جنيت) بين المؤلِّف والسارد، فعدَّ المؤلِّف صاحب الرواية، وعدَّ السارد شريكاً له فيها. وما من شكّ في أن هذه الاجتهادات وغيرها أسهمت في ترسيخ مفهومات سردية جديدة، وحفزت على مناقشتها. بيد أن القضيـة، في أثناء تحليل النصوص الروائيـة، لا تكمن في الانحياز إلى اجتهاد من هذه الاجتهادات (الغربية مولداً ونشأةً)، ولا في تلفيقها، أي الجمع بينها، بغية الإفادة منها كلّها، بل تكمن في طبيعة النصّ المحلَّل، وفي قدرة المحلِّل على تفكيكه وإعادة تركيبه بعد تمثُّله المفهومات السردية.
ولاشكّ عندي في أن الروائي هو الذي يبدع روايته، ولكن طبيعـة الإبداع السردي التخييلية تدفعه إلى بناء مجتمع روائي يُوهِم بالمجتمع الخارجي الحقيقي، وتجبره على ألا يُحرِّك هذا المجتمع بنفسه، بل يتركه للسارد ليتصرَّف فيه كما يشاء الروائي، مما يجعل السارد جزءاً من اللعبة الروائية التخييلية، ويُحدِّد مستوى الرواية الفنيّ تبعاً للمكان الذي وضع فيه الروائي سارده، واستناداً إلى قدرة هذا المكان على الإيهام باختفاء الروائي وبمحدودية عِلْم السارد.(19)
الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص ص32، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق - 2003
الروائي سمير الجندي لا يختلف عن الروائيين العرب الآخرين في أنه لم يرغب في إدارة دفّة روايته (خلود) بشكل مباشر، ومن ثَمَّ اصطنع بوساطة اللغة سارداً ذا مهمّة محدّدة، هي تنظيم تقديم الحكاية الروائية للقارئ. وهـذا السارد جزء من اللعبة الروائية التخييلية، ولكنه ليس جزءاً من الحكاية الروائية. والملاحظة الرئيسة هي علاقة هذا السارد بالمسرود، أي الحكاية الروائية التي انتدب سمير الجندي -انتدب السارد لتقديمها للقارئ. وسأسعى ههنا إلى تقديم وجهة نظر في قدرة الروائي سمير الجندي على الاختفاء وراء السارد الذي ابتدعه، بغية التمهيد للحديث القابل الذي سيتكفَّل بالإشارة إلى مدى عِلْم السارد.
فبينهما تطابق شكلي، فالروائي سمير الجندي فلسطيني، وكذلك السارد، وكلاهما يعيش في القدس، ووالد كليهما فاقد للنظر، وأمّ كل منهما من قرية زكريا المحتلة عام 1948، وقد جاء على لسان الأم: "هي قصتنا تتكرر يا بني، أخذت تعيد شريط ذكرياتها ، رجعت إلى طفولتها عندما تركت بيتها مع من بقي على قيد الحياة من أبناء أسرتها في قرية زكريا... "(خلود ص 23) وكلاهما شاهد النكسة واصطلى بلهيبها، وكلاهما كان عمره عشر سنوات عام النكسة، وكلاهما درس الابتدائية في المدرسة العمرية في القدس.
ولاشكّ في أن معرفة الروائي سمير الجندي للحارات والأزقة في القدس قد تسرَّبت إلى رواية (خلود) بوساطة السارد الذي فضح نيابته عن الروائي سمير باستخدامه معارف الروائـي وأهله وخاصته الذي يختفي وراءه. ولو اختير عنوان الرواية (حياتي) مثلا للرواية لافتُضح أمر المختفي، وابتدأ خيط جديد من التحليل يتعلّق بالرواية السيريّة، أو الرواية التي تضمّ قدراً من سيرة صاحبها، كما هي حال الروايات الأولى للروائيين في الغالب الأعم.
أما التشابه الفلسفي بين الروائي سمير والسارد فواضح من رؤيا كلٍّ منهما للعالم. فسمير الجندي شخصية روائية تملك رؤيا إنسانية وطنية للعالم، وهي رؤيا تنطلق من أن الإنسان خيِّر، يستحقّ أن يعيش بأمان بعيداً عـن الظلم وضرورات الحياة المادية، حالم بالحب والحنان، يكره الظلم والعدوان وامتهان الأوطان واحتلالها، ولا يكفّ عن مساعدة الآخرين والإحساس بهم وبهمومهم، وتلتقي هذه الأفكار بأفكار السارد.
إن العلاقة بين الروائي والسارد حتمية، ولكنها علاقة إبداعية تخضع لشروط الإبداع الروائي وإجراءاته. وقد حرص الروائي سمير الجندي على أن يُبْعِد القارئ عن التشابه بينه وبين شخصية السارد، باختياره "خلود" عنواناً للرواية. بيد أن تفكيك نص الرواية يحيل إلى أن الرغبة شيء وتجسيدها شيء آخر، ومن ثَمَّ يفتح كوّة الرواية السيرية. (20)
ينظر: الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص33-35، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق - 2003

الأحداث
فالمكــــان هو الإطــار المحدد لخصوصيــة اللحظة المعالجة, والحـــدث لا يكون في لا مكان بل إنه في مكان محدد, والبنية المكانية لنص من النصوص هي " تحقق لأنساق مكانية أكثر عمومية – قد تكون هذه الأنساق إما نسقا ً مجملا ً لأعمال كاتب معين, وأما نسق تيار من التيارات الأدبية, وإما نسق ثقافة من الثقافات الإقليمية – وتتمثل دائما ً هذه البنية صيغة من صيغ النسق العام, غير أن المكانية الخاصة تدخل أيضا ً وبطريقة محددة في صراع مع هذه الصيغة من خلال تحطيم أوتوماتية لغتها"(20).
مشكلة المكان الفني، يوري لوتمان – ت: سيزا قاسم – مجلة ألف باء – ع6 – 1986م : 81 ، وينظر: الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا : ص 171 .
والأحداث تجري بصورة منطقية، تقع حرب عام ألف وتسعماية وسبعة وستين، وتحتل إسرائيل القدس ضمن ما احتلته ويأتي عام النكسة بعد مضي تسعة عشر عاما من نكبة عام 1948، وتصور الرواية الأيام العصيبة يوم النكسة، وحالة الخوف والذعر والقتل والنزوح الذي صاحبها مع العودة لبعض الإشارة للقتل والترحيل عام 1948.
كما تصور مقاومة الأهل للمحتل وحالة الثبات وتجذر الأهل في فلسطين، وخروج البعض من أبنائها للتعليم خارج الوطن، كما تصور أحياء القدس وحاراتها ومدارسها ودور عباداتها، وتفريغها من ساكنيها العرب، ومنع المحتل للمواطنين العرب من دخولها إلا بتصريح خاص، كما تبين حاجة المستشفيات والمدارس للأجهزة التقنية والوسائل العلمية المساعدة، وتنتهي الرواية بتلاحم الأهل في المكان، في فلسطين وفي القدس، حيث يحاول المحتل سرقة أسمائها وتحريف تاريخها بغية السيطرة عليها وعلى تراثها وتاريخها كليا.
التشويق:
لجأ الراوي لعنصر التشويق وحرص على توفيره للمتعة والإثارة، فابتدأ الرواية بالتغني بالمحبوبة وإظهار جمالها بأسلوب بليغ وبوصف محبب للروح والنفس، لكن التحليل المعمّق يرى أن المحبوبة هي القدس، هي فلسطين، واستمر الراوي في الحديث عن المأساة الفلسطينية، وكلما شعر الراوي بتوتر المتلقي نتيجة للألم الذي يلحق به خلال شريط الأحداث وما فيه من ظلم وتدمير نفسي واحتلال أرض وامتهان كرامة، كان الراوي يعرج لقضية حبه لخلود ليزيل التوتر والقلق والعناء الذي لحق بالمتلقي وهو يتابع الرواية، ففي صفحة 58 من الرواية عرّج الراوي لعنصر التشويق بتصويره للقاء حب مثير مع من أحب وهي خلود، واستمر اللقاء الذي وصفه الراوي من صفحة 59 – ص 66، ولنستمع للحظة لقاء الراوي بالمحبوبة ووصفه العذب لجمالها وإثارتها؛ من أجل توفير عنصر التشويق:
"لقد أعجبت بشخصية هذا الرجل"صاحب الفندق" وكياسته، ولكنني لم أحدثه بكلمة طيلة فترة عملي قبل أن أفصل منه... فقد جاءني قرار الفصل من مدير الفندق، صباح ليلة قضيتها في الغرفة رقم (16) مع فتاة من نزلاء الفندق، كانت فتاة لم أقابل أجمل منها في حياتي، قامتها ليست طويلة، وبنيتها قليلة، وهيئتها مثل تمثال من المرمر، آية من الجمال، نُحت بيد فنان ايطالي من فناني القرن السادس عشر، شعرها أحمر كالياقوت، في عينيها سحر آسر، صدرها قد استكمل استدارته كقبتي من النحاس المصقول، شفتاها ورديتان برائحة المسك والعنبر، عيناها واسعتان بلون سواد الليل، تعانقت عيوننا والتحمت أجسادنا التحاماً كأن الشاطئ بالشاطئ اصطدم، وغرقنا في نشوة ألهبت كل ما حولنا، غطاء السرير، وسادة تقاسمناها، اختل توازن مرآتها ، تناثرت الأوراق والأسماء، والمساحات ضاقت، لم يعد هناك لغة غير لغة الجسد، تفوقت الطبيعة على كل القيم، جفت الكلمات فلم يكسر سكون الليل إلا صوت نشوتنا وثرثرة القبل التي تبعثرت على مساحات الجسد، وآهات تذيب الصخر، غرزت أناملها الطرية في جسدي وهي تشدني إليها حرصا على نشوتها، أخذ جسدها يثور، يتحفز لجولة أخرى، تدحرجت من طرف عينها اليسرى دمعة، احتضنتني بكل حنان وهي تقبلني، وتلثم شفتي ووجهي وعنقي، أغمضت عينيها وغابت في نوم عميق وبسمة رُسمت على محياها الجميل الغض الذي كانت تفيض منه رائحة اللوز.
نزلت من غرفتها قبل موعد الإفطار بنصف ساعة تقريبا، ظناً مني بأن لا أحد في بهو الفندق، غير أن ظني لم يكن في محله، إذ أن مدير الاستقبال في الفندق كان ينتظرني بجانب المصعد، فقال لي دون مقدمات:
- اجمع أغراضك وغادر الفندق، لقد تم فصلك من العمل، لم أجادله، تركت الفندق من فوري، وذهبت إلى جامعتي ولكن طيفها لم يغادرني لحظة واحدة، فقد قالت لي أنها مسافرة إلى "نيويورك" صباح هذا اليوم فلم يتسن لي وداعها، وكنت قد نسيت قصاصة الورق التي دونت عليها عنوانها، فقُطعت عني أخبارها". (خلود 61-63)
وبعدها خرج لموضوعه الرئيس وهو الوطن وما يعانيه أهله من جور الاحتلال وتصوير حال الوطن الذبيح حتى صفحة 125، حيث شعر بالقلق يحدق بالمتلقي من خلال تصوّره للمآسي المتلاحقة والمؤسفة، فأدرك الروائي سمير الجندي حينها أن المتلقي بحاجة للحظة يزيل المتلقي عن نفسه قلقه وتوتره، فعاد لخلق عنصر التشويق ولقاء الحبيبة بعد خمسة عشر عاما من الفرقة وتصويره للقاء في صفحات غير قلية:
وبعد يومين من لقائهما الثاني يلتقيان مرة ثالثة: "ومع كل نشوة ضممتها وحضنتني، عاد إلي ذلك الإحساس الجميل الذي عاش في تفكيري وسكن باطن نفسي، ونقش نقشا على قلبي، عاد كما كان في الغرفة 16. كم أُحب هذا الرقم الذي ارتبط بها، بحبي الأول وعشقي الأبدي، كيف يدور الزمن وهو يحمل كل هذا القدر من المفاجآت!" (خلود ص 128)
وبعدها عاد لموضوع الرواية الرئيس واختتمها بالحديث عن فراق خلود لزوجها والتحام الراوي بوطنه.
الحوار:
إن تقنية الحوار عنصر تكويني مهم في بناء الرواية وهو وسيلة بيد الروائي الجيد، تجسد رؤيته للكون وإحساسه بالحياة، ومهارته في رسم أبعاد شخصياته الروائية وإمكاناته الفكرية وقناعاتها. وهي مهمة للقارئ الذي يعتمد إقباله على قراءة الرواية على جاذبية الحوار وقدرته على الإقناع والإثارة، ومن هنا يتنوع الحوار الروائي، ويتعدد وفقاً لقربه من الحدث أو بعده عنه، ووفقاً للوظيفة البنيوية التي يؤديها للسرد. وله أهمية كبيرة في بنية الرواية، فهو من أبرز التقنيات السردية للتعبير عن الذات وعن الوعي الاجتماعي بكل تفاعلاته المختلفة وبكل تناقضاته أيضاً.
ومن نماذج الحوار الخارجي في رواية خلود والذي يصور جمع المحتل للعرب في ساحة في القدس خلال حرب عام 1967:
"قبض أبو زهير على يدي وشدها حتى خيل إليَّ بأنه ينتزعها من مكانها، وهمس بأذني قائلاً: - ابق هنا بجانبي، لا تتحرك.
بعد أن أنهى الجندي تهديداته، صرخ قائلاً:
- هيا تفرقوا ... تفرقوا ... تفرقوا ... (خلود ص 19)
ومن الحوار في رواية خلود:
قالت أختي:
- أسمعت ما قاله السائق العجوز؟
- نعم، وعلينا العودة فورا..." (خلود ص 33)
ومنه ما جرى بين الراوي الذي حاول شراء علبة علكة كي يبيعها ولم يكن يملك كامل ثمنها:
"نظر إليّ (البائع) قائلا:
- هذا لا يكفي، فثمن العلبة عشرون قرشاً، أطرقت صامتاً وهممت بالخروج، فقال لي:
- اسمع يا بني، أنا أعطيك العلبة، ويبقى من ثمنها عشرة قروش دين عليك، فإذا انتهيت من بيعها، تدفع لي الباقي." (خلود ص 38)
ومنه الحوار الذي جرى بين الراوي ومدير التربية بعد أن اقتلع الأول الأشجار لتوفير ساحة للمدرسة:
فقال لي مدير التربية:
- كيف تجرؤ أن تفعل ما فعلته دون إذن مسبق؟
قلت:
- لقد قال لي المدير عليك التدبر، فهذا شأنك عندما سألته أين أعطي حصة التربية الرياضية إذ لا توجد ساحة في المدرسة؟
فكان تدبري على ما رأيت.
قال:
- أتُحضر الجرّافة، وتقص الأشجار، وتقلب المدرسة بدون سؤال ولا جواب؟
- وماذا أفعل غير ذلك، لقد اجتهدت، ورأيت أن المدرسة بدون ساحة لا تكون مدرسة.
قال:
- اذهب الآن، وسوف أنظر في أمرك لاحقا."(خلود ص 99)
النجوى
قلت في نفسي : تُرى من هذا المتصل؟ أيكون من أفكر به؟
من يا ترى يتصل بي دون أن يُظهر رقمه؟!(خلود ص10)
المضمون
تُظهر الرواية المعاناة القاسية التي يعاني منها الفلسطينيون في وطنهم المحتل، ففي حرب عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين، وتبين مدى تضليل الإعلام العربي للمواطن، وتظهر المفارقات الجسيمة:
"كنا داخل ذلك الملجأ النتن، الذي تفوح منه رائحة كريهة تقتل كل مشاعر الأمان والجمال والحياة، وبينما كان مذياع أبي زهير ينشد بصوت عال:
"ع الميدان يا ابن الأردن ع الميدان..."
فإذا صوت يعلو منادياً عبر مكبرات الصوت:
- على جميع الرجال والشباب الخروج من المنازل والتجمع في الساحة فوراً ... (خلود ص18)
يتهامس الرجال بصوت يشبه الهمهمات... هم اليهود وقد احتلوا المدينة، وهاهم يجمعون الرجال في الساحات، جنود مدججين بالأسلحة التي لم أتعود رؤيتها من قبل، يضعون على رؤوسهم الخوذ السميكة، ويوجهون بنادقهم نحونا ... وقف الجندي الذي يحمل بيده مكبراً للصوت يقول:
- نحن " جيش الدفاع الإسرائيلي " نحذركم ... نأمركم بترك منازلكم خلال ثلاث ساعات وإلا سوف نهدمها على رؤوس من فيها... (خلود ص19)
ويصف الراوي وجوه المقدسيين وبعض مآسيهم بُعيد هزيمة حزيران:
"وجوه الرجال غيرها قبل خمسة أيام، لا أدري ماذا حلّ بها فقد صارت هزيلة، وألوانها غريبة ورائحة الحموضة تفوح من الأجساد، كرائحة الخضار المتعفنة، عيونهم متعبة ناعسة، وحول العيون ذلك اللون الأسود الذي يكوّن إطارا من التعب والخوف والرهبة من المجهول، فمعظم الرجال الذين تجمعوا في الساحة عاشوا عذابات الشتات والهجرة القصرية عام ثمانية وأربعين..." (خلود ص 18،19)
"كان هناك الكثير من الجثث لأناس كانوا قبل أيام قليلة يتحركون ويحلمون مثلنا، قال أبي:
كنا نسير بين الجثث، رائحة الموت سيطرت على كل شيء، الهواء والسماء والشجر، قتلت كل الأحاسيس، قتلت الخوف أيضا، لم يعد لدينا قدرة على المضي بسبب عائق أو جثة ملقاة على قارعة الطريق، فينزل بعض الركاب لفتح الطريق أمامها، كانت الجثث بكل الألوان، منها ما هو متفحم، ومنها ما هو أزرق، ومنها ما هو بدون لون أو حتى رائحة، نزلنا من الحافلة المكتظة بالناس، نساء ورجالا وأطفالا وشيوخا وعجائز، نزلنا قبل أن نصل إلى جسر نهر الأردن الخشبي بعشرات الأمتار" (خلود ص 32)
ويصف الراوي حالة الهلع والذعر التي حلّت بالفلسطينيين وهم في طريقهم للجوء:
" فكان قرارنا أن نترك الحافلة، ونزل آخرون مثلنا، عدنا أدراجنا، ولكن ليس بالسهولة نفسها، كان علينا السير على الأقدام، التمسنا خطواتنا بين الجثث، وأجزاء الآليات المدمرة، والطائرات تحوم فوق رؤوسنا على مستويات منخفضة، كانت الطائرات تقذف كل سيارة أو آلية تتحرك باتجاه القدس، أدركنا ولو متأخراً أن طريق عودتنا إلى القدس محفوف بالمخاطر الكبيرة، انتظرنا حتى يعم الظلام، فالسير ليلا أكثر أماناً، كنا متعبين لدرجة الإرهاق، جلسنا بجانب صخرة على حافة الشارع، وما كاد الظلام يبتلع المكان حتى سمعنا صوتا قادماً باتجاهنا، أدركنا أنه صوت جرار يسير بدون إنارة، كان محملا بالكثير من الناس، ركبنا على غطاء دولابه الخلفي، إذ لم يكن متوفرا غير هذه المساحة للجلوس عليها، أو نكمل طريقنا سيرا على الأقدام، أشار لنا الركاب بأن نلتزم الصمت، حتى نسمع صوت الطائرات عندما تقترب من المكان فيطفئ سائق الجرار المحرك، وهكذا استمر الأمر إلى أن وصلنا مشارف العيزرية..." (خلود ص 34)
ويهدف المحتل دوما تفريغ الأرض من ساكنيها:
"فقط الطريق متاحة لمن يغادر باتجاه الشرق، خارج حدود الوطن" (ص 34)
ومن مضامين الرواية تجسيد المأساة الفلسطينية إثر الاحتلال وتصويرها:
"لقد تشردت(الأمّ) وعاشت برد الشتاء القارص، وحر الصيف اللافح في خيمة تقاسمت عذابها، وبؤسها، مع أطفال في مثل سنها، وشيوخ دَفنوا أبناءهم، فتحجرت دموعهم في مآقيها، ونسوة جف حليب أثدائهن حزنا على أزواجهن الذين فُقدوا للأبد، أو استشهدوا، كانت آنذاك طفلة في الخامسة من عمرها.. (خلود ص 23)
" وكلما سرنا سار معنا العذاب، صرنا على موعد مع القهر، فجأة أصبحنا بلا مأوى، بلا بيت نركن إليه، أين سأضع جسدي إذا ما شعرت بالنعاس؟
أين أركن حقيبتي المدرسية؟
كيف أتقي لسعة برد الفجر؟
كيف أُسكت ظمئي؟
لقد نسينا أخذ "طبلية" الطعام التي تجمعنا على العشاء كل ليلة!! فهل سنجتمع على العشاء من جديد؟
"هل سيكون عشاء بعد الآن!!!" (خلود ص 28)
(عدنا إلى الملجأ، وهو عبارة عن إسطبل تقاسمناه مع حمير وبغال الحاج عطوان، يحمينا من القصف والدمار.. كان معتماً، قذراً، لم تغادره رائحة الروث رغم محاولات تنظيفه المتكررة، يقع تحت منازل الحي في حوش الغزلان، داخل دهليز معتم، لا يبعد كثيراً عن فُرن الحاج يِّتمْ، ومنزل "الست أُميلا" (الداية) التي ولَّدت معظم نساء الحي والأحياء الأخرى في البلدة القديمة، بل إن سمعتها وصلت إلى خارج المدينة...
للملجأ بوابة واحدة، ضخمة، أرضيته من التراب المشبع بالبرودة، وجدرانه عارية، تبرز حجارته من كل جانب، بعضها صغير بحجم حبة جوز الهند، وبعضها ضخم كتلك التي بني منها سور القدس، ولا توجد له منافذ أو فتحات...
اختلطت رائحة الروث الحادة برائحة الأنفاس، امتزجت مع الخوف، وانتظار المجهول الذي يقع تحت جلودنا الملتصقة بجدران الملجأ الباردة، كانت أعداد الأطفال كبيرة جدا يصارعون الجوع والعطش والحبس ببكائهم المتواصل، كان الرجال يتبرمون من بكائهم في البداية ولكنهم تعودوا عليه بعد ذلك، وكانت الأمهات تحاولن إلهائهم بأثداء فارغة من كل شيء ما عدا الخوف الممزوج بالحنان...
كان قبل كل انفجار يصدر صفيراً مرعباً يعقبه دعوات وصلوات، فنلتصق بأجساد أمهاتنا مرعوبين خائفين، وتهتزّ الجدران كمن يطوح بها، فيصفق الباب معلناً سقوط قذيفة أخرى في مكان ما...تمتمات وأدعية وخشوع وخوف، وانتظار... انتظار صفير آخر...وموت آخر...وألم آخر." (خلود ص21)
وتظهر الرواية النزعة القومية والتمسك بعرى العروبة، فهاهو الراوي يصف لحظة عثوره على علم أردني مدفون:
" كان مدفونا تحت التراب ولم يظهر منه إلا طرفه، أخذت أزيل عنه التراب تارة وأسحبه تارة أخرى، كان العرق يسيل من رأسي، وأخذ قلبي يزداد خفقانا، ودارت في رأسي الأحلام، وارتسمت على هامتي مراسم الكبرياء والأنفة...
أخيرا استطعت إخراجه، طويته وخبأته تحت قميصي، وتركت المكان مسرعا إلى البيت، دخلت غرفتي غلّقت بابها خلفي... فرشته فوق السرير، كان علماً أردنيا، أخذت أزيل النجمة السباعية البيضاء التي تتوسط اللون الأحمر حتى حررته للمرة الثانية هذا اليوم. ابتسمت وأنا أنظر إليه فخيل إلي انه يريد عناقي فابتسمت له ابتسامة عريضة، غسلته من آثار الماضي، ثم وضعته داخل كيس من النايلون وأودعته المزراب." (رواية خلود ص 56)
وتبيِّن الرواية حالة التجذُّر في الوطن وتحمّل الاعتقال والسجن والضرب والتنكيل، ويصور ذلك الحوار الذي جرى في عمان بين كل من الراوي وليلى:
الراوي: "- نعم، ولكن ما قيمة الإنسان بدون وطن؟
ليلى: - كم مدة الاعتقال التي تتوقعها؟
- لا أعرف، ربما سنة أو سنتين .
- إذا كان الأمر كذلك فلا مانع عندي من أن نعود، ولكن إذا كنت ستقضي سنوات طويلة في المعتقل فالأحسن أن نبقى هنا في عمان، حيث لنا أصدقاء وأهل، وعملك جيد ومكسبه ممتاز.
- ولكن هناك القدس مسقط رأسي وأهلي وعزوتي، وبيتي، وحارتي وجيراني، هناك أستطيع ملء رئتيّ هواءً نقيا، تطيب له نفسي وتطمئن له إرادتي، هناك الناس الذين يفهمون لغتي وأفهم أنا لغتهم، هناك ذكرياتي المحفورة على كل ركن من أركانها.... - أجل، قلت لك ذلك كله، وما زلت عند رأيي، إلا أنني أحن كثيرا إلى القدس، وحاراتها وأزقتها، أتوق للجلوس تحت شجرة البيلسان الصامدة رغم العواصف والأعاصير التي تحيط بها من كل جانب، أشتاق لأحاديثها، ونسماتها، ورائحة عبيرها،لا يغادرني طيفها. (خلود ص 72)
وجاء على لسان الراوي:
"نعم، لي دور، وعلي القيام به، أنا عازف منفرد، لا يمكن أن أعزف بمصاحبة آخرين، لأن النغم يصبح نشازا، لأنهم لا يتقنون قراءة "النوتة" الموسيقية التي ألفتها لحظة هدوء مع النفس، ألفتها لتعزف من قبل عازف واحد، وهذا أنا، أعزفها ويطرب على نغمها الشهداء، هم وحدهم الذين يستطيعون الغناء، وأنا أعزف لهم تلك النغمة التي يبتسم لها التراب المقدس، نحن وهذا التراب امتزجنا امتزاجا عضويا، هو موجود إذا أنا الإنسان موجود، وهو مسلوب إذا أنا الإنسان مسلوب الإرادة والمكان...هذا طريق اخترته، وتركت كل المفارق، والتحويلات، والمؤتمرات، والجماعات، لأنني تعبت من كل الانتكاسات، والمؤامرات، لا أحب المفاجآت، هنا، أنا أقرر...( خلود187)
وتبرز رواية خلود التضحية والفداء من أجل تحرير الوطن والإنسان، ففي الحوار الذي جرى بين ليلى وبين الراوي في عمان والراوي والذي يظهر جزءاً قليلاً من هذه التضحية:
وجاء على لسان الراوي "دعينا لا نتنكر لمن ذهبوا، ولمن صاروا أوتادا في عمق ترابه، عبد الله، وسعيد، ومحمود الذي كان بطلا بكل معنى الكلمة، أذكر تماما عندما رأينا صورة لينا النابلسي على الصفحة الأولى لجريدة القدس، كانت جميلة جدا لم تنه الصف العاشر بعد، كانت ما تزال بزيها المدرسي المخطط باللونين الأبيض والأخضر، وها هي تُلف بالأربعة ألوان بعد أن قتلها جندي صهيوني أمام مدرستها بدم بارد، غلت الدماء في وجوهنا وعقولنا واشتعلنا غضبا وحزنا، استطعنا تجميع عدداً من الشباب والبنات وصنعنا لافتات عليها شعارات تندد بجرائم الاحتلال الصهيوني، تعبيراً عن استيائنا ورفضنا لكل أشكال القمع اليومي للاحتلال، خرجنا من الحرم الشريف قرابة الساعة التاسعة والربع صباح يوم الثلاثاء الثامن عشر من أيار لعام ستة وسبعين، مررنا عبر سوق القطانين صعودا إلى سوق خان الزيت عبر عقبة الخالدية ومن ثم عقبة السرايا فالقيرمي وعندما وصلنا إلى مفترق سوق العطارين وخان الزيت والدباغة؛ فوجئنا بمجموعة من جنود العدو، لا تزيد عن أربعة جنود، أخذوا بإطلاق الرصاص علينا دون سابق إنذار، فشاهدت صديقي محموداً قد سقط على الأرض، لم أدرك في البداية أنه تلقى رصاصة قاتلة في جبينه من الجهة اليسرى، حاولت مساعدته أنا ومن كان بجانبي وعندما وضعت يدي تحت رأسه كان دمه ساخناً وينزف بشدة، أٌحضر باب خشبي، وضعنا الجريح فوقه وطرنا به إلى مستشفى "الهوسبيس" في شارع الواد، كل ذلك ولم تصل الساعة العاشرة، أُعطي الجريح الدم اللازم، حاول الأطباء إنقاذه بكل السبل، خمس ساعات وهو بين الحياة والموت، إلى أن فارق الحياة في الساعة الواحدة ظهراً، فبكته كل العيون، وبكته السماء بأمطار غير معهودة بمثل هذا الوقت من شهر أيار، وبكته الأشجار، وبكته الأقدار وبكته حجارة المدينة، وسورها، وترابها، طيورها..(خلود ص78،77 )
ومن المضامين التي تحملها رواية خلود تعريف العالم بقضيتنا ونزاهتنا، وجاء على لسان الراوي وهو يتحدث مع السائحين الأجانب وقد غررتهم الدعاية الصهيونية وخدعت بصيرتهم:
"كنت أحدثهم عن المعاناة التي نشعر بها نحن أصحاب الأرض الشرعيين، كنت أدعو بعضهم إلى بيتي ومقابلة عائلتي حتى يتعرفوا عن قرب على حياتنا، وبأننا شعب يريد أن يحيا بكرامة على أرضه، يريد أن يقرر مصيره بنفسه دون وصاية من أحد كبقية البشر، نريد هوية ووطن" (خلود ص 97- 98 )
ومن المضامين الأخرى في الرواية التعريف بالإسلام في تايلند وتمسك المسلمين بعرى دينهم رغم كونهم في بحر طاغٍ من الكفر والإلحاد، وتبيان نظافة أهلها:
"- إن جميع أسماء الذكور نسميهم "عبد الله"، واسم آخر تايلندي يتبعه، فاسمي أنا هو" عبد الله ميناس". (خلود 116)
"لقد حافظت الجالية الإسلامية على مبادئها السامية في جو مسموم بالإباحية والرذيلة، وذلك بالإرادة والإيمان الحق، ونحن هنا في بلادنا العربية نستطيع اخذ الدروس والعبر من تلك الشعوب الفقيرة بأن نحذو حذوها وأن نتمسك بقيمنا العربية الإسلامية النبيلة، بدءا بأسرتنا الصغيرة وصولا إلى المجتمع بأسره..." (خلود 123)
التنبيه من بعض من يسمح لهم بدخول البيوت من الأقارب وتبيان مدى خطرهم ويمثل ذلك في الرواية عم خلود وهو والد زوجها بالتحرش الجنسي بخلود." (ينظر: خلود ص 144)
وتبيِّن الرواية شظف العيش والفصل العنصري ومنع العرب من دخول القدس، فها هو مصطفى بن خال الراوي لا يستطيع دخول القدس وزيارته:
" فقد كان يخاف "مصطفى" أن يمسكه جنود الاحتلال داخل القدس دون تصريح ويعرض نفسه للاعتقال، عكس خالي الذي كان يحاول الدخول إلى القدس عبر الطرق الجبلية والوعرة التي اخترعها العمال المطّريين للدخول لطلب الرزق." (خلود 152)
كما تظهر الرواية معاناة المرضى وحاجة مستشفيات الضفة للأجهزة الطبية، فابن خال الراوي مصطفى متخوف من إجراء عملية ورم خلف أذنه في مستشفى رام الله، فيقول والده:
" - لا توجد الإمكانات الفنية في مستشفيات الضفة لإجراء مثل هذه العملية، لأن الورم قريب جدا من مركز الدماغ ويخشى من التسبب بالشلل-لا قدر الله- إذا حدث أي خطأ، وأضاف: إن المكان الوحيد الذي تتوفر فيه مثل هذه الإمكانات هو مستشفى هداسا، ولكن هيهات هيهات، فلا يتوفر لدينا المال ولا التصريح لعبور القدس. ..." (خلود157)
وتهدف الرواية ضمن ما تهدف خلق حالة تماسك بين العرب وتقوية عرى المحبة والألفة فيما بينهم، وجاء على لسان الراوي:
"بنيت جسور الثقة مع الناس، لمست احتياجاتهم الحقيقية، صنعت لهم نبراسا، يضيئون به ظلام واقعهم الصعب، ورسمت لهم الطريق للوصول إليه، آمنوا بي وبأحلامي الكبيرة، وساروا معي بخطى ثابتة، تجمعنا المحبة والهدف، وزرعنا حقول القدس ببذور الأمل التي تعمقت جذورها هناك داخل الصخر المرمري، زرعت الإنسان على أرضه، جنبا إلى جنب مع أحلامه النرجسية، وكان مع كل نبتة تعانق تربتها الطاهرة، تسكن الطمأنينة، ويزداد الأمل إشراقا، وأنا مع كل هذا، أرتقي نحو المجد ارتقاءً." (خلود 186،187)
ومن المضامين التي تتضمنها رواية خلود تزييف التاريخ وسرقة الموروث الثقافي وتغيير اليهود لأسماء أماكن القدس وفلسطين بقصد سرقة وانتحال تاريخها والاستحواذ عليها:
"هم يغيرون أسماء الشوارع، صار الواد "حاجاي" والمصرارة "نفئيم" والشيخ جراح "هار هتسوفيم" وحارة الشرف "حارة اليهود"، والقدس، كل القدس صار اسمها "أورشليم"..(خلود ص 187)
وتغرس الرواية في نفس المتلقي جوانب اجتماعية مهمة، فتهمس في روح الزوج بأن يعامل زوجته برفق، وأن يسمعها عذب الحديث ويحترم مشاعرها وأحاسيسها، فخلود تهرب من بيت زوجها لجهله في معرفة مشاعر المرأة وأحاسيسها الرقيقة، كما تحذِّر الرواية من أقرباء الزوج، فبعضهم يستغل حرمة البيت ولا يحسن احترام ذوي القربى، فوالد زوج خلود حاول جاهدا نهش عرض زوجة ابنه خلود".
والكثير من النساء يمقتن أزواجهن ويطالبن بالانفصال بسبب جهل الرجل في إسماع المرأة كلمة عذبة تحسسها بذاتها وكيانها "إنه هو(الزوج) من حرمني من كل شيء جميل في هذه الحياة، إنني لم أسمع منه جملة واحدة تعبر عن إنسانيتي ... فهو يعتبرني "جاريته"، له الأمر وعليّ الطاعة العمياء، لا حقوق لي عليه، فهو إن أطعمني، يمُنّ عليّ، وإن ألبسني، يمُنّ عليّ ،أنا في نظره "جارية" لا حقوق لها، مجردة من الأحاسيس والمشاعر الإنسانية، أعيش فقط لخدمته وتلبية مطالبه.." (خلود 137)
وتقول: "هو(زوجها) يختلف عن الرجال، لا يتحدث إلا إذا طلب منه الحديث، فلا رأي له بين الرجال، ولا دور يقوم به في حياتنا إنه سلبي لأبعد حدود، الجميع هنا صغير كان أم كبير، يسيطرون عليه، فلا يقدر عن الدفاع عن حقه، يتعدون عليَّ أمامه ولا يجرؤ على الدفاع عني، يتهجمون علينا فلا يبادر بالدفاع عن حقوقنا أمام الجيران أو أمام أخيه، المتسلط، لقد مللت هذه الحياة، أنا أموت عشرات المرات كل يوم" (خلود 139)
ومن مضامين الرواية ورود بعض الحكم والإفادة من الموروث الثقافي:
" فعندما يتحكم بنا الخوف؛ يشل جهازنا العصبي، فلا نستطيع الحراك أو التفكير بصورة سليمة، حتى بصيرتنا يصيبها العقم، ويبرد الجسد ليصبح كجثة هامدة" (خلود ص 167) ومن الأمثلة في الرواية: "وفاقد الشيء لا يعطيه."( خلود 181)
ولعل أهم المضامين التي احتفلت بها الرواية العناية بالتركيز على القدس وحاراتها وأزقتها وذكر مدارسها وأهم معابدها الدينية إسلامية ومسيحية، منها:
"المدينة (القدس)، حوش الغزلان، وحوش الشاي، فُرن الحاج يِّتمْ، ومنزل "الست أُميلا، والأحياء الأخرى في البلدة القديمة، باب السلسلة، سوق العطّارين، مقهى باب السلسلة، الحرم، خان السلطان، ساحة الخان، مخبز درجة الطابونة، مفترق حارة الشرف وسوق الباشورة وسوق الخواجات، محل "أبو أيوب" ، ومدخل الحي، سوق خان الزيت، الحوانيت المغلقة، طريق عقبة التكية، عقبة المفتي ،بيت المفتي، حجارة البيت، المفتي الشاب، دير ياسين. طريق الآلام، العيزرية، باب العامود، باب الأسباط، المقبرة اليوسفية، السور، باب الساهرة، مسجد الشوربجي، باتجاه شارع الواد، المدرسة، سوق خان الزيت، المدرسة العمرية، المسجد الأقصى، منزل بحارة السعدية، قبة الصخرة، منزل الراوي بحارة السعدية، بيت صفافا، مكتبة العمرية، والمساجد والمدارس، ومدرسة القادسية، الأزقة العتيقة، مدن وقرى ومخيمات فلسطين، ملعب الروضة، شارع الزهرة، شارع صلاح الدين، شارع السلطان سليمان، مدرسة الرشيدية، سوق الجمعة، البلدة القديمة، المدرسة البكرية، باب الملك فيصل، باب الغوانمة، زقاق الزاوية النقشبندية، بيت أم سعيد،مستشفى الهوسبيس، عقبة الخالدية، عقبة السرايا، القيرمي، المدرسة الميلوية في عقبة الميلوية، المشفى، ساحات المدرسة العمرية، كنيسة الفرنسيسكان المجاورة للمدرسة، الكنيسة الأرمنية، كنيسة صغيرة جهة شارع الواد، كنيسة تسمى فيرونيكا، عقبة المفتي، دير يوناني على اليسار في أول عقبة الخانقة ويدعى دير "خرلمبوس، عقبة الخانقاة، وحارة النصارى وكنيسة القيامة. وإحدى مدارس القدس الابتدائية، وساحات للرياضة والنشاطات، ومكتب مدير التربية، وشارع نابلس، ومستشفى رام الله، وحاجز الرام العسكري، والمركز الصحي، وغرفة مكتب دكتور العائلة، ومستشفى هداسا، وعين كارم".
اللغة
والراوي المتمكن يحسن توظيف لغة الأدب، اللغة الواضحة لدى المتلقي، وما فيها من تشبيهات واستعارات ومجازات وانزياح ومن ضروب علم البديع، فاللغة هي التي تصوغ الاستعارة والرمز والتَّشبيه، وتبدع الصورة الفنية، إنَّ " التعبير بالصورة هو الخاصية الأساسية منذ تكلم الإنسان البدائي شعراً، واللغة هي التي تفتح لنا العالم، لأنها وحدها التي تعطينا إمكان الإقامة بالقرب من موجود منفتح من قبل... وكل ما هو كائن لا يمكن أن يكون إلا في (معبد اللغة)... اللغة تقول الوجود، كما يقول القاضي القانون. واللغة الصحيحة هي خصوصاً تلك التي ينطق بها الأديب، بكلامه الحافل. أما الكلام الزائف فهو كلام المحادثات اليومية. إن هذا الكلام سقوط، وانهيار.(22)
ينظر: الصورة والبناء الشعري، د. محمد حسن عبد الله، ص 12، دار المعارف – القاهرة، 1981 م
1.التشبيه:
يستخدم الأديب التشبيه أحيانا للتجسيم وتصوير الفكرة وبيانها وتوضيحها، وذلك عندما يكون المشبه مجردا؛ أو قد يكون القصد التعبير عن الانفعال، وتوليد الانفعال في المتلقي، وربما كانت هذه هي الصفة الأساسية للتشبيه في الأدب،
ويستخدم الزينة والزخرفة؛ ويقع هذا عندما يعنى الأديب بالشكل بطريقة غير متكلفة؛ وتكون غاية التشبيه أن يسهم في خلق الإيقاع الشعري، وليس الغاية إظهار البراعة اللفظية، وقد نظر البلاغيون العرب إلى التشبيه "بوصفه الأسلوب الذي لا تستطيع البلاغة أن تستغني عنه، حتى إن بعضا من هؤلاء رفعه إلى مكانة سامقة، معتبرا إياه من أشرف أنواع البلاغة، وأنه ينهض برهانا على مقدرة الشاعر الإبداعية وفطنته العقلية"(23)
البلاغية في البلاغة العربية، سمير أبو حدان، ص151، منشورات عويدات، بيروت، لبنان، ط 1، 1991
التشبيه المفرد
أ‌. التشبه المرسل المجمل، وهو ما ذكرت فيه أداة التشبه وحذف منه وجه الشبه:
" فالموت مثل النوم" (خلود ص51 ) : شبه الراوي الموت بالنوم بجامع عدم اليقظة في كل.
"شعرها أحمر كالياقوت" (خلود ص62 ) : شبه الراوي حمرة شعر المحبوبة بلون الياقوت.
"هي امرأة ليست كباقي النساء، مرت علي كنسمة"" (خلود ص 63) : شبه الراوي مرور هذه المرأة بهبة النسيم في الخفة.
"وقُبَل بطعم الشهد" (خلود ص 62) : شبه الكاتب مذاق تقبيل المحبوبة بمذاق الشهد والعسل.
وما سبق كله من التشبيه المرسل المجمل.
ب‌. التشبيه البليغ: وهو ما حذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه:
"مرت علي كنسمة، فراشة حطت على كتفي فشيدت قصورها في أوعيتي"(خلود ص 63) :
شبه الكاتب المرأة بالفراشة بالخفة والرشاقة والجمال.
"شفتاها كحبتي فراولة ناضجة" (خلود ص 10): شبه الكاتب شفتي المحبوبة بحبتي فراولة ناضجتين.
1. الاستعارة
وكاتبنا يتقن فن توظيف الاستعارة، فالاستعارة تحلّقُ بك في عالم الخيال، وتعرض عليك أشكالاً من الصور البيانية الرائعة، وتسبح في بحر الألفاظ، وتنتقل سريعًا من المعنى الحقيقي للفظ المستعار،وتكسب اللفظ حلاوة وجمالا ورونقا.
أ‌. الاستعارة المكنية: وهي التي ذُكر فيها المشبه وحُذف منها المشبه به:
"عانقني صوتها" : شبه الكاتب صوت المحبوبة بإنسان يُعانِق"
"وتتعانق الآلام" (خلود ص 28): شبه الكاتب الآلام بإنسان يٌعانِق.
"أذابني همسها" : شبه الكاتب همس المحبوبة بشيء يُذيب كما الماء.
"طوقتني أنفاسها" : شبه الكاتب أنفاس المحبوبة بكائن حي يُطوّق.
"جسدها الغض، الذي تكاد الأرض لا تحمل سواه، كان يهتز لها قلبي ويرقص طربا، صادقت طيفها، أودعته كل أسراري (خلود ص 10)
شبه الكاتب القلب بإنسان يهتز ويرقص طربا، كما شبه طيف المحبوبة بإنسان يُصادَق. استعارة مكنية في كل.
"حجارة البيت في مكانها تشهد على خطط وأفكار وأحلام المفتي الشاب": شبه الكاتب حجارة البيت بشاهد يشهد.
"فمع كل خطوة من خطواتنا سار الألم مكشراً عن أنيابه" (خلود ص 28) : شبه الكاتب الألم بوحش مفترس وله أنياب.
"يجرنا خلفه كتلا يمزقها القلق، ....وعقولنا تثرثر بأفكار متضاربة" خلود ص 29) : شبه الراوي القلق بكائن حي يمزِّق، وشبه العقول بإنسان يتحدث ويثرثر.
"طارت أمي فرحاً" (خلود ص 43) : شبه الراوي الأم بطائر.
"فابتسم له الحظ لأول مرة" (خلود 46) و"شعرت بأن الحياة تبتسم من جديد. (خلود ص 11): شبه الراوي الحظ بإنسان يبتسم، كما شبه أيضا الحياة بإنسان يبتسم هو الآخر.
عانقني صوتها بنبرته الشفافة" (خلود ص126) : شبه الكاتب الصوت بإنسان يُعانِق.
ب‌. الاستعارة التصريحية: وهي ما حُذف منها المشبه وصُرح فيها المشبه به:
"جسدها الغض...أودعته كل أسراري (ص 10) : شبه الكاتب بثّ الشوق بالإيداع.
"فإنني لا أعرف كيف أعبر ما تبقى لي من مساءات وحيدا، أحلق فيها مع نسمات طيفك الخجولة " (خلود 126) :
شبه الكاتب التفكير بمساءات المحبوبة بالتحليق.
"لدى والدي إحساس عميق وشفاف بالكلمة، يستطيع اقتناص الأخطاء اقتناصاً"(خلود 52) :شبه الكاتب كشف الأخطاء بالاقتناص.
"أخذ جسدها يثور، يتحفز لجولة أخرى" (خلود ص 62) : شبه الكاتب انفعال المحبوبة مع الحبيب بالثورة.
"تسللت خفقاتها عبر أوعيتي واستقرت في عمق وجداني" (خلود ص 126) : شبه الكاتب وصول إحساس المحبوبة والتأثر بالحبيب بالتسلل بجامع الوصول في كل.
طربت على تعابيرها الملتهبة التي أذابت خلايا جسدي" (خلود ص 126) : شبه الكاتب الأثر الذي أحدثته المحبوبة في نفس الحبيب بالطرب، وشبه الأثر الذي أحدثته المحبوبة في خلايا جسده بالإذابة. وكل ما سبق استعارة تصريحية.
الكناية
خرجنا من حوش الشاي عبر حوش الغزلان ...لأول مرة هو غير موجود، مقهى باب السلسلة مغلقا، لا دخان سجائر، لا أصوات لحجارة النرد ولا حجارة تطرق بنشوة" (خلود ص 26، 27): كناية عن خلو المقهى من مرتاديه.
"فاكتسب وجهي لونه الوردي". (خلود 126) : كناية عن الخجل.
امتزجت في دمي واستقرت تحت جلدي" (خلود 126) : كناية عن الامتزاج والتوحُّد.
وأودعتك مفاتيح قلبي ذاك المساء" (خلود 126) : كناية عن ثقة الكاتب بالمحبوبة وإعلانه حبه لها.
"هي امرأة ليست كباقي النساء، مرت علي كنسمة"" (خلود ص 63) : كناية عن تمايز هذه المرأة عن باقي النساء.
"وجلست قربي حتى لم يعد يفصلني عنها شيء" : كناية عن التصاق الحبيبين.
"حتى وصلنا إلى سوق خان الزيت، كانت رائحة التوابل هي هي، تفصح عن نفسها تتسلل من خلف أبواب الحوانيت المغلقة، تصرخ معلنة عن رفضها الغرباء" :كناية عن رفض الفلسطينيين للمحتل.
"لم يعد هناك لغة غير لغة الجسد " (خلود ص 62) : كناية عن انغماس كل من الحبيين في النشوة.
"ليلة واحدة، وسرير، ونشوة حمراء، وبعض حديث، وآهات ليست بتلك البراءة، وحبات عرق امتزجت مع شهوة طرية" (خلود ص 63): كناية عن ممارسة الجنس.
"فامتزجت مع أنفاسي وأحلامي وعشقي" : كناية عن امتزاج الحبيبين وتوحُّدُهما.
المجاز المرسل:
"التواقة للمس أناملك المعروقة... " (خلود ص 126) و"غرزت أناملها الطرية في جسدي" (خلود ص 62) : ذكر الراوي الأنامل "الجزء" وأراد بها الأصابع "الكل". مجاز مرسل علاقته الجزئية في كل.
"أسرتني بسحر بيانها وتألق حروفها" (خلود ص 126) ذكر الراوي الحروف "الجزء" وأراد بها الكلام "الكل". مجاز مرسل علاقته الجزئية.
"وأن آخذ فرصة ثانية في إثبات إخلاصي وانتمائي لهذا المكان" (خلود ص 67) : ذكر الكاتب "المكان" وأراد من فيه، مجاز مرسل علاقته المكانية.
" ألسنتنا صامتة، وقلوبنا تتحرك متثاقلة" :ذكر الكاتب اللسان وهو آلة الكلام، مجاز مرسل علاقته الآلية أو الجزئية.
علم البديع
1. الطباق
"مرت سنة، وأنا على هذا الحال؛ بيع وشراء، ودموع وحزن. (خلود ص 42) : طابق الكاتب بين كل من "بيع" و"شراء" .
"كنت احلم بالمدرسة أثناء نومي ويقظتي".(خلود ص 42) : طابق الكاتب بين كل من "نومي" و"يقظتي" .
" فلم اعد أميز بين دموع الضحك ودموع البكاء" : طابق الكاتب بين كل من "دموع الضحك " و"ودموع البكاء " .
كان يخدم الغريب قبل القريب " (خلود 162) :طابق الكاتب بين كل من "الغريب" و"القريب"، وهما أيضا جناس غير تام.
"لا علاقة هنا بين الشجاعة والجبن" (خلود 166) :طابق الكاتب بين كل من "الشجاعة" و"الجبن"
"لقد كانت الحرب نقمة على الناس والشجر والحجر والطير والماء والسماء والأرض" (خلود ص46) :طابق الكاتب بين كل من "السماء" و"الأرض"
الجناس
"لقد كانت الحرب نقمة على الناس والشجر والحجر" (خلود ص46) :جانس الكاتب بين كل من "الشجر" و"الحجر"، جناس غير تام.
كان يخدم الغريب قبل القريب " (خلود 162) : جانس الكاتب بين كل من "الغريب " و"القريب" ،جناس غير تام.
الترادف:
"فقد كانت نعمة ورخاء" (خلود ص 46) : الترادف بين كل من "نعمة" و"رخاء"
التقسيم:
"وكيف يعودون عبر مياه نهر الأردن، فمنهم من يموت غرقاً، ومنهم من يموت برصاص اليهود ومنهم من ينتزع حياته لغم زرعه مجرم، ومنهم من يموت حسرة..." (خلود ص46) : قسّم الكاتب أنواع موت من يعود من الفلسطينيين عبر نهر الأردن بأربعة أقسام لا خامس لها: الموت غرقا، أو الموت برصاص اليهود، أو الموت بانفجار لغم، أو الموت حسرة.
الانزياح
تعد ظاهرة الانزياح من الظواهر المهمة، وبخاصة في الدراسات الأسلوبية الحديثة، التي تدرس النص الشعري على أنه لغة مخالفة للمألوف العادي. (24)
ظاهرة الانزياح الأسلوبي، صالح شتيوي ص83، مجلة جامعة دمشق المجلد 21، العدد (3 4) 2005
"فالأدب يوجد بقدر ما ينجح في قول ما لا تستطيع اللغة العادية أن تقوله، ولو كان يعني ما تعنيه اللغة العادية لم يكن مبرر لوجوده" (25)
نظرية البنائية في النقد الأدبي، فضل، صلاح، ص 316، مكتبة الأنجلو المصرية القاهرة 1978.
والانزياح أو الانحراف عن المعيار من أهم الظواهر التي تميز اللغة الشعرية عن السردية مع منحها شرف الشعر وخصوصيته. فإن هذا النوع من الانزياح يتسم ببعض السمات المصاحبة له كالابتكار والجدة والنضارة والإثارة.
ومن أنواع الانزياح في الرواية:
أ.الانزياح الإضافي:
ويتمثَّل في المفاجئة التي ينتجها حصول اللامنتظر من خلال المنتظر؛ أي أن يتوقع المتلقي مضافاً إليه يتلاءم والمضاف. وبتوفره، يصبح لدينا انزياح إضافي شعري بحت.
"وكلما سرنا سار معنا العذاب، صرنا على موعد مع القهر" (خلود 28.) فعندما يسمع المتلقي عبارة "موعد مع" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "الصديق" لكنه يتفاجأ بحصول اللامنتظر ووجود كلمة "القهر" وهذا انزياح إضافي بحت.
"لم يعد هناك لغة غير لغة الجسد" (خلود ص 62) : وعندما يسمع المتلقي كلمة "لغة" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "القوم"، لكنه يتفاجأ بحصول اللامنتظر ووجود كلمة "الجسد" وهذا انزياح إضافي.
" جفت الكلمات" (خلود ص 62) :وعندما يسمع المتلقي كلمة "جفّتت" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "البحيرة" ، لكنه يتفاجأ بوجود كلمة "الكلمات".0.
"وآهات تذيب الصخر" (خلود ص 61) : وعندما يسمع المتلقي كلمة "آهات" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "الروح" لكنه يتفاجأ بوجود كلمة "تذيب الصخر".
"فيختل توازن الروح ويتبعثر بقايا الرماد..." (خلود 126) : وعندما يسمع المتلقي كلمة "توازن" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "الجسم" لكنه يتفاجأ بوجود كلمة "الروح"،، وعندما يسمع المتلقي كلمة "بقايا" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "الورد" لكنه يتفاجأ بوجود كلمة "الرماد".
نغوص معا في يمّ النشوة القرمزية، تدغدغني ذبذبات جسد يكسر بثورته أمواج العشق المتدفق، رغبة تصارع الإرادة أيتها الدوحة الباسقة فروعها، الممتدة إلى متاهات النفس" (خلود 126) :وعندما يسمع المتلقي كلمة النشوة" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "العذبة" لكنه يتفاجأ بوجود كلمة "القرمزية"، وعندما يسمع المتلقي كلمة "ذبذبات" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "الصوت" لكنه يتفاجأ بوجود كلمة "جسد"،،و
وتظهر خصيصة تبادل معطيات الحواس على طريقة الرمزيين في عبارة: "شفتاها ورديتان برائحة المسك والعنبر" (خلود ص 62) فالشفتان الورديتان تخضعان لحاسة البصر، لكن الراوي أخضعهما لحاسة الشم وهي الرائحة على طريقة الرمزيين، وهنا أيضا انزياح إضافي: وعندما يسمع المتلقي عبارة "شفتاها ورديتان" يتوقع أن تليها مثلا كلمة "كالعناب" لكنه يتفاجأ بوجود كلمة "برائحة".
ب.الانزياح التركيبي
وهو مخالفة التراتبية المألوفة في النظام الجملي. من خلال بعض الانزياحات المسموح بها في الإطار اللغوي، كالتقديم والتأخير في بعض بنى النص، كتقديم الخبر على مبتدئه. أو الفاعل على الفعل أو النتيجة على السبب. كذلك الحذف الفني الذي يستغني عن بعض البنى والمفردات سعياً وراء التلميح لا التصريح، الذي هو أبلغ أثراً وأعمق دلالة. كذلك حذف بعض الكلمات والاستغناء عنها ببعض النقاط كدلالة مسكوتة عنها، ومنه في الرواية:
"فقد تاهت منها الضحكات" (خلود ص 43) : تقدمت شبه الجملة "منها" وحقها التأخير، على الفاعل "الضحكات" وحقه التقديم.
"في عينيها سحر آسر" (خلود ص 62) : تقدمت شبه الجملة "في عينيها" وهو خبر، وحقها التأخير، على المبتدأ "سحر آسر" وحقه التقديم.
"الذي كانت تفيض منه رائحة اللوز. " (خلود ص 62) : تقدمت شبه الجملة"منه" وحقها التأخير، على الفاعل "رائحة اللوز" وحقه التقديم.
"ومستقبلي الذي بنت عليه عائلتي كل آمالها. " (خلود ص 67) : تقدمت شبه الجملة "عليه" وحقها التأخير، على كل من الفاعل "عائلتي" والمفعول به "كلّ آمالها" وحقهما التقديم.
"ألم أسلمك في تلك الليلة زمام قلبي؟" (خلود 128) : تقدمت شبه الجملة "في تلك الليلة" وحقها التأخير، على المفعول به الثاني "زمام قلبي" وحقه التقديم.
ج. الانزياح بالحذف
ولكن من أين...؟ من أين أعرفها...؟" (خلود 127)
ففي الجملة الأولى "ولكن من أين؟" انزياح بالحذف والتقدير: من أين أعرفها؟، وقد أوضحنا سابقا أن في عنوان الرواية "خلود" انزياح بالحذف أيضا.
التضمين واستخدام الموروث الثقافي:
والتراث أحد أوجه الجمال الإبداعي عند الكتّاب المبدعين في رصيد الإنسانية؛ ولذلك كان المهم التعرف على قدرة الشاعر في استلهام التراث وتمثله في الصياغة والتعبير، وتوظيف مرجعياته المعرفية في خدمة النص، توظيفا لا يجهل روح الأمة ونبضها وأبعاد التجربة الإنسانية بما تمتلكه من عمق وقدرة خلاقة أثبتتها عصور التراث، وبما يبعث في روح الأديب المعاصر مهارة تطويع المصادر التراثية والمعرفية لخدمة التجربة الشعرية الأدبية للتعبير عن رؤى الشاعر للحضارة وفهمه لأسرار الحياة.
ومن ذلك ما تقوله خلود لوالدتها عندما قررت الانفصال عن زوجها: "- " لا ُيصلح العطار ما أفسده الدهر" يا أمي..." (خلود ص 138)
اللغة الدارجة:
استخدم الراوي أحيانا اللغة الدارجة التي تناسب الشخصية، ومن ذلك:
"ماذا تقولين؟ هذا بيتك وإذا ما شالتك الأرض، تشيلك عيوننا." (خلود ص 182)
ويختتم الراوي روايته بقوله: ""شفت كيف الأرض كريمة’"؟ (خلود 188)
و"كنت أعدو والجنود خلفي، والناس تصرخ قائلة: أرميه أرميه، وأنا أعدو بأسرع ما أستطيع".
الحبكة
وهذا كله يشير إلى أن بناء الشخصية الروائية عمل متكامل تُقاس جودته بالتحام عناصره وقدرتها على الدلالة، ولا تُقاس بأهميتها الفكرية المجردة أو بمحاكاتها شيئاً في الواقع الخارجي. وقد بُنِيت الشخصية الروائية عند سمير الجندي في روايته "خلود" على هذا النحو من الالتحام، من المعلومات المبعثرة عن المظهر الخارجي والصفات إلى التدرُّج في اختبار مصداقية الصفات لبيان ثباتها قبل تحوُّلها بفعل حدث خارجي كبير.
توظيف تقنية الجزئيّات بين الصُّور والوصف:
الوصف في المصطلح الأدبي هو" تصوير العالم الخارجي أو العالم الداخلي من خلال الألفاظ، والعبارات، وتقوم فيه التشابيه والاستعارات مقام الألوان لدى الرسام والنغم لدى الموسيقي"(26).
المعجم الأدبي، الدكتور جبور عبد النور، ص293، دار العلم للملايين، الطبعة الثانية 1984
وينظر: الفضاء في روايات عبد الله عيسى السلامة، م. بان صلاح الدين محمد حمدي، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية، المجلد ١١، العدد ١، كلية التربية للبنات، جامعة الموصل، 2011.

ووظيفة الوصف هي خلق البيئة التي تجري أحداث القصة فيها وتكوين نسيجها، ولا يحق للقاص أن يتخذ من الوصف مادة للزينة وإنما يوظفه في تأدية دور ما في بناء الحدث. ومن المتفق عليه أن على الكاتب أن يقدّم الأشياء الموصوفة، ليس كما يراها هو، بل كما تراها شخصياته. و" أن تكون اللغة قريبة من لغة الشخصية، لكي تحقق شيئاً من المنطقية الفنية، لأن الشخصية هي التي ترى الشيء وتصفه وتتأثر به"(27).
معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مجدي وهبة وكامل المهندس. مكتبة لبنان. بيروت. ط.2. 1984.
ولكنّ لغة روايته التي نهضت بالبناء الروائي تُقدِّم لنا آثاراً أخرى، أبرزها غزارة الصور والأوصاف والمبالغة فيهما، والعناية بالجزئيّات وتضخيم آثارها.
وسمير الجندي لم يكتف بسرد الحكايات، بل راح يوجِّه اهتمامه إلى الجزئيات الصغيرة مصورا الأمكنة التي تحيط بالبطل، فيشرع يصفها أو يُقدِّم صوراً لها، مبالغاً في الوصف أيَّ مبالغة، ومضخِّماً الآثار أيَّ تضخيم. أي أن الراوي في رواياته لم يتقمّص شخصية البطل المحوري فحسب، بل راح ليتحدَّث عمّا يُحيط به من جزئيات ماديّة، وما يعتمل في دخيلته من أفكار وأحاسيس، منطلقاً من الرغبة في توضيح الإطار الذي يتحرك فيه هذا البطل المحوري، سواء أكان هذا الإطار مادياً أم معنوياً. بل إن الراوي كان يبالغ في ذلك، فلا يكتفي بوصـف ما له تأثير في البطل، بل كان يصف ما يحيط به سواء أكان مرتبطاً به أم لم يكن. ومن ثَمَّ كبر حجم الحكاية، فغدت رواية (خلود) في ماية وتسع وسبعين صفحـة. فكاتبنا سمير الجندي بهذا استطاع أن يكون ذاك الوصَّاف الماهر والملاحظ الذكي في بناء روايته.
وأسلوب سمير الجندي أحيانا يحكمه الخيال لا الواقع الموضوعيّ للشيء الموصوف المصوَّر. ولهذا الخيال أثر واضح في الوصف كوصفه لخلود. من أجل خلق عنصر التشويق، فهو خيال خالق، يجعل الصغير كبيراً والأمر العادي عظيماً، يُجسِّم ويُشخِّص ويُضخِّم ويخلق علاقات جديدة بين الأشياء.
وإذا دقَّقنا في الجزئيات لاحظنا أنها غزيرة جداً، ولكنّ بنيتها تكاد تكون واحدة. فهي عناصر المكان وخاصة القدس وأحياؤها وأزقتها وحاراتها، ومدارسها، وأماكن العبادة كوصفه لضرب الآلام تفصيلا مسهبا، أو تصوير بعض معالم العالم الخارجيّ كتصويره لتايلند وبعض مدنها ورحلته البحرية هناك وتقاليد الناس وعاداتهم وتمسكهم بالدين ووصف حضارتهم وعمال النظافة وطبيعتها الخلابة. .(28)
ينظر الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل، ص214-218، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق - 2003
وقد ازدادت أهمية المكان في الرواية الحديثة, إذ بدأ بالتعبير عن استقلاله التام بوقوعه في الخارج, يؤطر الأشياء ويخضعها لسلطته . ومن أهم الأساليب التي مارسها الروائيون في تجسيد المكان ورسم ملامحه وأبعاده , أسلوب الوصف(29).
ينظر: الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا، إبراهيم جنداري، ص 175، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 2001م
تصوير ووصف لحظة اعتقال الراوي في رواية خلود، ومثاله:
" كانت الساعة الثانية صباحا عندما سمعت طرقا قويا أيقظ كل من في البيت، كما أيقظ معظم سكان الحي... ما أن فتح والدي الباب لمعرفة الطارق المزعج حتى اندفع الجنود وانتشروا في أرجاء البيت، أخذوا يسألون أبي عن أسماء أولاده، وما هي إلا لحظات حتى بدأ الطرق هذه المرة على باب غرفتي، كنت قد جهزت نفسي ارتديت (الجينز) ولبست ملابس ثقيلة رغم أننا في تموز، شعرت بالبرد يدب بين أوصالي، إنه ليس كبرد الشتاء ولكنه برد من نوع آخر، أخذوا يفتشون غرفتي ويقلبون أشيائي، ويصادرون أوراقي، وصوري ويكسرون رسوماتي، انكبوا على صورة "لينا النابلسي" يمزقونها بطريقة تدل على حقدهم من كل باحث عن الحرية والسلام، هم يخافون من السلام ويرتعدون عند ذكر الحق والعدل، لهم مفاهيمهم السادية الراسخة في عقولهم المتحجرة، فلا يتوانون عن ركل طفل ما زال في مهده لم يتجاوز عمره أيام قليلة، ويحتجزون شيخا طاعنا لا حول له ولا قوة، يصرخون بوجهه مهددين متوعدين مكشرين عن أنيابهم الزرق، أمام زوجته وأولاده.
أدركت من اللحظة الأولى بأنهم قادمون لاعتقالي فهيأت نفسي لذلك.
وضعوا رأسي داخل كيس من الكتان المقوى، عليه آثار معاناة، دماء ولعاب وثقوب بحجم حبة سمسم؛ وقيدوني بالسلاسل من خلف ظهري، مضوا بي مسرعين عبر حوش البسطامي، شعرت بعيون الجيران ترقب من خلف العتمة، وصلتني أنفاسهم ودعواتهم الدافئة، فتعرقت يداي وعادت لي شجاعتي وإيماني وإرادتي." (خلود ص86-87)
تصوير حاله في السجن:
" كانت سنة طويلة حُرمت فيها من كل الأشياء؛ وسادتي ورفيقتي وسريري وأوراقي ومكتبتي وقلمي وابتسامتي وأنفاسي وأنسامي وأنغامي وقصيدة غنيتها ذات يوم على شرفة منزلي، ومحراب احتضن دعواتي، وأيقونة صادرتها أيدي أعدائي، وكوب شاي بالنعناع بعد الفجر من يد أمي، وخبز وزعتر وزيت زيتون بطعم العشق، ورائحة كعك مقدسي تفوح من مدخنة فرن في الحارة، وصوت مؤذن يكسر صمت السكون في ليالي الشتاء الباردة، وفراشة كنت أرقبها متعجبا، وحمامة كان هديلها يؤنس صباحاتي الصيفية، وشعاع اعتاد مداعبتي صباح صباح، وزحام كم تمنيت أن لا أضيق به عند عبوري خان الزيت لتناول الكنافة، وسلة تين أمام امرأة تضع على صدرها أعظم نياشين الكرامة والعزة، تجلس على درجات باب العامود علما من أعلام المدينة، وعمادا من أعمدتها، حرمت من صديق كان قد غادر دون وداع، وزفاف بنت العم وابن الجيران" (خلود ص 90)
ومن ذلك الحوار الذي جرى بين ليلى وبين الراوي في عمان والراوي وقد استغرق الحديث والوصف لمدينة القدس ومجابهة جنود الاحتلال وأصدقائه المقاومين من ص 71- ص 79 في الرواية وذكرت جزءا منه في حديثي عن مضمون الرواية هنا.
وصف وتصوير طريق الآلام الطريق الذي سار عليه سيدنا عيسى عليه السلام، عندما عُذب واضطهد في صفحتين. (خلود ص 96، 97)
تصوير الراوي لأول مدرسة عيِّن فيها:
" كانت البناية عبارة عن بيت كبير للسكن، ولم تكن مجهزة لتصبح مدرسة، فغرفها صغيرة الحجم نسبيا، وممراتها ضيقة، وعدد الغرف لا يتجاوز أصابع اليدين، تتكون البناية من طابقين يعلوهما كرميد أحمر، والسطح على شكل هرمي، وأمام البناية حديقة بأشجار وأزهار ونباتات كثيرة، أنا أحب الأزهار والأشجار والنباتات، ولكنني أحب أن أقوم بعملي على أكمل وجه، وتلك الحديقة كانت عقبة أمامي مع الأسف الشديد." (خلود ص 99)
تصوير تايلند قرابة الصفحتين:
" لم أر أجمل من تلك البلاد، هي من البلاد الاستوائية، أمطارها غزيرة جدا، وحرارتها مرتفعة كحرارة قلوب أبنائها الأسيويين، بقاماتهم القصيرة وأنوفهم المنبسطة وابتساماتهم العريضة الدافئة حتى أنهم يسمونها "البلاد المبتسمة" لأنك لا تقابل شخصا إلا مبتسما، ورطوبة جوها عالية لدرجة أن الملابس تلتصق التصاقا بالجلد، وطبيعتها خضراء حتى تخالها قاربت اللون الأسود من شدة خضرة غاباتها.
كم أعجبني ذلك العامل الذي ينظف شارعاً من شوارع مدينة "بانكوك"، كان يحاول التقاط ورقة صغيرة من بين حجرين بجانب رصيف الشارع بينما الأمطار تهطل بغزارة، يحمل تحت أبطه قفة من القش، وعلى رأسه قبعة عريضة من القش أيضا، يغوص فيها رأسه حتى تلامس نهاية حاجبيه، بقي يحاول نزع تلك الورقة بمقشته إلى أن أخرجها بيده ووضعها داخل القفة، وأكمل مسيره باحثا عما يعكر نظافة الشارع، لقد كانت شوارع المدينة نظيفة بشكل لافت، ولا غرابة إذا كان عمّال النظافة بهذا القدر من الانتماء للعمل..." (خلود 112)
أشكال الفضاء:
ظهرت تصنيفات عدة للمكان، منها الأليف والمعادي، والمغلق والمفتوح، والواقعي والخيالي، والعتبة والواصل.
1- الفضاء الأليف والفضاء المعادي:
من الطبيعي أن يكون الإحساس بالمكان مرتبطا ً بنوعية علاقته بالشخصية التي تصفه، يقول الراوي وجنود الاحتلال تلاحقه في القدس: "ثم دخلت إلى زقاق الزاوية النقشبندية، اندفعت داخل بيت أم سعيد، أغلقته خلفي، هم لم يعرفوا أين دخلت، فقد حجبتني عنهم زوايا المدينة وأزقتها الضيقة..." (خلود ص 76).
فزقاق النقشبندية في القدس حينها كان فضاء معاديا بفعل الاحتلال، وهو مكان أليف عند خلوه من الجنود، فهذه الشخصية طموحة وقلقة. هذا القلق ظهر على علاقته بالمكان, بل شعر نحوها بالعداء والكراهية, وهي أماكن يقيم فيها الإنسان تحت ظرف إجباري, وأصبح بيت أم سعيد فضاء أليفا، كما أن السجن مكان غير أليف بل هو مكان معاد لا يشعر فيه بألفة وعلاقته بالشخصية علاقة قلق وتوتر وخوف، فهو فضاء معادٍ، فقد دخل السجن الراوي مدة عام كامل وعندما خرج من السجن أصبح بيته هو الفضاء الأليف.
.. حتى عندما استقر في عمان التي أقام فيها أربع سنوات من أجل الدراسة وقابل فيها حبيبة عمره رأينا أن المكان في آخر الأمر أصبح معاديا وأخذ الراوي يعمل جاهدا على العمل للعودة للقدس وهي المكان الأليف رغم أن السجن كان ينتظره هناك.
فالمكان المعادي يأتي في الطرف النقيض للمكان الأليف, فثمة أمكنة لا يشعر الإنسان بألفة ما نحوها, بل يشعر نحوها بالعداء والكراهية, وهي أماكن قد يقيم فيها الإنسان تحت ظرف إجباري, كالمنافي والسجون والمعتقلات والأماكن الخالية من البشر وأماكن الغربة. وبيت خلود مع زوجها يعتبر مكانا معاديا، فهاهي تنفصل عن زوجها لتغادر ذلك المكان:
"- إن عيشتي معه رتيبة لا حياة فيها ، أنا في الظاهر على قيد الحياة ، ولكن في حقيقة الأمر أنا مدفونة في قبر برودته، وجبروته، وجهله، وتحجر أفكاره، وسلبيته، أنا ميتة منذ الأسبوع الأول لزواجنا قبل عشرة أعوام طويلة، كان الزمان يسير فيها أبطأ من عربة ثقيلة تسير ميلاً واحداً كل سنة، إلا أنني تحملته للأسباب نفسها التي تضغطون عليّ بها الآن، ولكنني اليوم وبعد أن استخرت عشرات المرات ليس أمامي سوى الانفصال عنه تماما." (خلود 137)
والساحة التي جمع المحتل فيها المواطنين في نكسة عام 1967 تعتبر مكانا معاديا.
وكذلك أماكن العمل. كمنجرة السكناجي فهي مكان معادٍ، فالراوي يقول: " تراكمت في نفسي آلام القهر، وزاد حقدي عليهم، ليس أنا ولا أمثالي من يجب أن يكون محتجزاً في معتقل، بل ذلك "السكناجي" الذي عملت في منجرته تسعة وعشرين يوما في عطلتي الصيفية الأولى، كنت أعمل من الساعة السابعة والنصف صباحاً لغاية الساعة الرابعة ظهراً، كان يعطيني ورق "السنفرة" ويطلب مني سنفرة الطاولات والطرابزات، ويتردد عليّ كل عشر دقائق ليأمرني بالاستمرار بالعمل، فقد كان يغضب اشد الغضب إذا ما راني جالساً، كانت يداي تتحركان باتجاهين حتى أصبحت حركتهما ميكانيكية لا إرادية، كان يتحسس الطاولات التي انتهيت من سنفرتها وكل مرة يلمس الطاولات فيها يطلب إعادة سنفرتها، لقد هلكني هلك ابن الحرام، لم أعرف نواياه العنصرية، إذ كان يتعامل معي بلؤم مبطن، وحقد يجري في دمه الملوث بالخبث. (خلود ص90-91)
2- الفضاء العتبة والفضاء الواصل:
العتبة تسمية أطلقها (باختين) في دراسته لأعمال (دوستويفسكي) , حيث لاحظ أن الكاتب استخدم في رواياته فضاء ً رمزيا ً خاصا ً, يتمثل في المداخل والممرات والأبواب والنوافذ المشرعة على الشوارع, والحانات والأكواخ والخنادق وشتى وسائل النقل أشكال عدة لفضاء العتبة فـ( المدرسة ) تشكل واحدا ً منها, حيث كانت المدرســة نقطة انطلاق فالمدرسة مكان انتقالي تقضي فيه الشخصية وقتا ً معينا ً ثم تغادره, بل هي محطة عبور إلى مستويات أخرى. وكذلك المقهى محطة أخرى تقضي فيها الشخصية وقتا ً معينا ً ثم تعود إلى عالمها الخاص.(30)
ينظر: الفضاء الروائي في الغربة – الإطار والدلالة، منيب محمد البوريمي، ص 22, 23، دار الشؤون الثقافية العامة, بغداد.
ومثاله في الرواية مقهى باب السلسلة:
"خرجنا من حوش الشاي عبر حوش الغزلان ...لأول مرة هو غير موجود، مقهى باب السلسلة مغلقا، لا دخان سجائر، لا أصوات لحجارة النرد ولا حجارة تطرق بنشوة" (خلود ص 26، 27)
ومثاله أيضاً: الكوفي شوب" الموجود في بهو فندق الورد الحمراء.
ومن فضاء العتبة المدرسة، حيث كانت المدرســة نقطة انطلاق فالمدرسة مكان انتقالي تقضي فيه الشخصية وقتا ً معينا ً ثم تغادره, بل هي محطة عبور إلى مستويات أخرى .
" - لقد التحقت بالمدرسة، وأنا الآن في الصف الرابع... وأول ما أُقابل مصطفى سأخبره بأنني صرت بنفس صفه."( خلود 43)
ومنه غرفة النزوح وتتكون من غرفتين يصل إليها المرء خلال سلم حجري ودهليز مظلم.
"أما الفضاء الواصل , فهو الفضاء الذي يربط عالمين أو مجتمعين أو ثقافتين أو ما يربط الداخل المختنق بالخارج المنفتح. وغالبا ً ما يتمثل في الأعمال الروائية الحديثة بالنافذة , أو الحلم أو البحر أو العربة, وهناك أيضا ً, النافذة المشرعة، فالنافذة كانت فضاء ً واصلا ً يربط الداخل المقيد والواقع المرير بالخارج الحر والحلم الجميل.(31)
ينظر: الفضــــــــــــــــاء وتشكلاته السردية في الرواية العربية الحديثة، الدكتـــــور /حمد العزي صغيـــر، أستاذ الأدب والنقد - جامعة الحديدة – اليمن.
https://www.facebook.com/alamedbag/posts/425638900781445
ومثاله في الرواية نافذة السيارة:
"مررنا بأنظارنا عبر نافذة السيارة على سور القدس وهو يعانق المدينة بشموخ وكبرياء، وأخذنا نقرأ الفاتحة على أرواح موتى المسلمين..." (خلود ص 82)
ومن الفضاء الواصل في الرواية "الدراجة" :والقارب" "والسفينة" ، ومثاله في الروية:
تحركت بنا الدراجة النارية وأنا جالساً خلفه بكثير من الحذر، إذ أنني لم أعتد ركوب الدراجة النارية بعد، فهي بالنسبة لي مغامرة بحد ذاتها، لم أتصور نفسي راكبا على دراجة نارية أبداً، واليوم فإنني لا أتنقل إلا بواسطتها، "فللضرورة أحكام" . (خلود ص 119)
ومنه القارب في الرواية حيث قال عبد الله ميناس للراوي في تايلند: "- هيا بنا نُسرع قبل مغادرة المركب، ركبنا قارباً صغيرا، حملنا إلى السفينة التي كانت راسية في المياه العميقة، هي ليست نفس السفينة التي جئت على متنها إلى الجزيرة، كما أنها لا ترسو في نفس المكان، وبرنامج مغادرتها غير البرنامج الخاص بالسفينة الأولى، فقد تبين أن هناك أكثر من موقع للسفن. اقترب قاربنا الصغير من جسم السفينة حتى التصق بها تماما، ثم صعدنا إلى السفينة بكل حذر بمعاونة أحد البحارة الذي كان يساعد ركاب القارب بالصعود إلى السفينة، وبحار آخر يقف بجانبه لاستلام الأجرة من المسافرين." (خلود ص118)
3- الفضاء المفتوح والفضاء المغلق:
وفق مسار الأحداث أماكن أخرى كثيرة منها المفتوح ومنها المغلق فالقرية مكان مفتوح , تتحرك فيه الشخصيات وتتعامل بأساليب وأشكال مختلفة , وهي تشتمل على مجموعة من البيوت المغلقة , والحقول والبساتين المفتوحة والحقول فالحقول تكشف مدى إحساس الشخصية بالمكان وقدرتها على الانفتاح والتواصل والحياة ولكن في ضمن هذا الفضاء المفتوح ذو المساحة الصغيرة , تتشكل فضاءات مغلقة كثيرة , وهنا يبرز الصراع الجدلي بين ثنائية المكان المفتوح والمغلق :(( واستيقظت ثاني يوم وصولي , في فراشي الذي أعرفه , في الغرفة التي تشهد جدرانها على ترهات حياتي في طفولتها ومطلع شبابها" (32).
ينظر:الفضــــــــــــــــاء وتشكلاته السردية في الرواية العربية الحديثة، الدكتـــــور /حمد العزي صغيـــر،أستاذ الأدب والنقد - جامعة الحديدة – اليمن.
https://www.facebook.com/alamedbag/posts/425638900781445
فالمكان المغلق يبدو أكثر درامية إلا أن بعض الأماكن المغلقة تصبح علبا ً مغلقة لأصحابها, تتسم تصرفاتهم بالانعزالية والانطوائية, وإن ثنائية المكان المفتوح والمغلق تتشكل من خلال ثنائيات أخرى كثيرة, القلعة والمدينة, والقصر والساحة وغيرها. فالمكان الضيق والمغلق ميدان خصب لصراع الأفكار والشخصيات.
ومن الفضاء المغلق في الرواية بيت خلود مع زوجها، فهي لا تطيقه بسبب تنكره لمشاعرها الرقيقة وعدم تمكنه من حمايتها وتحرش حماها بها: "لا أحد يقف في صفها، جميع من حولها يمارسون عليها دور الواعظ الشريف البريء المثالي، وخاصة عمها الذي تحرش بها مرات عديدة ولا يأتي إلى بيتها إلا صباحا وهي وحيدة، حتى أنه في إحدى المرات دخل المطبخ ووضع يديه حول خصرها ومسك عجزها، فانتفضت كمن لطشته كهرباء، وتركت المكان من فورها خائفة مرعوبة من تصرف عمها الذي هو حماها، (خلود 144), فالمكان الضيق والمغلق ميدان خصب لصراع الأفكار والشخصيات إلا أنهما في أثناء دخولها دكان الراوي الذي قابلته فيها فهو مكان مفتوح تتصل به مع من تحب.
2- الوصف وتجسيد الفضاء:
وقد حدد النقاد للوصف ثلاث وظائف في السرد، وهي:
1- الوظيفة التزينية : وهي أسلوب يركز فيه الكاتب على زخارف القول والمحسنات اللفظية والبلاغية, فهو يهدف إلى إشباع حاجات جمالية لدى القارئ, وهذا النوع من الوصف نادر الوجود في النصوص الروائية.
2- الوظيفة التفسيرية أو ما يصطلح عليها بـ( التوثيقية ), وهي وظيفة دلالية تهدف إلى الكشف عن الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات الروائية, وموضعة أفعالها, وبيان أسباب سلوكها, عن طريق وصف بيئة الشخصية ومكوناتها, وكل ما يكوِّن خلفيتها.
3- الوظيفة الإيهامية: إذ يتم من خلال إدخال القارئ إلى عالم الرواية التخييلي موهما ً إياه بواقعية الأحداث , وبأن ما يقرأ واقعي وحقيقي، أما الوصف من حيث علاقته بالموصوف ومدى إلمامه بأجزائه وأحواله فهو نوعان:
1.الوصف الإجمالي: وهو الوصف الذي يذكر فيه بعض أجزاء الموصوف أو .... بعض أحواله ومظاهره, ويطلق عليه الوصف الانتقائي، ومثاله في الرواية:
"بعد يومين من انتقالنا، عاد أبي في حالة يرثى لها، رايته هزيلا، ملابسه رثة، وسخة، علامات العرق واضحة على قميصه، كانت حالته تعرب عما لقيه من معاناة فترة غيابه، أبي رجل في الخمسين من عمره، قامته متوسطة، وشعره أبيض كبياض الثلج، هو متحدث بارع، لديه العديد من الأصدقاء، ولكنه يأنس كثيرا بأخوته وأخواته، ربما لأنه تربى في مدرسة داخلية لفاقدي البصر" (خلود ص 32)
فالوصف الإجمالي: شكل من أشكال الاختزال, ففيه يقوم الراوي بوصف المفاصل الكبرى للأشياء إذ يرسم الخطوط العامة للشيء الموصوف, وبشكل سطحي, من دون الخوض في تفاصيل جزئياته.
2.الوصف التفصيلي: "وهو الوصف الذي يذكر فيه كل أو معظم أجزاء الموصوف وكل أو معظم مظاهره, ويطلق عليه الوصف الاستقصائي. (33)
ينظر:.البناء الفني في الرواية العربية في العراق -2- ص 23، الوصف وبناء المكان، شجاع مسلم العاني، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 2000.
"وهو وصف استقصائي يعمد فيه الراوي إلى تقديم صورة مفصلة تحتوي كل جزيئات الشيء الموصوف, وهذا يعني أن مقاطع الوصف تطول وتتفرع على وفق قانون شجرة الوصف التي رسمها جان ريكاردو(34).
حيث حدد ريكاردو في هذه الشجرة خمسة مظاهر هي ( الشكل – اللون – الهيأة – المادة – الوضع )(35), فالراوي في الوصف الاستقصائي ينبغي أن يلم بكل أو معظم هذه المظاهرة, عند تعرضه لوصف الأشياء .
ينظر: بناء الرواية دراسة مقارنة، سيزرا قاسم، ص 88، مكتبة الأسرة، 2004 .
.البناء الفني في الرواية العربية في العراق -2- ص 23، الوصف وبناء المكان، شجاع مسلم العاني، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 2000.
ومثاله في الرواية وصف المحبوبة خلود التي قابلها الراوي في عمان في فندق الوردة الحمراء واستغرق وصفها من صفحة 59 – ص 66 في الرواية بتصوير السارد للقاء حب مثير مع من أحب وهي خلود، وقد ذكرته في موضع حديثي حول عنصر التشويق ولن أكرره هنا.
ويكرر الراوي وصفها وحالته أيضا في قرابة أربع صفحات من ص 126 – 129 بعد لقياهما لبعض ثانية بعد مرور خمسة عشر عاما فيقول:"لأنني عرفتك ذات مساء، وأودعتك مفاتيح قلبي ذاك المساء، فإنني لا أعرف كيف أعبر ما تبقى لي من مساءات وحيدا، أحلق فيها مع نسمات طيفك الخجولة، ينقلني عبق عطرك إلى جداول الهيام، نغوص معا في يم النشوة القرمزية، تدغدغني ذبذبات جسد يكسر بثورته أمواج العشق المتدفق، رغبة تصارع الإرادة، فيختل توازن الروح ويتبعثر بقايا الرماد... أيتها الدوحة الباسقة فروعها، الممتدة إلى متاهات النفس التواقة للمس أناملك المعروقة... يا من تتهادى فوق مساحات العشق الوردية، بهذا الدلال الأنثوي الطاغي، تصادرين نبضات الكون وتزرعين السكون تحت رماد الجمر، تزرعين الرهبة فيمن يتمناك على مائدته المزدحمة بالكرستال التشيكي، ذات الألوان الليلكية...عانقني صوتها بنبرته الشفافة، تسللت خفقاتها عبر أوعيتي واستقرت في عمق وجداني، طربت على تعابيرها الملتهبة التي أذابت خلايا جسدي، فأيقظت أحلامي من غيبوبتها، أسرتني بسحر بيانها وتألق حروفها، تفوقت على قصائد العشق في أجندة الشعراء، امتزجت في دمي واستقرت تحت جلدي فاكتسب وجهي لونه الوردي." (خلود 126)
أ ) وصف الأماكن، ومنه في الرواية وصف الراوي لتايلند:
"لم أر أجمل من تلك البلاد، هي من البلاد الاستوائية، أمطارها غزيرة جدا، وحرارتها مرتفعة كحرارة قلوب أبنائها الأسيويين، بقاماتهم القصيرة وأنوفهم المنبسطة وابتساماتهم العريضة الدافئة حتى أنهم يسمونها " البلاد المبتسمة" لأنك لا تقابل شخصا إلا مبتسما، ورطوبة جوها عالية لدرجة أن الملابس تلتصق التصاقا بالجلد، وطبيعتها خضراء حتى تخالها قاربت اللون الأسود من شدة خضرة غاباتها".(خلود ص 112)
ومنه كما جاء على لسان الراوي في وصف بيوت تايلند:
"كانت المساكن (في تايلند) عبارة عن بنايات صغيرة الحجم، مستقلة عن بعضها البعض، لكل بناية مدخل خاص بها ، يشبه ساحة مربعة صغيرة المساحة يحيط بها سور بعلو خاصرة الرجل، عُلق على جدار البيت الأمامي إطار كُتب فيه سورة قرآنية، لاحظت ذلك في جميع بيوت الحي الذي يتوسطها مسجد صغير بمئذنة لا يزيد ارتفاعها عن عشرة أمتار، انتابني شعور بالطمأنينة لهذا المكان..." (خلود ص 118، 119)
"" كانت السفينة متوسطة الحجم، والمسافرين يجلسون على كل شيء، التمست لي مكانا على طرف السفينة في الجهة اليمنى، عندما أخذت تمخر عباب الماء برشاقة فتكسر الأمواج على بدنها الحديدي، كان صوت الآلة عال جدا، مما جعل الناس لا يسمعون بعضهم بسهولة" (خلود ص 113)
ب ) وصف الشخصيات:
كم أعجبني ذلك العامل الذي ينظف شارع من شوارع مدينة "بانكوك"، كان يحاول التقاط ورقة صغيرة من بين حجرين بجانب رصيف الشارع بينما الأمطار تهطل بغزارة، يحمل تحت إبطه قفة من القش وعلى رأسه قبعة عريضة من القش أيضا، يغوص فيها رأسه حتى تلامس نهاية حاجبيه، بقي يحاول نزع تلك الورقة بمقشته إلى أن أخرجها بيده ووضعها داخل القفة، وأكمل مسيره باحثا عما يعكر نظافة الشارع، لقد كانت شوارع المدينة نظيفة بشكل لافت، ولا غرابة إذا كان عمّال النظافة بهذا القدر من الانتماء للعمل." (خلود ص 112)
المكان الجذب والمكان الطارد
نلحظ في الرواية بعض الأمكنة التي تعتبر مكاناً طارداً وبعضها مكاناً جاذباً، وأن هناك تبادلاً بين الأمكنة يكاد يكون مقصوداً. فالأمكنة التي رحلت منها الشخصيات مكان طارد، ففي عام 1967 عام النكسة كانت القدس مكانا طاردا بسبب الخوف من الاحتلال؛ ولأن الشخصيات كانت ترغب في الانتقال منه إلى مكان آخر جاذب أصبحت عمان وقتئذ مكانا جاذبا، هذا في أول الرواية، وعندما ذاق الناس ويلات اللجوء وأراد القسم الكبير العودة للقدس تبدّلت المواقع فأصبحت عمان مكاناً طارداً بعد أن كانـت مكاناً جاذباً، وصارت القدس مكاناً جاذباً بعد أن كانت مكاناً طارداً، ونلحظ هذا بعد زواج السارد في عمان وإتمامه لدراسته.
أن الحمد لله رب العالمين
............................................
اللواحق
1. اتجاهات الرواية المصرية، شفيع السيد، ص24، مصر، دار المعارف، 1978
2. تاريخ الرواية الحديثة، ر. م. ألبيريس ترجمة : جورج سالم، دار عويدات، بيروت، 1967
3. الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص ،39 ، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق – 2003
4. الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص ،40 ، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق – 2003
5. الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص ،50 ، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق – 2003
6. الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية، د.سمر روحي الفيصل،ص ،73 ،من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق – 2003
7. جماليات المكان، غاستون باشلار ، ت – غالب هلسا، ص45 , بغداد , 1980 .
8. ينظر : نفسه : 45 .
9. ينظر:بناء الرواية دراسة مقارنة في "ثلاثية" نجيب محفوظ، سيزا قاسم، ص99، مكتبة الأسرة، الطبعة: 1،عام2004
10. ينظر الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص 161،162)، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق – 2003
11. ينظر تقانات السرد القصصي في زمن الغياب، نبيل أبو علي، ص219، غزة ،2004
12. الزمان والمكان في الرواية الفلسطينية، علي عودة، ص16، ط2، فلسطين، 1997.
13. الزمن التراجيدي في الرواية المعاصرة، سعد عبد العزيز, ص 79 ، مكتبة الانجلو المصرية, المطبعة الفنية ,1970.
14. ينظر: البناء الفني في رواية الحرب- دراسة لنظم السرد والبناء في الرواية العراقية المعاصرة، عبد الله إبراهيم، ص 12، دار الشؤون الثقافية- بغداد
15. في نظرية الرواية -بحث في تقنيات السرد، د. عبد الملك مرتاض، ص 227، عالم المعرفة، الكويت، 1998.
16. فن القص في النظرية والتطبيق، نبيلة إبراهيم، ص160، مكتبة غريب، مصر، د.ت.
17. أشكال الزمان والمكان في الرواية، ميخائيل باختين، ترجمة: يوسف خلاق، ص 5، وزارة الثقافة، دمشق، 1990
18. الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص ،179 ، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق – 2003
19. الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص ص32، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق - 2003
20. ينظر: الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل،ص33-35، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق – 2003
21. مشكلة المكان الفني، يوري لوتمان – ت: سيزا قاسم – مجلة ألف باء – ع6 – 1986م : 81 ، وينظر: الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا : ص 171 .
22. ينظر: الصورة والبناء الشعري، د. محمد حسن عبد الله، ص 12، دار المعارف – القاهرة، 1981 م
23. البلاغية في البلاغة العربية، سمير أبو حدان، ص151، منشورات عويدات، بيروت، لبنان، ط 1، 1991
24. ظاهرة الانزياح الأسلوبي، صالح شتيوي ص83، مجلة جامعة دمشق المجلد 21، العدد (3 4) 2005
25. نظرية البنائية في النقد الأدبي، فضل، صلاح، ص 316، مكتبة الأنجلو المصرية القاهرة 1978.
26. المعجم الأدبي، الدكتور جبور عبد النور، ص293، دار العلم للملايين، الطبعة الثانية 1984
وينظر: الفضاء في روايات عبد الله عيسى السلامة، م. بان صلاح الدين محمد حمدي، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية، المجلد ١١، العدد ١، كلية التربية للبنات، جامعة الموصل، 2011.
27. معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مجدي وهبة وكامل المهندس. مكتبة لبنان. بيروت. ط.2. 1984.
28. ينظر الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية -، د.سمر روحي الفيصل، ص214-218، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق - 2003
29. ينظر: الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا، إبراهيم جنداري، ص 175، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 2001م
30. ينظر: الفضاء الروائي في الغربة – الإطار والدلالة، منيب محمد البوريمي، ص 22, 23، دار الشؤون الثقافية العامة, بغداد.
31. ينظر: الفضــــــــــــــــاء وتشكلاته السردية في الرواية العربية الحديثة، الدكتـــــور /حمد العزي صغيـــر، أستاذ الأدب والنقد - جامعة الحديدة – اليمن.
https://www.facebook.com/alamedbag/posts/425638900781445
32. نفسه.
33. ينظر:.البناء الفني في الرواية العربية في العراق -2- ص 23، الوصف وبناء المكان، شجاع مسلم العاني، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 2000.
34. ينظر: بناء الرواية دراسة مقارنة، سيزرا قاسم، ص 88، مكتبة الأسرة، 2004 .
35. البناء الفني في الرواية العربية في العراق -2- ص 23، الوصف وبناء المكان، شجاع مسلم العاني، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 2000.
36. رواية خلود، سمير الجندي، دار الجندي، ط 2، 2112.