نشر بتاريخ: 18/05/2015 ( آخر تحديث: 18/05/2015 الساعة: 22:34 )
رام الله- معا - في أحد منازل مخيم الدهيشة الملاصق لمشفى المجانين في بيت لحم، حيث يسود صمت اللجوء والأمل المجنون، صمت الدمار والفقر، ولد أسامة العيسة في العشرين من كانون الأول من عام 1963، ليكتب عن هذا الصمت مجنونا حينا، وعاشقا حينا آخر، ومتسامحا نصيرا للفقراء دائما. ولد لأبوين أصبحا صامتين بعد الهجرة القسرية من قرية زكريا قضاء الخليل. واستطاع الكاتب والصحفي الذي حاول رجل باكستاني خطفه وهو في الخامسة من عمره قبل أن ينقذه أولاد المخيم أن يخطف جائزة الشيخ زايد للآداب ليصبح الراوي "المجنون" الأول عن اصداره الأخير "مجانين بيت لحم"، عن دار نوفل في بيروت.
صمت الوالدين
تفصله عن والديه أربعون وخمسون عاما، وهو ما شكل غربته الأولى مع أقرب الناس إليه، أما الثانية فكانت في "الصمت الصوفي" لوالده المتوفى: "أبي فلاح راحت أرضه فعاش مقهورا لكن لديه أمل. كل الختيارية عاشوا بعد النكبة في عالم الآخر، فالنكبة شوهتهم "غيرتهم"، أبي أصبح صامتا ومتسامحا إلى حد ترك حقوقه". وفي المقابل كانت والدته البالغة مئة عام والتي تزوجت وهي في الثالثة عشرة من عمرها معروفة بذكائها وإجادتها للقرآن الكريم لا تنفك تردد أنه كان يمكن أن تحقق شيئا أفضل لو تعلمت وعملت. وكان صمتها عن اظهار حنانها للطفل العاشر في العائلة والمولود بعد أن فعل الاحتلال ما فعل للفلسطينيين البسطاء!
الفقر يقتل أطفال المخيم!
تنقل اسامة بين مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين في المخيم، ومدارس أرطاس ثم الخضر إلى أن حصل على دبلوم صحافة من الكلية الابراهيمية في القدس، عاش مع خمسة إخوة من عشرة توفي أربعة منهم وهم صغار "حتى منتصف الستينيات قتل الفقر والجهل نصف أبناء المخيمات". ورغم أنه لا يعرفهم إلا أن ذاكرته لم تهمل هذا الموت لتأثيره في العائلة أما الأخ الخامس والذي يكبره بثماني سنوات وهو الأقرب إليه فتوفي العام الماضي. الفقدان؛ هو أكثر ما يشغله ويخيفه فطبيعة المخيم جعلت الأدباء والصحفيين والأجانب يترددون عليه، ومغادرتهم هي الفقدان لأسامة.
شخصيات في الذاكرة
لم يكن الأول لكنه الطالب المُجِد فقد نجح في التوجيهي العلمي بعد دراسة لشهر واحد، بينما قضى معظم السنة في السجن. لا ينسى أسامة زميله الشهيد حسين عبد الفتاح الذي وقف في اليوم الأول في المدرسة ليسأل الأستاذ: "متى الفدوس؟" أي العطلة الصيفية ليضحك الجميع. حسين المناضل والمحب للحياة علق بذاكرته وتأثر لفراقه. عن هذه المرحلة من عمره قال: "كنا أولاد شوارع، أنقذتنا القراءة والسياسة من الانحرافات. ومن أبرز أساتذته محمد حسن من قرية بتير والذي علمه وأترابه ألا يخجلوا من فقرهم وحياتهم، كما تأثر باسماعيل البطمة والد الشهيدة تغريد التي قتلها الاحتلال عام 1980 في جامعة بيت لحم.
الاعتقال.. ليس نضالا!
اعتقل أسامة المحسوب على اليسار عشرات المرات وتعرف على المدن الفلسطينية من السجون، ومنها ما يسمى "الاعتقال الاحترازي" مثل مناسبة عيد الميلاد، وعند افتتاح سجن جديد، ورغم المناخ الثائر إلا أنه جزم قائلا: "لم أكن مناضلا بالمعنى العميق للكلمة ولا سياسيّا أو أسيرا، فمدرستنا كانت على شارع القدس الخليل بيت لحم وفيه يعتقل الجميع، الدهيشة وبيرزيت انتفضتا مبكرا، واشتبكنا يوميّا مع الاحتلال وظهرت خلايا مسلحة ومنها نسائية". تسبب اعتقاله الذي تراوح بين يومين إلى شهرين في توقفه عن دراسة الموسيقى، ومنع من السفر للدراسة، وفي تأخره عن الدراسة وتراجع علاماته.
الفقر يحتل نصوصه
الفقر هو الرديف لحياة المخيم، لكن عائلته حظيت بالمنقذ حيث عمل شقيقه الأكبر صبحي في الكويت "كنا فقراء لكن لم نكن محتاجين، لسنا استهلاكيين مثل اليوم". احتل الفقر حياته فكان كثير المرض ونصوصه فكتب حتى عن وجبة "اللوف" التي كان يأكلها قبل طهيها. ومن ملامح فقره أيضا ما أطلق عليه "أساطير العائلات"، فوالدته تردد دوما قصة محاولة خطفه من قبل رجل باكستاني قبل أن يكتشف أمره على مدخل المخيم. الفقراء والمجانين برأي أسامة هم الذين حموا القضية فيما خانها الكثير من المثقفين.
رسائل الغرام
لم يكن محسوبا على الاشقياء بل على المثقفين، وهذا لم يمنع وقوعه في قصص غرام بدأها في الثانية عشرة، واختتمت بقصة حب "عاصف" -كما وصفها- مع زوجته حنان رافضا البوح بالتفاصيل. برع في كتابة المناشير الوطنية ورسائل الغرام بين أصدقائه وحبيباتهم في آن معا، "كنا جيلا يبحث عن الحب والجنس، وكانت لغة الرسائل جريئة، قرأت وقتها دواوين الشاعر أحمد رامي"، المعروف بأنه شاعر الشباب والرومانسية، ولاحقا كتب عن العلاقات الجنسية بين طلبة جامعة بيت لحم في السبعينيات في روايته "قُبلَة بيت لحم الأخيرة".
الهروب من الوطن!
كان الطقس ملبدا بالغيوم بالنسبة لأسامة ما جعله يرحل عن فلسطين؛ "نعم هربت محبطا من الواقع الأليم.. وحتى اليوم هذا ليس واقعي وأرفضه". سافر إلى السعودية وعمل مراقبا للعمال وطرد من نجران إلى الإحساء لأنه كان نصيرا للعمال وبعد عام طرد من السعودية فتوجه إلى عمان وهناك تزوج. "قررت ألا أعود لكنني فعلتها مع بداية الانتفاضة الأولى، لأن أصدقائي أقنعوني أننا على وشك تحقيق الحلم بإقامة الدولة ومن العيب أن أكون خارجه". لكن عودته جعلته أكثر غربة واغترابا عن مجتمعه فالجدل حول هوية شهداء المخيم مثل رفيدة أبو لبن وناصر القصاص، كان صادما ما دفعه للتحلل من الانتماء لأي حزب.
الكاتب الراهب
يعتبر أسامة الكتابة قراره "الواعي" وخياره الأول، لذا كان على عائلته ومحيطه تحمل هذا القرار المكلف "فأنت تكتب يعني مواجهة مغامرة عدم وجود قرّاء، وأن تعيش راهبا، ولا تدخل في صغائر الأمور واهمال العلاقات الاجتماعية، وهذا كله حمل ثقيل على الزوجة والأبناء". الكتابة برأي أسامة "صناعة وتدريب، وليست تهويمات، وهي عمل يومي وبانتظام واطلاع واحترام للقارئ، ومده بمنتج ثقافي ممتلئ بالكلمة والمعلومة".
أثر الأدباء
خلال حوارنا مع أسامة كانت تنطلق قهقهاته قوية بشكل بعيد عن شخصيته الهادئة، ويبدو أنه اكتسبها من الأديب والصحفي الفلسطيني إميل حبيبي والذي تأثر به: "كان حاضر النكتة، له كاريزما ومجنونا باللغة تعلمت منه الكثير". ولم يمنعه خجله من أن يهرّب وأصدقاؤه الصحف الممنوعة في الضفة من القدس إلى المخيم كالاتحاد والغد والجديد. تأثر بآرنست همنغواي صاحب الجملة القصيرة، ونجيب محفوظ وأساليبه المبتكرة في الكتابة، ويوسف ادريس، وجبرا ابراهيم جبرا ابن قريته، ونوال السعداوي وما كتبته عن المرأة والجنس التي كانت محور نقاشات جيله، وعالميّا بابو نيرودا وبول أليوار ولويس أراغون. يعتقد أسامة أنه عاش في الكتب أكثر من الحياة؛ "صنعتني الكتب، أصدقها تماما واعتقدت لفترة طويلة أن الحياة هي مثل الكتب". لقد صنع منه هذا الاطلاع قياديّا "غصبا" فهو لا يحب الاضواء، وساهم بتشكيل لجان الطلبة الثانويين في القدس ورام الله وبيت لحم وتأسيس اتحاد الطلبة السريين.
السينما بلا تذاكر!
كان المناخ الثقافي أكثر انفتاحا ودور السينما كثيرة، منها ثلاث في بيت لحم، عشق السينما وتأثر بها كثيرا، كرر مشاهدة الفيلم ذاته، وخرج عن تسامحه ليشاهد أفلاما بلا تذاكر أحيانا. أخذنا أسامة إلى السبعينيات وفيلم "أبي فوق الشجرة" وقال بابتسامة طفل: "القبلات الساخنة بين عبد الحليم وناديا لطفي.. لا تعرفي ماذا فعلت!". وأفلام سياسية مثل "الكرنك" عن السجون في عهد أيقونة القوميين جمال عبد الناصر، و"الظلال في الجانب الآخر" للمخرج الفلسطيني غالب شعث والذي منعته الرقابة الاسرائيلية والتي كانت تحذف مقاطع كثيرة من الأفلام، و"المذنبون" لنجيب محفوظ وهو توليفة من السياسة والفساد والحب والجنس، ومنع في مصر. كما أحب الموسيقى فدرسها وكلفته مالا ووقتا كبيرين وهو يستمع للموسيقى الكلاسيكية لساعات، درس الغيتار على يد الأستاذ سميح مراد عام 1978 وهو في الرابعة عشرة من عمره وتوقفت التجربة باعتقاله.
بائع الجرائد
لم يكن يعرف أن بيعه للصحف، سيتحول إلى بيعه الكلام فيها، حيث عمل محررا لأول مرة وهو في السابعة عشرة في صحيفة الطليعة التي ترأسها بشير البرغوثي، براتب خمسين دينارا، وزملاؤه: الأديب ابراهيم جوهر، والناقد محمد البطراوي والرسام كريم دباح بلوحاته ذات الأثر في الفن التشكيلي الفلسطيني. كما عمل حمّالا في أسواق بيت لحم ما وفر له ثمن السجائر التي تركها بعد أن أصبح له أبناء يقلدونه.
اختلف طوال مسيرته المهنية، ففي عام 1982 اعترض على خط الصحيفة السياسي مطالبا بموقف من منظمة التحرير لا سيما بعد خروجها من بيروت، "كانوا يتقبلون رأيي، وطبعا أوعى مني سياسيّا". كان أسامة يحمل فكرا تغييريا لذا كان بنظر الناس شيوعيّا، ببساطة "كنت أريد أن أغير العالم، ونهزم الاحتلال والرأسمالية، وأن تحكم الطبقة العاملة" مقهقها ضحكته الصاخبة. لكنه اليوم "لست ثوريّا ولا شيوعيّا فالناس أكثر تنوعا من أن تحصر في فكر محدد".
رحلة في الصحف العربية
وفي عام 1984 عمل في جريدة راية لناظم بدر، وجريدة المهماز لإميل حبيبي مع زميليه الكاتبين جميل السلحوت وابراهيم جوهر. وفي الفجر الأدبي مع الأديب علي الخليلي، وكان عضوا في الملتقى الفكري العربي برئاسة ابراهيم الدقاق أحد قادة العمل الوطني. عملت بالقطعة مع صحف القدس العربي، والعرب اللندنية، والصحف الخليجية، وإذاعة القدس، وشكل عمله مع "كل العرب" مرحلة مهمة نضجت فيها كتاباته. وكان له عامود في جريدة الصدى، وعمل في "الحياة الجديدة" الأسبوعية، واستمر فيها إلى اليوم.
كتب في حقيبة العامل
كان العمل حاجة أساسية في كل مراحل حياته، حتى في سوق العمل الاسرائيلي "الأسود" لا سيما قطاع البناء، وفي السعودية حيث تواصل مع الأدباء والناس، وفي الأردن عمل في مكتبة أمانة عمان الكبرى وكانت فرصته للقراءة الممنهجة، عمل في العقبة عدة شهور في مصانع الأسمدة وفي الميناء ما أغنى تجربته مع الأرياف الأردنية، واشترك في مكتبة العقبة والتي توفرت فيها كل ترجمات جبرا ابراهيم جبرا. وحين عاد إلى فلسطين عمل في المصانع المحلية والصحف العربية، وتميز بأن كتب في الصحافة بروح الأدب. وفي كل مرة كانت وراءه شحنة جديدة من الكتب.
الاصدارت
في رصيده أكثر من عشرين كتابا كان أولها عام 1984 مجموعة قصصية "لا زلنا نحن الفقراء أقدر الناس على العشق" العنوان الذي تحول إلى مقولة نسبها البعض إلى لينين! وثم صدرت له قصة طويلة "الحنّون الجبلي" وهي مزيح من قصة حب وسيرة طفولته في المخيم. هو كاتب منحاز لعمله البحثي مثل كتابه عن مخطوطات البحر الميت (بيروت 2004) والذي يقدم لأول مرة قصة المخطوطات من منظور عربي والتي اكتشفت 1949 في منطقة قمران على شاطئ البحر الميت وعمرها ألفا عام. وكتاب "ظله على الأرض" والذي أتعبه وهو يتتبع ألقاب الحكام المسلمين عبر نقوش المسجد الأقصى، باحثا عن جذور الاستبداد العربي.
مجانين بيت لحم
هي برأيه كل شيء فهي رواية وبحث مجنون وسيرة مدينة ونقد للواقع وسخرية وتساؤلات، وكما سبق من اصدارات تحد جديد من حيث المضمون واجتراح اسلوب جديد، وكأنه تجربة جديدة كليّا في الكتابة مستفيدا من خبراته في التحقيق الصحفي والبحث والرحلات الميدانية والكتابة الأدبية، "العمل الروائي هو خيال، وإعادة للنظر في الواقع". تناول مجانين مشفى الأمراض النفسية، والعائلة، وسافر باحثا عن شخصيات أخذت منه سنوات في الكتابة، وزار أطباء نفسيين، وقرأ عشرات الكتب لفرويد. واعتبر جائزة الشيخ زايد من الأهمية فقال: "لم اكتب لأحصل عليها، وتقدمت للجائزة بناء على نصيحة دار النشر، كنت اتخيل أن الجوائز لا تذهب لأمثالي فوجئت بها، وأجمل شيء أن تقرير لجنة التحكيم كان وكأنه يخاطب عقلي وأنا أكتب الرواية، مؤكدين أنني قدمت الجديد لا سيما أساليب السرد التراثية وفن الرواية".
اقتباسات
"وهل يوجد أكثر جنونا من انتظار مواطن العودة إلى بيته الذي اقتلع منه عام 1948" مجانين بيت لحم
العيسة ""لو كنت امرأة لن أصمد يوما واحدا في هذا المجتمع، ومجرد وجودها فيه هو عمل بطولي بحد ذاته"
الحياة الجديدة- بثينة حمدان