بيت لحم - معا - تُقدّر الميزانية العسكرية الإسرائيلية الرسمية بـ 55 مليار شيكل، لكن الجيش الإسرائيلي في واقع الحال يحتكم ويتصرف بميزانية اكبر بكثير من هذا الرقم، علما ان الزيادة لم تقرّها الكنيست كما يقضي "القانون" الإسرائيلي وتطلق عليها وزارة الجيش اسم "التعاقدات " فيما لا توجد أي جهة او شخص خارج أسوار وزارة الجيش يعلم تماما حجم هذه الميزانية السرّية وفقا لما كشفه موقع "كلكلست" الاقتصادي الناطق بالعبرية.
وقال الموقع في مستهل التقرير المطول مخاطبا جمهوره " قد يبدو هذا التقرير عبارة عن دوّامة ومتاهة معقدة مقسمة لعدة فصول وأجزاء، لكن من المهم أن تخصصوا لها عدة دقائق لأنها تكشف الثقب الأسود الأكبر في ميزانية (الدولة) وهو (ميزانية الأمن ووزارة الجيش) الذي يبتلع أموال ضرائبكم في كل فرصة سانحة.
وكشفت الشهادات التي وصلت "كلكلست" من مصادر عديدة وعبر أعمال ونشاطات اخرى الصورة التالية:
اتضح ان الميزانية التي تتصرف بها وزارة الجيش بشكل يومي ودائم ليست الميزانية التي اقرّتها وصادقت عليها الكنيست، بل تضخم وزارة الجيش الميزانية المصادق عليها وتتصرف بميزانية اكبر بكثير من الرسمية المعلن عنها وذلك عبر ميزانية سرية خاصة يطلقون عليها اسم "ميزانية التعاقدات" تلك الميزانية التي لا يعلم أي شخص في إسرائيل خارج مبنى وزارة الجيش شيئا عنها، وتقوم فكرتها على استخدام الجيش لجزء من الميزانيات المخصصة "لزيادة قوته وعظمته العسكرية وعمليات الملائمة المستقبلية" أكثر من مرة خلال تعامله مع "متعاقدون" ما يعني تضخم الميزانية العسكرية وحتى يمكن فهم كيف تجري هذه العملية وعلى ماذا يجري الحديث يجب ان نعود الى يوم 7/5/2010 حيث أرسل حينها رئيس قسم الميزانيات في وزارة المالية "اودي نيسان" في ذلك الوقت والمحاسب العام في الوزارة في تلك الفترة "شوقي اورون" رسالة حادة جدا وجهوها لمدير عام وزارة الجيش في ذلك الوقت "ادوي شيني" حملت عنوان "إدارة الميزانية الأمنية" وكانت رسالة قصيرة مكونة من ثلاثة بنود أو نقاط أغربها البند الأول الذي جاء فيه "تقسم ميزانية الوزارات إلى ثلاثة أقسام قسم مصروفات وقسم مصروفات مشروطة وأخيرا ميزانية تصرف بالتفويض والتعهد" والسؤال هنا لماذا توجب على موظفين رفيعين أن يشرحا لموظف رفيع آخر كيفية بناء الميزانيات؟ هل كان مدير عام وزارة الجيش جاهلا بهذه الأمور الأساسية؟
وجاء الجواب على هذا السؤال الكبير ضمن البند الثاني من الرسالة الذي جاء فيه " علمت بوجود ميزانية إضافية في وزارة الجيش هي وزارة (التعاقدات) لذلك نطلب منك توضيحات مفصلة تتعلق بطريقة إدارة هذه الميزانية".
وبهذا اعترف المسؤولان الكبيران في وزارة المالية بأنهما اكتشفا عام 2010 فقط وجود الميزانية الإضافية في وزارة الجيش وان وزارة الجيش تدير الميزانية العسكرية في إطار ميزانية إضافية كانت معروفة سابقا لرجالات الجيش وهي ميزانية لم يسبق لوزارة المالية أو الكنيست إن علمت أو صادقت عليها مطلقا أو حتى سمعت بها.
وكشف أمر الرسالة الحادة سابقة الذكر بعد عام ونصف من تاريخها فقط وجاء ذلك في سياق نقاش أجرته لجنة المالية التابعة للكنيست في مكتب وزير الجيش في ذلك الوقت "اهود باراك" وبمشاركة وزير المالية في ذلك الحين "يوفال شتاينتس" الذي حمل الراية المضادة لميزانية الأمن والمطالبة بتقليصها.
وشرح "باراك" في هذا النقاش لأعضاء الكنيست الذين حضروا في سياق عضويته بلجنة المالية كيف يقوم وزير المالية بتضليلهم حين يدعي غياب الشفافية عن ميزانية الجيش، وهنا وبشكل مفاجئ تحدث عضو اللجنة عن الحزب اليهودي "اوري ارئيل" عن أمر الرسالة التي قال فيها مسؤول قسم الميزانيات في المالية إلى مدير عام وزارة الجيش "سيدي المدير العام ان تخالف القانون بشكل يومي" وتساءل اوري ارئيل "لماذا قيل هذا الكلام ؟ ببساطة لانهم اكتشفوا ميزانية "العلاقات والاتصالات" التي كانت السبب وراء الرسالة واكتشفوا أيضا بأنها تدرا بطريقة غير شفافة وتطرح العديد الأسئلة وإشارات الاستفهام.
ويتم إعداد هذه الميزانية من قبل رئيس قسم الميزانيات في وزارة الجيش وهو ضابط برتبة عقيد ويعمل أيضا مستشارا ماليا لرئيس الأركان دون علاقة بوزارة المالية وشغل هذا المنصب في الفترة ما بين أعوام 2007-2014 حيث تم إعدادا هذه الميزانيات العقيد "مهرن بروزنفر" .
في العادة تتلقى الوزارات الإسرائيلية ميزانياتها عبر النظام المحوسب مباشرة من ميزانية وزارة المالية وذلك بعد ان تصادق الكنيست على الميزانية العامة وذلك من خلال المحاسب العام الذي يضيف إلى بنود الميزانية الأرقام المطلوبة وفقا للميزانيات المحددة او التي جرى تحديدها ولان ميزانية وزارة الجيش والجيش نفسه تعتبر في غالبية بنودها سرية هناك نظام محوسب خاص يهما وغير مرتبط بحواسيب وزارة المالية لذلك وبعد مصادقة الكنيست على الميزانية يقوم مسؤول قسم الميزانيات في وزارة الجيش بترجمة البنود إلى أرقام ويدخل هذه الأرقام إلى الحاسوب ويقوم بإدخال هذه الأرقام إلى حاسوب وزارة المالية وهي أرقام غير حقيقة ما يعني بأنه يدخل أرقاما تختلف في حقيقتها عن الأرقام الحقيقة التي تعكس القيمة الحقيقة للمبالغ التي استلمها.
فعلى سبيل المثال نفرض ان ميزانية وزارة الجيش 51 مليار شيكل سنويا كما كانت عام 2014 ولنفرض ان 26 مليار من هذا المبلغ مخصصة للمصروفات الثابتة مثل الرواتب.. يقوم مسؤول قسم الميزانيات بوضع هذه الأرقام جانبا ويقول بقي في الميزانية 25 مليار وهناك مبالغ أخرى توضع جانبا ولا يتم احتسابها مثل إن افترض ان وزارة الجيش مدينة "للمتعاقدين الخارجيين الذين يزودونها باحتياجاتها المختلفة" بمبلغ 20 مليار شيكل وبهذه يتبقى للجيش 5 مليار شيكل فقط يكنه التصرف فيها وصرفها في مجال ابتياع الأسلحة الجديدة وزيادة قوته العسكرية وتطوير الوسائل القتالية الجديدة وشراء منظومات تكنولوجية مستقبلية وهكذا وهنا بالضبط تبدأ المناورة المالية الكبرى.
تطوير وشراء منظومات جديدة عملية تأخذ وقتا طويلا لذلك فان وزارة الجيش غير مجبرة على صرف كامل المبلغ الذي حصلت عليه لهذه الغاية في نفس السنة المالية لذلك تقوم باستخدام كل شيكل أكثر من مرة واحدة ولأكثر من غاية وغرض.
على سبيل المثال إذا امتد تنفيذ مشروع تكنولوجي معين على مدى عامين يمكن لمسؤول قسم الميزانيات أن يمول هذا المشروع وفي المقابل ان يستخدم نفس المبلغ وعلى نفس القاعدة المالية لتمويل مشروع آخر قبل إن تصل فواتير المشروع الأول وتستحق الدفع لكن اذا استمر المشروع لمدة ثلاث سنوات فان هذه العملية تكون اكبر وهكذا دواليك وبهذه الطريقة فان مبلغ 55 مليار شيكل هي قيمة الميزانية الرسمية تبني عليها وزارة الجيش ميزانية اكبر بكثير من هذا المبلغ، لكن اكبر إلى أي مدى ؟ لم يستطع احد حتى ألان في إسرائيل أن يحصل على جواب قاطع فوزارة المالية لا تملك مقومات الإجابة على هذا السؤال فيما تمترست وزارة الجيش أمام حقها في الرفض وعدم الإجابة.
وماذا يجري مع الميزانية الرسمية التي صادقت عليها الكنيست؟ تطلق وزارة الجيش على الميزانية الرسمية اسم "ميزانية التمويل" لانها من وجهة نظرهم تعكس التدفقات المالية النقدية اليومية وينظرون للميزانية الرسمية كنون من التوصية فقط لا غير.
وتتمثل المهمة الأساسية للمستشار المالي لرئيس الأركان ورئيس قسم الميزانية في الوزارة التأكد من وجود ما يكفي من أموال في حساب وزارة الجيش في كل لحظة وحين بما يسمح بتمويل "ميزانية التعاقدات" السرية بشكل سلس ويومي وهذه الامر يتم من خلال فرضيات إحصائية تقوم على حساب سرعة ووتيرة تنفيذ المشاريع بالقياس على سرعة تنفيذ مشاريع سابقة حتى يتوصلوا الى تصور معين عن وتيرة تنفيذ المشاريع المشابهة في المستقبل وعلى أساس هذه الفرضيات تضخم وزارة الجيش ميزانيتها الأصلية لتصل الى حدود "ميزانية التعاقدات" وهي الميزانية التي يتم اتخاذ القرارات على أساسها ووفقا لها وليس على أساس الميزانية التي صادقت عليها الكنيست.
اندلعت الاحتجاجات الاجتماعية يوم 14/7/2011 وهي احتجاجات كان لها أبعاد سياسية واقتصادية لم يعمل مسئول الميزانيات في وزارة الجيش حسابها ولم يكن يتوقعها وتحت تأثير هذه الاحتجاجات قرر نتنياهو في شهر "اب" 2011 إقامة لجنة " تريختنبرغ " التي قدمت توصياتها خلال شهر واحد فقط ومن بين هذه التوصيات إلغاء تخفيض الضرائب وتطبيق نظام التعليم الالزامي للأطفال من سن 3-4 سنوات وذلك من خلال تقليص 2:5 مليار شيكل من ميزانية الجيش وهو تقليص قد يستمر ويتواصل لسنوات قادمة كونه تقليصا من أساس الميزانية.
وكانت توصيات اللجنة المذكورة بالنسبة لوزارة الجيش بمثابة حكم لا يمكن تطبيقه والتعايش معه لان التقليص المقرر سيخلق ثقبا اسودا كبيرا في الميزانية التي يعمل الجيش بموجبها في حقيقة الأمر وهي ميزانية " التعاقدات" ما قد يتسبب بإصابة الجيش بكامل تفرعاته بالشلل لذلك وقف وزير الجيش في تل الفترة " اهود باراك" ورئيس أركانه " بني غانتس" على قدميهما الخلفيتين " على ذنبهم" من شدة الغضب وصاحوا بصوت مرتفع بأنهما لن يتمكنا من تنفيذ ذلك بأي شكل من الأشكال فيما كان نتنياهو في ضائقة كبيرة انعدمت فيها خياراته تقريبا.
وصادقت حكومة نتنياهو في يانير 2012 على توصيات اللجنة وتم تقليص 3 مليار شيكل من أساس ميزانية الجيش ولكن وحتى لا تتوقف النشاطات العسكرية منحت الحكومة وزارة الجيش ميزانية إضافية بقيمة 3:1 مليار شيكل.
وبسبب الأزمة المالية التي خلقتها وزارة الجيش منحت وزارة المالية والحكومة الفرصة التي كانت تنظرها لسنوات وقررت الحكومة فرض الرقابة وقواعد الشفافية على ميزانية الجيش وكلفت وزارة المالية بعمل كل ما يلزم خلال 60 يوما لمراقبة الميزانية واجبر وزارة الجيش على فتح كافة البنود أمام رقابة وزارة المالية بالأرقام الحقيقة ودون تلاعب فيها وهذه يعكس حجم غياب الرقابة عن ميزانية الجيش إذا كان يلزم وزارة المالية أزمة كبيرة وغضب اكبر م قبل نتنياهو حتى يناكف وزارة الجيش ويفرض عليها قواعد الشفافية.
ولتقليل حجم الضرر أمر نائب رئيس الأركان " يائير نافيه" مسئول قسم الميزانيات والمستشار المالي لرئيس الأركان بجمع " التعاقدات" التي لم يتم توثيقها ضمن عقود حتى ألان من كافة الوحدات العسكرية ووقف تنفيذ هذه المشاريع حتى تلقي أوامر مفصلة بهذا الخصوص وذلك لعدم توفر الاموال الكافية لتمويلها وبعد عدة اشهر عمل رئيس قسم التخطيط في الجيش ورئيس قسم الميزانيات على تدقيق كل مشروع بكافة تفاصيله قبل المصادقة على أي مصروفات او تحويلات مالية .
وبدات صورة العجز المالي الكبيرة بظهور بشكل جلي وواضح نهاية 2012 حيث سجل عجز مالي في وزارة الجيش ضعف العجز المتوقع وبلغ هذا العجز 40 مليار شيكل.
وفي أعقاب اتفاق" الشفافية" الذي وقع عام 2010 بين وزارتي الجيش والمالية اطلق وزير المالية في حينه " شتاينتس" تصريحات احتفالية تنم عن الفرح والشعر بالنصر كون وزارته ستقتحم دفاتر حسابات وزارة الجيش المغلقة والسرية ما سيوفر حسب اعتقاده 2 مليار شيكل سنويا لكن التصريحات شيء والواقع شيئا اخر فقد منحت وزارة الجيش وزارة المالية نقطة ربط محوسبة لكن هذه النقطة لم تسمح لوزارة المالية بالإطلاع على جميع البيانات والمعطيات والأرقام فعلى سبيل المثال لم يكن بمقدور وزارة المالية معرفة حجم وقيمة ميزانية " التعاقدات" .
وحتى محاسب وزارة الجيش في تلك الفترة " تساحي مالكا" والذي كان حاضرا في اجتماع لجنة المالية التابعة للكنيست الذي عقد في مكتب " اهود باراك" لا يمكنه حسب قوله فرض رقابته على الجيش لأنه يملك صلاحية رؤية الأرقام لكنه لا يملك صلاحية تعديلها أو مراقبتها وقال في تصريح تناقلته وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة " في الجيش لا أقوم بالرقابة ولا املك القدرة والإمكانية الفنية لذلك أو لوقف أمرا ما اعتقد بأنه خاطئ ".
وتصور وجود ميزانية عسكرية سرية ليس بالامر الجديد فقد تحدى على سبيل المثال فقد تحدى الملحق الاقتصادي لصحيفة " يديعوت احرونوت " يوم 21/1/2009 أي جهة إسرائيلية أن تدعي العلم وجه اليقين الحجم الحقيقي لميزانية الجيش لعام 2009 أو أن تنشر الميزانية الحقيقية للأعوام 2011-2012 .
إعداد: فؤاد اللحام