الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

لاجئات يعُدن إلى بعلين وحيفا وشحمة المدمرة

نشر بتاريخ: 27/07/2015 ( آخر تحديث: 27/07/2015 الساعة: 16:38 )
طوباس- معا - خصصت وزارة الإعلام واللجنة الشعبية للخدمات في مخيم الفارعة الحلقة (39) من سلسلة "ذاكرة لا تصدأ" لعرض شهادات لثلاث نساء تجرعن مر النكبة، ولا زلن يحتفظن بفصولها الأليمة.

تعيد السبعينية زينب حسن جوابرة، بناء قريتها بعلين، قضاء غزة، وتعود إلى بيوت بلدتها وبساتينها وشوارعها وعاداتها ولحظات الاقتلاع منها، وتقول: 
ولدت عام 1942، وكان بيت جدي المختار جبر حسن جوابرة، وفيه عدة غرف متجاورة من الطين ومسقوفة من قصب وادي البرشين القريب، وتل الصافي، وتتوسطه ساحة كبيرة، وسكنته أربع عائلات، وقبل وقت قصير من النكبة رمم أبي البيت، وكنا نعيش معاً ونأكل على مائدة واحدة، في منزل تعلوه عدة أقواس.

وتضيف جوابرة:  كانت مساكن القرية متراصة، ومبنية بشكل دائري، ووسطها ساحات وممرات ضيقة، فيما سطوحها المسقوفة بالطين والقصب متجاورة، ولم يكن يصعد لها الرجال لترميمها قبل الشتاء، إلا بعد أخذ إذن من الجيران، أما محيط المساكن فكان من بساتين وكروم العنب والتفاح واللوزيات، ولكل واحد من الأهالي "حاكورة" مقابل بيته، فيما زرع الأهالي السمسم والقمح والذرة البيضاء، التي كانت تصير خبزا يُسمى "الكراديش".

مما تحتفظ به جوابرة أيضا أن جدتها الحاجة صفية، كانت تحرص على إكرام ضيوف المختار، وفي ذات مرة، قدم غرباء كانوا يحصون السكان، فنادت أول ما شاهدتهم الرعي ليذبح خاروفاً، لكنهم طلبوا منها أن تكتفي بتجهيز طبق المفرومة وكانت الأزياء الأثواب المطرزة، وبألوان بيضاء وزرقاء وسوداء، وللرأس غطاء أبيض "الغُدفة"، وكنا ننسجها بأيدينا، ونتعلم التطريز في سن مبكر.

انقلب حال القرية صيف عام 1948، وشرع الأهالي بالخروج منها نحو كرومهم أول الأمر، لكنهم سرعان ما خرجوا منها، واختارت عائلة جوابرة الذهاب نحو "دير الغربان" حيث عمتهم، وما أن وصلوها إلا وجدوها تستعد للرحيل، فخرجت الأم كما الأهالي نحو الخليل.

تواصل زينب:  كنت أمسك بثوب أمي من جهة، وشقيقي عوني الذي يكبرني بسنتين من جهة أخرى، والاخ الثالث على رقبتي، والرضيع محمد في حضني فيما رفض عمي أحمد الخروج، وأخذت العائلة تسير وسط الظلام، دون أن تدري أين تذهب، إلى أن فقدت عوني.

تضيف الحاجة زينب: سألتني أمي عن أخي، فقلت لها إنه يمسك بثوبها، فلم تجده، وصارت تصرخ وتقول ضاع عوني، وكنا في وادٍ، وسمعنا جوابًا من بعيد، يقول إن عوني مع أم يوسف. وفي الصباح لحقنا أبي، بعد أن انتهت ذخيرته، ورجع للبحث عن أخي، ولم نجده إلا بعد 3 أيام. ووصلنا لبيت جبرين، ثم أخرجونا منها، وواصلنا المشي إلى ترقوميا وأذنا، ثم إلى الخليل، وأقمنا في حلحول شهراً، ولم نجد ماءً، وانتقلنا لعقبة جبر، ولم نجد خياماً، وجلسنا في العراء، وفاعت العقارب علينا، وتوفي الطفل مصطفى إسماعيل بلدغة منها، وصار الناس يشتكون من العقارب، وحين جاء المسؤولون، رأيتهم وهم يُنزلون خيوطا في شقوق الأرض، لتخرج بعقربين، وطلعنا من العوجا إلى الفارعة، ووصلناها بعد أكثر من سنة ونصف من رحلينا.

أما الحاجة رابعة رشيد أبو يونس تشتعل حنينًا لحي الحلّيصة بحيفا، فترحل إلى المدرسة والمسجد والسوق، وتستذكر حكاية انتقالها للعيش في منزل جدتها بوادي الصليب بعد رحيل والدها، كما تقصت حكاية جدها عبد الله، الذي طارده الاحتلال البريطاني، تقول وهي تسير بتثاقل بفعل المرض: البحر والهادار والكرمل كلها جنة الله على أرضه.

تتابع: ولدت يوم 13 تشرين ثاني 1933 في الحليصة، وكان بيتنا كبيراً وفيه أربع غرف وصالة واسعة، ومذياع خشبي كبير، وبنى جدي فوق منزلنا مسجداً باسمه، فيما كانت بجوارنا المدرسة الابتدائية، وكنا نُقابل الهادار والبحر، وكان والدي يعمل أمامًا وخطيبًا ومعلمًا ومؤذنًا أيضًا، وقد تخرّج من جامع الأزهر بمصر، أما والدتي فكانت ربة منزل، ولي ثلاث أخوات وثلاثة أخوة، تعلمت حتى الصف الرابع الابتدائي بالحلّيصة، ثم انتقلت بعد رحيل والدي إلى منزل جدتي فاطمة بوادي الصليب، ودرست فيها لسنتين، فيما تعلمت أختي زبيدة فنون الخياطة والتطريز، لإعانة العائلة بعد رحيل والدي.

تواصل الحاجة زينب: كان جدي من رفاق الشيخ عز الدين القسّام، وقد تعرض لملاحقة الإنجليز، الذين اعتقلوا والدي عام 1943، وأعلنوا أنهم لن يفرجوا عنه إلا بتسليم جدي نفسه لهم، واستمر احتجاز أبي ستة أشهر، فمرض في السجن، ثم رحل عنا وعمره 37 سنة، بينما فر جدي إلى الشام عن طريق الرمثا، وكان يزود الثوار بالسلاح، وتوفي هناك بعد عام تقريباً.

وتواصل مستعيدة الصور القديمة: من المشاهد التي أذكرها في حيفا، الحنطور، "عربة مغطاة ومربوطة بحصانين" الذي كنا نركبه خلال تنقلنا بين أحياء مدينتا، وباص "نمرة واحد" الذي كان يمر من جانب بتنا، وسكة الحديد، ولا أنسى زي المدرسة ألأزرق للأولاد والثوب الرصاصي للبنات، وتعيش معي ذكريات أمي التي كانت تطبخ اليقطين المحشي، ولحم قص الخروف، والطرفان، وأتذكر أيضًا أيام العيد حين كان أبي وأعمامي يوزعون علينا ربع جنيه ونصف جنيه فلسطيني، وبعض البنات ميسورات الحال كن يحصلن على جنيه كامل، أما في مواسم خميس البيض للموتى "أول يوم خميس يمر بعد الوفاة"، كان الناس يوزعون 200 بيضة مسلوقة وملونة عن روح أمواتهم، وقبل سنوات من النكبة، وصلت لبيوتنا شبكة المياه والكهرباء، ولم نكن نذهب للبحر إلا في المناسبات.

تحافظ أبو يونس على عادات حيفا وتقاليدها، وتجيد صناعة أطباقها، ولا زالت تحتفظ بصورة جدها النادرة، وبعض المقتنيات القديمة منها، فيما تحول منزل عائلتها ذاته المبني من الحجارة إلى المستوطنين، وقد زارته قبل سنوات، وشعرت بالمرارة على ما حدث له.

تروي ام الناجي  حكاية اقتلاع عائلتها من حيفا، وتقول: : كان اليهود يضربون بالهادار، واقترح علينا خطيب أختي أن نخرج إلى جنين، حتى تهدأ الأوضاع، وأخذنا معنا بعض الملابس وعدد قليل من ألأغطية والأواني، وأخذنا مركبة مع أخوتي وأمي، واستطعنا الوصول إلى يعبد، وأقمنا فيها سنتين، وحينما شحت المياه في سنة محل، كان الأهالي يقولون لنا "أطلبوا منا تنكة زيت، ولا تطلبوا الماء"، فانتقلنا إلى أقرباء أمي في نابلس، وبقيت فيها، وتعلمت اللغة الإنجليزية، والتمريض في المستشفى الإنجيلي، وتزوجت عام 1957، وأمضينا سنتين في جنين وطوباس، ثم انتقلنا للكويت حتى عام 1966، وعدت إلى طوباس، وأسست جمعيتها الخيرية، وترأستها 25 سنة، وخضت أول تجربة انتخابات بلدية عام 1976.

تسرد آمنة يوسف حسن أبو هنية( 88 عاماً) : بلدنا شحمة جنوب الرملة. وتحيطها قطرة، وبشييت، والمسمية، ويبنة، وبنت بريطانيا مطاراً عسكرياً شمال القرية، عُرف باسم مطار عاقر. وأقامت معسكرًا فوق أراض القشّة ونجيلة. وكانت أرضنا رملية، وكان أبي يزرع الكرسنة والعدس والسمسم والخضروات، ولا أنسى الخيول والجمال التي انتشرت في شحمة، ومواسم البيادر، حيث كانت الدواب تجر ألواح الدراس الخشبية لتنظيف القمح والشعير من القش.

تستذكر: كان سيدي حسن أول مختار للبلد، ثم انتقلت المخترة لحسن شاهين وعبد الله محمود معاً، ومن العائلات في شحمة: حسن, والقريناوي, وعوض، وخضر, وكتكت, والمذكر, وشاهين, وأبو هنية, والمحشي, والحتاوي, واليخري, والراعي. وكنا نلبس الأثواب المطرزة بالأبيض والأسود وأحياناً الأزرق والأحمر والأخضر، ونضع الغُدقة والعصبة على الرأس. وكان مهر العروس خمس جنيهات، أو ليرة ذهب واحدة، وفي وقت الفرح، كانت تطارد الخيل أمام الناس، وتأتي النوريات للرقص على الحبال( استعراض يشبه السيرك) ونغني 7 أيام بلياليهن، وأذكر أن عائلة محمود عبد الله غنت لابنها 30 يوماً.

مما يلتصق بآمنة من أغنيات للعرس: "( ع العلندة العلندة/ كله من شانك يا علي انته/ وهي يا زين الحلا وقف تشوف/ في بلدنا تعليلة وزفة عروس/ وهي يا زين الحلا يا أبو الغزلان/ في بلدنا تعلية وزفة صبيان). ولا تنسى مواسم العيد، حين كان الأهالي يتوجهون إلى البحر، فيُركّبون الأطفال والنساء على الجمال، ويخيّمون على الشاطئ عدة أيام، يأكلون ويفرحون ويلعبون."

تقول: كان لزوجي بئر ماء، وحين قررنا الرحيل بعد هجوم اليهود، عاد لإطفاء الماتور، وقال: هي يوم أو يوم ونعود. ثم واصلنا، وكانت الناس حافية، وطلعت في ملابسها، وكان صوت البارود خلفنا، وسمعنا عن نساء حملن المخدات بدل أولادهن من شدة الخوف. وأخفت أمي الكواشين والذهب والمصاري في العقود. وركبت أنا وأختي صبحية على الحمار، وركب أخوتي وأبي على الخيل. وشاهدنا امرأة مقتولة على جانب الطريق. ورأينا عجوزاً رفضت مغادرة منزلها، بعد أن حرقها اليهود داخله.

فرت العائلة وأهالي شحمة نحو خربة (مغلس)، ثم إلى بيت جبرين، فعجور، ثم وصلنا بني نعيم ، وسكنا فترة في المُغر، وأثلجت الدنيا علينا وكسرت الزيتون من قوته، وكان جارنا شاكر عوض محاصراً في المغارة، وصار يطلق النار ليفتح الطريق بالثلج.

توثيق مرئي
بدوره أشار منسق وزارة الإعلام في طوباس، عبد الباسط خلف، إلى أن الوزارة أنتجت إحدى عشرة ومضة تلفزيونية لخصت فصول النكبة بقالب مرئي، عبر شهادات قصيرة تقطر وجعًا وحنينًا لمدينتي حيفا ويافا، وبلدة الفالوجة (قضاء غزة)، وقرى صبارين وبريكة وعين غزال والغبية الفوقا والريحانية (بجوار حيفا)، وبعلين (قضاء غزة)، وقاقون ( بمحاذاة طولكرم)، ونورس ( المتاخمة لجنين).

وأضاف إن الوزارة السلسلة وثقت منذ إطلاقها 50 شهادة لنساء ورجال من مدن وبلدات دمرت عام 1948، وأعادت بناء تفاصيل صغيرة لأحوالها وعاداتها وتقاليدها وأفراحها وأحزانها وسائر وأشكال الحياة فيها.