الأربعاء: 20/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

صورة قلمية بقلم موفق مطر

نشر بتاريخ: 16/09/2005 ( آخر تحديث: 16/09/2005 الساعة: 10:47 )
غيوم متقطعة, أفق شرقي يتلاشى من فضائه الظلام, فيتحول سواد الليل إلى "أزرق ليلكي" فأزرق قرمزي فبنفسجي ثم البرتقالي الذهبي, فتطلع شمس غزة في الثاني عشر من سبتمبر أيلول من بعد خمس سنوات على ولوج القرن الواحد والعشرين من ذاكرة الإنسانية.

شمس من ذهب, تستحي كما المرأة العربية من الظهور مرة واحدة..فتختفي حياءاً وراء السحب الصباحية العابرة في صيف فلسطين..أو عابرة مثل الذين كانوا منذ ثمانية وثلاثين عاماً وحتى إلى ما قبل هذا الفجر, ثم تظهر كوجه العروس البكر مبشرة بجمال الحياة الآن وغداً, تسبح حبات رمل الأرض الطيبة بحمد خالقها الذي أذهب عنها رجس صهاينة قلبوا عاليها أسفلها, تطلع العروسة العذراء المشرقة ملهمة سواعد الشباب المتحمسين إلى حبيبتهم الأرض أن يقطعوا الأسلاك الشائكة العسكرية المتلوية كالثعبان الأسطوري ينفث سمومه بتوجيه من صناع القتل وقاطعي الطريق الساحلية بقذائف دباباتهم فالطريق إليه رعب كان يتجنبه الآمنون المسالمون..لكن الأفعى المسلوخ جلده, المعفوس رأسه, المقطعة أوصاله صار جيفة..فبان أخضر الشجر يبشر بصبح الخير والبركة.

طيور برية, القطا يقلع من بعد مترين فيفاجئني كيف علم بمولد فجر الحرية على غزة فهل أخبره هدهد سليمان ؟!
فتيان, رجال, حالهم يدل على ما فعل الإحتلال الصهيوني بمصدر عيشهم ورزقهم..بأحذية مطاطية صينية رخيصة يجتازون الفولاذ الشائك..فمنهم من يحمل راية ومنهم من حمل في وجهه ابتسامة, لكن هذا الذي لم يصدق بعد يقترب بحذر خوفاً من غدر لغم بين السلك الشائك وطريق العابرين المحتلين ؟!

يعلون اسم الله..الله أكبر ..فتية يلوحون بعلم فلسطين تماماً في التلة الرملية الصناعية التي مصيدة الموت إل الشمال الشرقي بما كان يسمى مستوطنة نتساريم.
جنود مسلحون..لكنهم منذ هذا الصباح هم جنود فلسطين, جنود قوات الأمن الوطني يتحكمون في البوابة التي كان يتحكم فيها عسكر الاحتلال الصهيوني الارعابيون ويمسكون بآلة العنف والتدمير والقتل و بمستقبل ومصير مليون ونصف مليون فلسطيني في غزة المدينة.!!

لقاء..مصافحة..فاحتضان وتهنئة بهذا اليوم المبارك يوم بشائر التحرير..فدائيون كانوا قبل عقدين بجنوب لبنان قبل أن يتحرر..هم ضباط في قوات الأمن الوطني الآن..يضفون على الحدث روحانية الأخوة مابين جنوب لبنان المحرر وجنوب غزة المحرر أيضاً ..وكأنهم في قرارة نفوسهم يسألون هل نحن أشقاء..وهل جمعتنا بطن الأمة العربية..فتزول الغيوم المتقطعة وترسل أشعتها الذهبية البرتقالية إلى كل مكان في المدى فتظهر وتتضح الصورة الأجمل..انه حقاً يوم تحرير غزة.

كاستراحة المحارب يلقي جنود الأمن الوطني المتعبون كواهلهم على أرض لطالما قدم رفاقهم أرواحهم فداءاً لها..فينقلبون صورة الشهيد الشيخ ثائر الفدائي من الشرطة البحرية التي حملتها على صدري ليرى أن روحه الغالية حققت بتضحيتها مع الآلاف الكريمة نفوسهم والعظيمة عطاءاتهم نصراً وتحريراً سيكون الباقون على قيد الحياة له أوفياء.
شاب بلون القهوة السمراء فلسطيني حتى النخاع العلم الفلسطيني في يمينه وثانٍ اتخذه كثوب إحرام ..يطوف حول مركز الأرض المحررة بصمت كالمتعبدين القارئين لحكمة الحدث وجلال الذي قدر أرواح الشهداء فأدخلهم في فردوس التحرير..فيصور بعينه الثالثة "بالكاميرا" هذه اللحظة.

شيوخ, أطفال, فتيان, شباب, مقاومون بأسلحتهم يتسابقون لتأكيد الحقيقة..يصعدون إلى قبة ما تبقى من هيكل اسمنتي يدعى "كنيس" يثبتون علم الوطن, ورايات المقاومة.
عربات الفقراء المجرورة بحمير متعبة تبدو هزيلة..يحمل الفتيان حديداً وألمنيوماً مطعوجاً مكسراً سحبوه من بين أنقاض منازل المستوطنين فالمقهورين من ظلم الغزاة يودون لو كسبوا مورد يوم واحد فهو لا يقارن بثمان وثلاثين عاماً من النهب والسرقة الصهيونية المنظمة لدمائهم ودماء آبائهم وأرض أجدادهم ..

رايات حمراء, خضراء, سوداء, صفراء للجبهة الشعبية والديمقراطية وحماس والجهاد وفتح..رايات مقاومة كانت بالأمس تطلق صواريخها ورصاصها من المحيط الخطر أما الآن فهي مرفوعة على شجرة أو عمود أو بقايا ركام ترفرف بحرارة إرادتهم وتظلل الأرض المحررة التي كان اسمها الصهيوني "نتساريم"..
فهل أدرك المحتلون والمستوطنون أنهم إن اغتصبوا أرضنا فإنهم لن يقدروا على اغتصاب هويتنا ووعينا..؟! ربما بلغهم الدرس !!