الأحد: 29/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

رواية "النهر بقمصان الشتاء" لحسن حميد قراءة ومراجعة : عايد عمرو

نشر بتاريخ: 19/09/2007 ( آخر تحديث: 19/09/2007 الساعة: 20:50 )
"النهر بقمصان الشتاء", رواية جديدة للروائي حسن حميد, صدرت ضمن سلسلة كتاب القراءة للجميع عن وزارة الثقافة الفلسطينية, توزعت الرواية مقدمة للناقد فيصل دراج واستهلال لحميد, وستة وعشرين عنوانا للحكايات الموجودة في الرواية التي جاءت في 290 صفحة من القطع المتوسط.

في الحكايات التي كتبها حميد, تاريخ شفوي للفلسطينيين, تناقلها الرواة والقصاصين عبر القص والمشافهة حتى وصلت لما هي عليه في الكتاب الذي يوثق لفترة مهمة من تاريخ فلسطين الشفوي لم يكتب بعد, ولم يأخذ حظه من الاهتمام والتوثيق, هذه الحكايات التي دمرها سيل الرواية الكاذبة للآخر/اليهودي, الذي وثق روايته التاريخية على أنقاض رواية الشعب الفلسطيني الذي هجر من أرضه العام 1948.

في الرواية والحكايات نقرأ فلسطين كما كانت قبل الاحتلال الصهيوني لها, بكل ما تحويه من تفاصيل كبيرة وصغيرة, دون رتوش, دون ألوان مسكوبة على الحدث, الوان حقيقية كما كانت في الاصل, وفي الحكايات تداخل الخيال مع الواقع, وغير الواقعي مع المعيش الذي كان, هناك تداخل اسطوري في الحكايات التي جاء بعضها ملغزا.
الحكايات معروفة لذاكرة جمعية اهملها الكتاب, وقدمها حميد, يقول دراج "شاءت ان تكون ذاكرة جماعية تستقدم الفرح وتحجب القبور لأكثر من سبب: فهي تشتق اولا من العواطف الانسانية المتباينة, الموزعة على شخصيات تعيش القيم الجمالية, ويستولد منها لاحقا القيم في ذاتها, وهي ثانيا تحتقب الماضي وتنفتح على الامل, لان في منطق الحكايات المتوالدة ما يعد بمستقبل مقبل, وما يربط بين حكاية جاءت وتحقق واخرى ثانوية في طيات الغيب, وتعلن الرواية, ثالثا عن الفرح, حين توحد بين كاتبها ورواة رحلوا مؤكدة الحاضر لحظة من الماضي والاخير لحظة متجددة عصية على الزوال, طالما ان للرواة, الذين كانوا صوتا صادقا متجددا, لا يتخلى فيه الاحياء عن الاموات, ولا ينفصل فيه المفرد عن المجموع.

الحكايات في الرواية تتناسل من بعضها, تنتقل من منطقة الى اخرى بكل سلاسة وعفوية صادقة, في ازمات كانت فيها الحكاية نفسها تاريخ مفتوح يقرأه الجميع ويحيلون حزنه الى فرح, وان كان هذا الفرح محكوما بالموت الجميل".

الحكايات سرد لاحداث في بعضها وجع وخذلان, وخوف وتطلع الى مستقبل اكثر حرية لرواة خائفين من فقدان ارضهم, محاولين التمسك بها امام الغزو الفلسطيني الذي سرق الارض ثم قبلا كان قد سرق الحلم والرواية الحقيقية للصراع على الفلسطيني.
في الحكايات ما يشبه التذكر لايام الاعراس التي خلت, وللتراث والاغاني الشعبية والاهازيج التي كان الفلسطينيون يرددونها في اعراسهم, وصف تفصيلي لعملية "الحناء" في ليلة الدخلة, لفرح صاخب, تجرحه النساء الملتفات حول الصبية العروس ومن يشرعن في رسم نباتات وازهارا وطيور محومة وبعض النجوم على يد العروس, والنساء يهزجن:

حنيت ايديا ولا حنيت اصابيعي
يا محلا النومة بحضين المرابيعي
شعرك قصايص ذهب بعليبة الصايغ
ريحان يا المشتري خسران يا البايع
يا هلي يا هلي يا محلا لياليكم
يا محلا النومة بفية علاليكم
والله لأبكي وابكى الصقر على طنابو
على غزال شرد ما ودع شبابو
يا يما يا يما شريلي على الفاطر
والليلة انا عندك وبكرة من الصبح خاطر "ص15"
هكذا في الرواية, الحكايات مبنية على الفرح, وان كان هناك حزن وفراق وموت, الا ان المكان كان واضحا جليا, مما اعطى الرواية/الحكايات, بعدا جماليا, وهذا معروف في جميع روايات حسن السابقة, ومجموعاته القصصية, فالمكان عند حسن مقدس, لا يمسه بسوء, والمكان في اية رواية مهم كما السارد او "الراوي" مهم ايضا.
فالمكان الذي اغتصب عنوة, مثل الحكاية نفسها التي اغتصبت هي ايضا, من قبل الغازي الذي كما اشرنا لم يكتف بسرقة الارض/الوطن, وانما سرق ايضا التراث/الحكاية, ونسبها الى نفسه, الحكاية الفلسطينية عند حسن كما يقول دراج "تبدأ غنائية متدفقة, لا انقطاع فيها ولا شروخ, لاحقا, في تصاعد زمني, ما يمنع عنها التدفق والاستمرار, تظهر حكاية نقيضة تحاصر الاولى وتطاردها, مسلحة بالكراهية, والدنس والقتل, تأتي الحكاية الفلسطينية بالموت الجميل, ان صح القول, وتأتي الحكاية النقيض بالقتل المعمم, الذي يجتث العاشقين من ان امكنتهم المقدسة".

الرواية, الحكايات, سير للمدن والقرى, واحداث متتالية انها كبيرة الشبه بسير الروايات الشعبية بلغة جميلة عالية الجودة, لا ركاكة فيها, كتبها حسن بإحساس الكاتب/الراوي غير المتحيز لأرضه وناسه وقضيته, ملقي الضوء على اناس عاشوا, ورووا هذه الحكايات ثم رحلوا اناس عرفوا كيف يروون روايتهم الملغزة, استطاع حميد ان يجمعها خوفا عليها من النسيان والضياع, يقول الكاتب "كتب, وصلت الى يدي بعد بحث وبحثت عنهم, فجعت بموت الكثيرين, واغتراب الكثيرين.. ايضا, واحتراق ما دونوه, او خراب ذواكرهم, ولم انجح الا قليلا, لكن القليل.. كان كثيرا".
استطاع الكاتب من خلال بحثه وجمعه ان يوثق للمدن والقرى والازمان والرواة, "رهبان وراهبات, ورجال دين, وعصاة, وغرباء, ونساء حالمات, وثكالى" جميعهم تحدثوا عن افراحهم ومآسيهم, عن احلامهم التي تصنعت وذبلت بالطرد من اماكنهم هذه الامكنة التي صارت "عناوين للفجائع والاحزان العميقة".

في هذه الرواية/الحكايات, يصل حسن حميد الى قمة ابداعاته المتواصلة, فهو بعد احدى عشر مجموعة قصصية واربع روايات, طبعت روايته الاخيرة "جسر بنات يعقوب" اربع مرات, وثلاث دراسات هامة, نجده يقف في مقدمة الروائيين الفلسطينيين والعرب الذين اهتموا بقضية شعبهم, يقول دراج "في النهر بقمصان الشتاء يصل حسن حميد الى افضل رواياته, ويبرهن ان لدى الرواية الفلسطينية دائما ما تقوله, وان لديها ما يبني القول الروائي بشكل جميل.