بيت لحم- معا- احتاج جهاز الشاباك إلى غلطة واحدة فقط حتى يكتشف لقاء القمة لقادة حماس واغتيال اثنين من كبار قادة الحركة، وذلك في نهاية مطاردة وصفها احد قدامى ضباط "الشاباك" بسباق الجواسيس، ونقل "منسقو" الشاباك في المنطقة المعلومات من واحد إلى آخر حتى تم تجميع "الأحجية" الاستخبارية "بازال"، وفي النهاية حصلت هذه الأحجية على تأكيد بنسبة 105% من مصدر موثوق جدا أفاد بان قائدين "إرهابيين" موجودين الآن داخل مبنى يقع جنوب قطاع غزة، لتنهي عدة صواريخ أطلقت من الجو المهمة وتغتال قائد المنطقة الجنوبية في حماس "محمد أبو شمالة" وقائد اللواء الجنوبي "رائد العطار".
ولد العطار وأبو شمالة عام 1974 بفارق عدة أشهر بينهما في مخيم "رفح" للاجئين وترعرعا بين أزقته وداخل بيوت الصفيح ولم يريا جنودا في تلك الأيام لأن الجيش الإسرائيلي في ذلك الوقت كان يمتنع من دخول هذه المناطق خشية وقوع مواجهات، ولكنهما تربيا على "الكراهية" داخل المساجد وتحولا الى شخصين متدينيين ليبدأ الاثنان وفي سن السابعة عشرة تدريباتهما العسكرية ضمن صفوف حماس، وعملا في مهام ثانوية مثل الحراسة والخدمات اللوجيستية، ومع مرور الوقت نالا ثقة قادتهم فتم تأهيلهما لتنفيذ عمليات وإرسالهما للقيام بعمليات اطلاق نار قُتل خلال إحداها ضابط في لواء "الناحال" يدعى "غيا عوفاديا" وفتى يدعى "رون سوبل"، وفقا لما نشره اليوم "السبت" موقع "واللا" الالكتروني الناطق بالعبرية استكمالا لتحقيق نشره الخميس الماضي حول طرق وأساليب عمل جهاز الشاباك وحرب الأشباح التي خاضها ولا زال يخوضها ضد الفصائل الفلسطينية واغتيال قادة هذه الفصائل في أكثر من مناسبة وواقعة.
برز الاثنان رائد العطار ومحمد ابو شمالة في تسعينيات القرن الماضي، واستمرا بالعيش على طريقة المطاردين، حيث كانا يغيران مكان إقامتهما ويموها هويتيهما وشخصيتيهما الحقيقيتين، وامتنعا عن الاتصال بأقربائهما ومقربيهما، وسارا في الشوارع ملثميّن، وتلقيا المساعدة من أشخاص ثقة، وكان خوفهما الكبير أن يقعا في يد "منسقي" الشاباك، الذين كانوا يطاردونهم ويحاصروهم بشكل مكثف ومستمر.
واعتقل الاثنان عام 1995 على يد أجهزة الأمن الفلسطينية، بتهمة قتل ضابط أمن فلسطيني، لكنهما عادا للحرية بعد أقل من عام، فيما انضم أبو شمالة للأجهزة الأمنية، ورغم هذا الانضمام بقي راغبا بالعودة مرة أخرى إلى رائد العطار وقتل ضابط فلسطيني آخر، مما أدى إلى اعتقال الاثنين مرة أخرى على يد أجهزة الأمن الفلسطينية، وحكم أبو شمالة هذه المرة بالسجن المؤبد، فيما كان حكم الإعدام من نصيب رائد العطار، ليتم إطلاق سراحهما مع انطلاق الانتفاضة الثانية بناء على أوامر مباشرة أصدرها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، بهدف تمكينهما من المساهمة في الكفاح المسلح ضد الجيش الإسرائيلي، وفقا لتعبير الموقع الالكتروني.
وواصل "الشاباك" تعقبه ومطاردته لرائد لعطار وأبو شمالة، وتعمقت المطاردة مع ترقي الاثنين سلم القيادة في حماس، حيث تم تعيين أبو شمالة قائدا للقطاع الجنوبي في الحركة يعمل تحت امرته قادة الألوية، بينهم قائد لواء رفح الذي كان صديق طفولته، ونجح الشاباك في عدة مناسبات بتحديد مكان اختبائهما، لكنهما نجحا في الفرار والهرب في كل مرة وفي اللحظة الأخيرة.
ورغم حياة المطاردة والهرب، نجح الاثنان في تنفيذ وتخطيط عدة عمليات، أخطرها كان عملية "نفق الموت" على محور فيلادلفيا عام 2002، كما اشترك العطار بتخطيط عملية التسلل إلى موقع "افريقا" العسكري قرب كرم ابو سالم، وقتل أربعة جنود، كما كان مسؤولا عن تفجير "نفق الموت" تحت موقع "اورحان" عام 2004 وقتل 6 جنود، وفي عام 2006 كان للاثنان دور كبير في عملية أسر الجندي "غلعاد شاليط"، وفي عام 2008 شاركا بتفجير سيارتين مفخختين قرب معبر كرم أبو سالم، وكان لرائد العطار تدخلا خاصا في حفر وبناء الأنفاق الهجومية، التي حفرت من غزة باتجاه إسرائيل، وإقامة القوات الخاصة التابعة لحماس، وكذلك إرسال خلايا لتنفيذ هجمات ضد الجيش المصري، حسب ادعاء الشاباك الإسرائيلي.
ومع إطلاق عملية "الجرف الصامد"، كان العطار على علاقة مباشرة بتسلل مجموعة فلسطينية مسلحة من 13 مقاتلا إلى إسرائيل عبر الأنفاق، كما كان لقواته الخاصة دور كبير في المعركة التي انتهت بقتل وأسر الجندي "هدار غولدن".
أربك الهجوم الذي شنته الطائرات الإسرائيلية أثناء الحرب الأخيرة على أحد البيوت، حيث يعتقد أن المطلوب رقم واحد "محمد ضيف" يقيم فيه الذراع العسكري لحماس وبدلا من التركيز على السؤال كيف نجح "منسقو" الشاباك باختراق الدائرة الصلبة القوية المحيطة بمحمد ضيف دخل قادة الحركة الكبار في حالة من الضغط الكبير واهتموا بتوزيع صلاحيات "ضيف" وكيفية مواصلة المعركة ضد الجيش الإسرائيلي.
وأجبر "الضغط" رائد العطار وابو شمالة للخروج من مكان اختفائهما والاجتماع في مكان مفتوح وغير آمن، وفي ليلة 21/8/2014 وفي تمام الرابعة فجرا، تلقى الشاباك المعلومة الذهبية، حيث لفت "منسقو" الشاباك نظر وأعين كافة الأجهزة الاستخبارية إلى مكان اللقاء الذي سيجتمع فيه "العطار وأبو شمالة"، وشرعوا بجمع المعلومات من خلال العملاء والجواسيس.
وكان واضحا لكافة الجهات المشاركة بأن الأمر يتعلق بسباق ضد الزمن ، ورغم المعركة البرية والجوية والبحرية التي يديرها الجيش ضد غزة ، وكان " العملاء والجواسيس" يتسكعون في المنطقة ويتجولون فيها لجمع المعلومات ، مخاطرين بحياتهم، مع إمكانية أن تصيبهم نار الجيش أو يتم كشفهم من قبل حماس والمقاتلين الفلسطينيين.
وانتشر نبأ اغتيال الاثنين مثل النار في الهشيم في أرجاء القطاع، لكن أبو شمالة كان قائدا أكثر أهمية من العطار ، وبالنسبة لحماس ورفاق السلاح كانت ضربة العطار أشد وقعا لأنهم يعرفون تاريخه ومدى التقدير الذي يحظى به في الشارع الغزي.
هناك مقولة سائدة لدى "منسقي" الشاباك، وهم المسؤولين عن تجنيد وتشغيل العملاء والجواسيس في الضفة الغربية وقطاع غزة، تقول: "إذا حلمت يوما باللغة العربية فاعلم بأنك قد أصبحت منسق شاباك جيد، وأنهيت أخر مراحل التدريب والتأهيل".
ويشكل المنسقون عيون إسرائيل في الضفة وقطاع غزة وغور الأردن والحدود المصرية، وعميلا في كل مكان ومنطقة من البحر إلى النهر، فيما يتعلق تحديدا بأعمال التجسس والنشاط الأمني بما في ذلك داخل المدن الفلسطينية.
والمنسق هو: "حيوان بري يتنفس هواء الميدان ويعيش فيه حتى وإن لم يكن متواجدا فعليا في الميدان، فهو يشغل العملاء والجواسيس كما يحدث حاليا في قطاع غزة، فهو يعرف المنطقة بأدق تفاصيلها مهما صغرت وصولا إلى أكثر التفاصيل حميمية"، قال رئيس الشاباك السابق وعضو الكنيست الحالي "يعقوب بيري"، الذي بدأ حياته "المهنية" داخل الشاباك كمنسق عمل في البداية في المنطقة الشمالية، ومن ثم انتقل إلى شمال الضفة الغربية.
وأضاف "يقوم المنسق بمهمة معقدة جدا، وأنا أطلق عليها اسم "فن المغازلة والتودد"، لينجح في تجنيد مصادر معلومات بشرية وإجبارها على التعاون مع دولة إسرائيل، وأفضل مصادر المعلومات التي جندها الشاباك لم توافق بالضرورة على العمل لصالحه، بسبب إغراءات مالية أو لحصولها على تصاريح لتلقي العلاج في إسرائيل، أو بسبب الاستغلال أو ممارسة الضغوط، بل بسبب "سحر وجاذبية" المنسق، وهناك عملاء أقاموا علاقات صداقة قوية مع مشغلهم وحافظوا عليها حتى يومنا هذا.
يقوم الشاباك ويستند أساسا على الأكتاف العريضة "للمنسقين" المنشغلين طيلة وقتهم في تجنيد العملاء، وتشغيلهم ورسم الصورة الاستخبارية الكاملة، المكونة من عدد كبير من المعلومات وأجزاء المعلومات، وتعتمد الكثير من حالات إحباط العمليات الفلسطينية على حسن تقديرهم وفهمهم، لكن "منسق" الشاباك ليس وحيدا في مهمة جمع المعلومات، بل يعمل إلى جانبه مقاتلو "القوة التنفيذية" ورجال الاستخبارات الالكترونية، المدربون على استخلاص المعلومات الهامة والحيوية من المكالمات الهاتفية والرسائل النصية، والكاميرات ومحادثات "التشات" والبريد الالكتروني كما يوجد في قيادة الشاباك مسئولي الأقسام الذين يركزون المعلومات ويساعدون على بناء "البازل" ألاستخباري.
دورات المخابرات:
تعتبر دورة إعداد وتدريب منسق الشاباك من أهم الدورات التي يقيمها الجهاز، وتعقد هذه الدورة مرة في العام، ويتنافس الاف الشبان للحصول على مقعد من مقاعدها المحدودة، لكن القليل منهم يجتازون مسار التأهيل المرهق.
ويقع غالبية المرشحين لهذه الدورات في الفئة العمرية التي تتراوح ما بين 25-35 عاما، ويحملون درجة البكالوريوس وبعضهم يخرجون للدراسة اثناء عملية تأهيلهم.
وحاول قدامى المنسقين وضع القواسم المشتركة لهذه الوظيفة ، التي خرج منها معظم رؤساء الجهاز، وتوصلوا الى عدة قواسم أو صفات مشتركة الواجب توفرها في المنسق منها التواضع ، وأن يتمتع بشخصية حساسة ومرهفة الحس، صاحب قيم ، قادر على العمل تحت الضغط النفسي الشديد ، أن يكون صاحب قدرة على التحليل السريع ".
تبدأ المرحلة الأولى من عملية التأهيل داخل "المعهد " ، وهو عبارة عن مدرسة لغات تابعة للشاباك ، أقيمت قبل 45 عاما ، وهناك لا يتعلمون العربية فقط بل لغات أخرى يتم إضافتها وفقا لتغيير مصادر وأنواع التهديدات التي تواجهها إسرائيل ، ففي الماضي البعيد كان " المنسقون" من اليهود من مواليد الدول العربية، لكن هذه الأيام هناك من لم يتعلم العربية في المنزل ، لكن مع نهاية 42 يوما تعليميا يتعلمون اللغة العربية بمستوى عال جدا ، بما يمكنهم من إدارة حوار في مختلف المواضيع والجوانب سواء كان مع رجل أعمال دولي أو مع مزارع بسيط .
ويتبادل المنسقون أثناء الدورة فيما بينهم الرسائل الالكترونية المكتوبة باللغة العربية ، ويتعلمون تلاوة آيات وأجزاء من القرآن ، يتلونها عن ظهر قلب ويعرفون جيدا الثقافة العربية ، وخلال الدورة يفتح عالما جديدا أمام المتدرب الذي سيكتشف الجوانب الجميلة من الإسلام ، وما هو مكتوب بالضبط على يافطات الطرق في شارع ايلون مثلا وما بينهما .
وهذه قصة تبين مدى أهمية تعليم الثقافة خلال دورات المخابرات ، " التقى وزير الجيش الإسرائيلي شاؤول موفاز مع محمد دحلان ،لتنسيق عملية نقل الصلاحيات الأمنية للجانب الفلسطيني بعد عملية الانفصال عن غزة ، سأل رجل مخابرات اسرائيلي عمل كمترجم أثناء اللقاء في مرحلة معينة موفاز : هل سيكون محمد دحلان مؤهلا ومستعدا لتنفيذ هذه المهمة ، فرد الدحلان بالإيجاب ، لكن "المترجم" قال للوزير موفاز: بأن دحلان قال : بأنه غير مستعد وغير مؤهل، وهنا تدخل مستشار موفاز وقطع المحادثة بغضب ، وقال لموفاز : بأن رجل المخابرات حرف الحديث ، وهنا نظر موفاز بغضب نحو مترجم الشاباك الذي قال انه يترجم أيضا مغزى الحديث وليس فقط معاني الكلمات ، وحسب رأيه فأن الدحلان ولدواعي تتعلق بالكبرياء ، لن يقول أبدا بأنه غير مؤهل وغير مستعد، واستمرت المحادثة بعد ان هدأت الأجواء ، وفي نهاية اللقاء طلب رجل الشاباك من موفاز أن ينظر إليه ، فأسقط بشكل متعمد قلما كان يحمله ،فقام دحلان بالتقاط القلم وإعادته لرجل المخابرات ، الذي قال للوزير: هل ترى يا سيدي الوزير؟ هكذا فقط يتصرف شخصا ولد في مخيم للاجئين، ولو كان شخصا عاديا لتجاهل القلم وواصل الحديث، يا سيدي لم أترجم لك فقط الكلمات، بل ترجمت الثقافة أيضا وهنا ابتسم موفاز.
ويقام في نهاية مرحلة " المعهد" حفلا مثيرا، بحضور رئيس الجهاز ونائبه وكبار المدراء فيه وأبناء عائلاتهم ، وهذا الحفل يعتبر خطوة جوهرية في العملية التدريبية التي يخضع لها المنسقون استعدادا للانتقال للمرحلة القادمة، والتي تستمر 10 اشهر في مدرسة المخابرات التابعة للشاباك، حيث يتم تقسيم المشاركين في الدورة الى قطاعات مختلفة ، ويتلقى كل واحد منهم " معلم" خاصا يساعده في عملية تأهيله الميداني، ويحصل كل منسق على لقب يستعمله خلال حديثه مع الجواسيس ، ويستعمله حتى داخل الشاباك نفسه ، وهناك من يحملون اللقب إلى منازلهم أيضا.
وأثناء العمل سيعلم مشغل الجواسيس بأنه مطالب باظهار الاحترام للإسلام وثقافة العدو ، وسيعلمه المعلم كيف يكون شخصا حساسا ومتيقظا لكل تفصيل من تفاصيل شخصية الشخص الذي يقابله ويعمل معه ،ويشغله " الجاسوس" مهما كان صغيرا ، وعليه أن يتعلم بأن السيدة التي تسير أمامه في الشارع مرتدية الحجاب ليس بالضرورة أن تكون امرأة ، وأنه يجب أن يكون شكاكا وخلاقا طيلة الوقت ،وأن حرب استقطاب العملاء وتشغليهم لصالحه حربا طويلة ومتواصلة ومستمرة ، وتحتاج إلى مواظبة ، وخلافا لما هو شائع يتعلم " المنسق" أن لا يكون عنيفا اتجاه العميل والجاسوس ، وأن كل شيء قائم على العلاقة والاتصال الشخصي.
ويسأل المتدرب خلال عملية التأهيل الكثير من الأسئلة المعقدة ، مثل هل نتعلق بالعميل " نرتبط بان نحافظ على مسافة معينة بيننا حتى لا ينسى العميل من هو السيد ؟ وهل مسموح أن نخاطر بحياة الجاسوس ونعرضها للخطر؟ إلى أي درجة يمكن ممارسة الضغط على الجاسوس لإحضار معلومات من شـأنها ان تنقذ حياة الناس؟ فيرد " المنسق" القديم صاحب الخبرة بالقول :بأنه عالم مليء بما هو غير مألوف، وبالكثير من الفضول لكن السذاجة غير واردة بالحسبان ،لأن العميل يعيش تحت تهديد وخطر مستمرين ، وسريعا جدا سيفهم بأنه يصارع عالم الظلام ، لذلك من المهم أن نتصرف معه بحساسية ، وكذلك يتعلم " المنسق" التعامل بحساسية مع المطلوب الذي سلم نفسه ولم يقاوم ، وأن يتيح له على سبيل المثال أن يودع ويحتضن والديه لأنه لن يعود لهم في السنوات القادمة.
رافق عدد من " منسقي" الشاباك خلال عملية " الجرف الصامد" قوات لواء"الناحال" أثناء احتلالها منطقة شمال قطاع غزة ، وشعر ضباط " الناحال" بالدهشة من حجم معرفة " المنسقين" للمنطقة ،رغم أن قدمه لم تدسها سابقا ، واندهشوا من سيطرتهم وتحكمهم بالأمر رغم أن منهم من لم يكن يوما في بيت حانون.
وأضاف بيري " تسبب خروج إسرائيل من غزة في تحول دراماتيكي في طبيعة عمل ووظيفة منسق الشاباك ، وهذا لم يمنعهم من تحقيق الانجازات ، " أنت ملزم بمعرفة دقيقة وعميقة للمنطقة المسئول عنها ، ويجب ان تكون بروفيسور في منطقتك ، يجب أن تعرف السكان وكيف يعيشون من الناحية الاجتماعية - الاقتصادية ، وما هو وضعهم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ،يجب أن تعرف العشائر والحمائل والمنظمات صاحبة التأثير ،والشوارع وكل التفاصيل التي تساعد المنسق في السيطرة والتحكم بالمنطقة ، يبدو أن هذا الأمر مثير لكنه أيضا مرهق " .
وظيفة "المنسق" لم تتغير من حيث الهدف منها منذ ان كان " بيري" على رأس الجهاز ، ومن بعد افي ديختر ويوفال دسكين ، وحتى يومنا هذا ورئاسة " يورام كوهن " للشاباك بقيت الوظيفة ذاتها ،لكن حجم وضغط العمل زاد واشتد ، وكذلك تعقيد التهديدات في الماضي ، كان في كل قرية فلسطينية جهاز هاتف واحد مثلا وفقط لمختار وأبناء عائلته سمح لهم باستخدام هذا الهاتف ، أما اليوم كل مواطن يحمل هاتف خلوي ، كذلك الحيز الجغرافي في الماضي كان محددا بشكل واضح ، لكن اليوم أصبح هذا الحيز عالميا وعابرا للقارات واذا كان التهديد في الماضي عبارة عن حجارة وزجاجات حارقة وبنادق ، فاليوم توسعت دائرة التهديدات الواقعة ضمن صلاحية الشاباك لتشمل الأنفاق والصواريخ ونشاطات بحرية متشعبة ، لذلك هناك "منسق" شاباك مهمته ووظيفته غير محددة جغرافيا ، بل يمكن تقسيمها حسب موضوع الاختصاص ومجال الاتفاق ، أو متابعة المنظمات المختلفة وهكذا .
أجبرت التهديدات الواسعة والمتنوعة " منسق " الشاباك على الإبداع ، وأن يكون صاحب خيال خصب وخلاق ، يمكنه تجنيد رجل أعمال عاقل وبالغ خلال محادثة واحدة فقط ، وأن يتحدث معه عن الضرائب والجمارك والتأمين والاستيراد والتصدير ، وصعوبات نقل البضائع ،وبعدها يجد نفسه في محادثة مع منتج صواريخ يصف أمامه الصاروخ وما قطره وطوله ،لذلك فان "منسق" الشاباك مطالب بأن "يكون على دراية بسلسلة طويلة ومتنوعة من المواضيع ، منها الاقتصادية والتكنولوجية ، وأن يعرف أيضا من فاز بالمرتبة الثانية والثالثة مثلا في برنامج " ارب ايدول " ، كما يجب عليه أن يحدد نوع الصاروخ الذي وصفه له العميل وبسرعة كبيرة ،وأن يفهم بأن الأمر يتعلق بصاروخ جديد لم نشهده في الميدان سابقا ، وعلى " المنسق" أن يتسلل إلى أعماق عقل " الإرهابي" ، وأن يعرف متى يقول الحقيقة ومتى يكذب حسب تعبير قائد الشاباك السابق .
وتعتبر مهمة الشاباك و " المنسقين " أكثر صعوبة في غزة ، لأن " المنسق" لم يسبق له أن دخل غزة وداس أرضها ، وهناك مقولة سائدة بين رجال الشاباك تقول " بأن سكان غزة يبيعون المعلومات أسهل وأكثر مما يفعله سكان الضفة الذين يتمتعون بوضع اقتصادي أفضل بكثير " .
التوتر هو سيد الموقف رغم الاختلاف من منطقة إلى أخرى ،والفرق الجغرافي والثقافي بين المناطق المختلفة ، ينشغل " منسقو" الشاباك طيلة الوقت في إغراء وتجنيد العملاء ونقلهم للعمل من جانب على أمل أن لا يشعر الجاسوس بالندم فيما بعد .
يعمل " المنسقون" من خلف الكواليس ، ولا ينالون المديح أو الثناء كما يحدث في الجيش مثلا ، ومع ذلك يدعي رئيس الشاباك السابق " بيري" بان شعورا عاما بالرضا يسود صفوفهم ، نتيجة حرب الأشباح وحرب الأدمغة التي يخوضها كل " منسق" في منطقة مسؤوليته .
ورغم هذه الصورة يجب على الشاباك أن يواجه الفشل والإخفاقات أيضا، التي تعبر عن نفسها بعدة طرق بافتضاح أمر الجاسوس ، نجاح عملية مسلحة او عملية تستهدف حياة احد المنسقين .
تتجه أنظار و آذان " المنسقين" فور ورود الأنباء الأولية عن أية عملية تفجيرية أو غيرها على شخص المنفذ لمعرفة من أين جاء؟ والى أية بنية تحتية ينتمي طريقة وصوله إلى مكان العملية ، حيث تدور حول هذه النقطة الكثير من الأسئلة ، وهنا لا يوجد أي " منسق" يرغب أو يريد أن يكون المنفذ من منطقة اختصاصه ، حتى وان كان الحديث عن منفذ " فردي" قام من نومه وقرر أن يقتل يهود حسب تعبير الشاباك .
وصف "بيري" موت كل عميل أو جاسوس بفشل يسجل للمنسق ، وقال: "كل خلل يؤدي الى كشف المصدر، ويمكن أن يؤدي أيضا إلى تصفية المصدر ، واذا تم شنق الجاسوس في وسط القرية ، فهذا فشل لكل منسق ، هذه هي مسؤوليتك المباشرة ، والمنسق يكون جاهزا لتحمل المسؤولية كما تربى داخل الجهاز ، ويجب أن نعرف بأنه لا يوجد شيء كامل ولا يوجد ما هو 100% ".
وأخيرا يستعرض "بيري" عددا من المخاطر التي يتعرض لها منسق الشابك ، حيث لا تقتصر هذه المخاطر على اللقاءات الشخصية التي يجريها المنسق مع الجاسوس ،بل تعتمد على مشاركة المنسقين والجيش في الأعمال الميدانية مثل حملات الاعتقال ، ويستذكر محاولة "جاسوس خائن " اغتياله عام 1968، ورغم أن هذه الاحداث غير مألوفة لكن سريعا تتعلم منها كيف تتعامل مع احداث معقدة .
هناك خطر أن يغدر "الجاسوس" بمشغله " المنسق" ، وهذا الخطر يرافق رجال الشاباك دائما ، فقد قتل عام 1980 "منسق" الشاباك المدعو "موشه غولان" على يد عميل كان يشغله ،وبعد عدة ايام قتل " العميل" في تبادل لإطلاق النار مع عناصر الشاباك والجيش ، ولم يتم نشر التفاصيل الدقيقة لهذه الحادثة حتى اليوم ، وفي عام 1984 قتل منسق الشاباك "زئيف غفع" في عملية داخل لبنان ، و في 1993 قتل منسق الشاباك "حاييم نحماني"، و في 1994 قتل منسق الشاباك"نوعم كوهن "، و في 2005 أقدم فلسطيني على تفجير نفسه في مشغله منسق الشاباك "عوديد شارون " ، وجميع هذه الأحداث تحفظ الشاباك عن نشر تفاصيلها حتى ألان .
تحدث " منسقي" الشاباك السابقين عن تناقض في القيم المتعلقة بحياة الإنسان ، حيث يحملون قيما متناقضة بحياة الإسرائيليين وأخرى متناقضة تتعلق بحياة العملاء والجواسيس الذي يشغلونهم ، حيث يتحدثون عن معضلات قيمية وضميرية معقدة .
متابعة فؤاد اللحام