الأربعاء: 27/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

الخليل القديمة ذاكرة تزخر بالاحداث الاليمة وجرائم تركت بصماتها على قلوب ابناء المدينة

نشر بتاريخ: 27/09/2007 ( آخر تحديث: 27/09/2007 الساعة: 11:41 )
الخليل- معا- محمد العويوي- ما زالت ساعة مخاض شقيقتي في ابنها احمد الذي ولد قبل اربعة عشر عاما في الخامس والعشرين من شهر شباط لعام 1994، تختلط ذكرى الفرحة في بكرها مع نداءآت الاستغاثة والتكبير التي علت مآذن مساجد الخليل فجر ذاك اليوم، ان اسعفتني ذكريات ذلك اليوم، أشعر ان مولد احمد كان في نفس اليوم الذي استشهد فيه احمد آخر في الحرم الابرهيمي، والذي كان في سن احمد اليوم، والذي ولد في يوم استشهاده، سألتني نفسي، لو كان احمد الذي استشهد قبل 14 عاما موجودا اليوم، ترى ماذا سيكون اليوم، مهندساً ام طبيباً ام مناضلاً ام سيكون شهيداَ ؟؟؟.

عل كل الاحوال الذكرى تجسد في بعض المشاهد التي لا تنسى من ذاك اليوم الذي اعتليت فيه سطح منزلنا، بعد ان صحوت فيه على نداء اخي، يخبرني بمولد احمد ولكنه في الوقت ذاته كان يخبرني عن استشهاد 29 احمد !!.

تلك اللحظة اذكرها تماما، والتي اعتليت بها سطح منزلنا المشرف على الحرم الابراهمي الشريف، واصوات الاستغاثة، تأتيني من كل صوب وحدب، تجمدت في مكاني دون حراك، بعد ان صوب سلاحه احد الجنود الذين يحرسون البؤرة الاستيطانية " ابراهام افينو " والتي لا تبعد عنا سوى امتار قليلة ، صوب سلاحه تجاهي ، قائلاً ، بلكنة عربية مكسرة ، "وكاف ، شوو في ؟ " لم ادر ماذا اخبره، فأنا لم اعلم الخبر بعد !! ، لكن اخي الذي كان بجواري قال له: "المستوطنون ذبحوا العرب في الحرم الابراهيمي!".

وهنا التفت لاخي، وكأني لم اسمع شيئاً مما قاله للجندي، لاسئله من جديد ماذا حدث ؟ فأخبرني بأن المستوطنين، هجموا على الحرم وقتلوا المصلين.. ارتجفت من الخوف، لأنني في هذا اليوم لم اذهب لصلاة الفجر في الحرم ، ولم اذهب بالامس لصلاة العشاء والتروايح كالمعتاد ، ومن يومها لم اعد أذهب لأداء صلاة العشاء في الحرم ، والتي كنت احب ان أؤديها في الحرم الابراهيمي وخصوصاً ايام الجمع والسبت.. بسبب منع جنود الاحتلال للشباب من الصلاة في " الاسحاقية " فكنا نصلي في "الجولية "، تحت اسلحة وعيون الجنود الساخرين منا في كل مرة.

وكنت مثل الباقين من ابناء مدينة الخليل الذي اخذته العاطفة وصدمة الحدث بالتوجه للحرم ومحيطة او الذهاب للمستشفيات والعيادات ، لتقديم اقل مساعدة قد تكون ، وحدة دم قد تحيي انساناً او تكتب له الحياة من جديد، في خضم هذه الاحداث تعرفت على احمد الشهيد.. ذلك الطفل ابن الـ 14 ربيعا، و الذي لم اعرف في صفاء وجهه صفاء من قبل ، ولم ار ابتسامة كأجمل من تلك التي ارتسمت على وردة ذبلت وغابت من حضن والديه ، نعم إنه احمد ابو اسنينة، طفل ، كعشرات اطفال الخليل ، كان يصلي في المسجد الابراهيمي بصحبة ابناء عمومته واقربائه ، تناول سحوره ، قبل ان يخرج من البيت قال لوالدته، ببسمته وبراءة الطفولة تشع من عينيه: "انا ذاهب للصلاة ، فادعي لي يا امي ان ارافق الرسول في جنان النعيم، لم تفهم امه في لحظتها ماذا يقصد فقالت له: "الله يعطيك اللي في بالك يا يما.." .

لبس معطفه درءاً لبرودة الجو في ذلك الفصل ، خصيصاً عند ساعات الفجر الاولى ، التي تغيب الشمس فيها ، مستعدةً لتشرق على نهار جديد الا ان نهار احمد لم يشرق ، وغاب عن الحياة ليبقى ذكرى ، في نفوس الاخرين ، سار احمد من مبيته الى المسجد الابراهيمي ، الذي لا يبعد عنه سوى 300 متر ، مروراً بالمقبرة الاسلامية ، وشارع الشهداء ،ومن امام البؤر الاستيطانية في البلدة القديمة ، حتى وصل الحرم ، حيث الرقابة والتفتيش وجند الاحتلال المدججين بالسلاح .

مر احمد من بين الجنود ، وهم ينظرون اليه ، متسائلين في داخلهم : ما الذي يدفع طفلاً كهذا في هذا الوقت ، مستبدلاً فراشه الدافء ببرودة الطقس ، مرورا بشوارع مظلمة واجواء موحشه ليصل الى هنا ويؤدي حركات تسمى صلاة ؟!

وكان الجنود على غفلة عن فهم هذا الطفل، وفهم مساره الذي لا يتجاوز ايمانه، بأن هناك عدل في هذه الارض، وهناك حق وهناك من يرصد للحق آخرة فيها المكافئة، جنان وانهار وللظالم سعير ونار.

فدخل الى الصلاة ، ومئات المصلين امامه ، فاخترق الجموع ، ليكون في الصفوف الاولى ، فجعل المحراب أمامه وقبر نبينا اسحق الى يساره ، وجعل وجهته مكة االمكرمة ، وكبر بعد الامام ، ليبدأ صلاته الاخيره ونوى ببراءة للصلاة ، وما ان لامس جبينه ارض المسجد في الركوع حتى بدأ الرصاص ينهمر، من كل حدب وصوب ، والقنابل اليدوية تقذف بين المصلين ، وبدأت البلبلة تجوب اجواء المسجد ،وما كان بالطفل الا ان التفت بوجهه يمنا ويسارا يبحث عن احد لينقذه ، لعلمه بأن نهايته قد دنت ، فلم يجد الا جندياً يلبس البزة العسكرية ، ملتحياً طويل القامة ،عرفه التاريخ بعد ذالك ، بأنه القاتل الدكتور باروخ جولدشتاين ،احد مستوطني كريات اربع المتطرفين ، و المنتسب لجيش الاحتلال ، فنظر اليه احمد مبتسماً والخوف يقتل كل برائة في وجهه ، ليخترق الرصاص جسده ولا يترك فيه مكانا للخوف .. الا ان ابتسامته لم تفارق محياه.

وبدأ الناجون من المصلين، بحمل المصابين لخارج الحرم، ليقوم آخرون بحملهم للمستشفيات ، ومن تأكد لهم استشهاده ، نقلوه مباشرة للمقابر لدفنه تحت شعار" اكرام الميت دفنه".

وما ان وصلت المقبرة حتى وجدت تلك الابتسامة ، تودع الحياة ، وقفت امامها طويلا .. فاختلف المشيعون على دفنه ، حتى حضر شخص من بعيد وجدت الصرامة على وجهه ، ورباطة الجأش في نفسه ،هل استشهد ابني هل استشهد احمد !! فما كان من الجميع الا السكوت، كانهم عذراوات في يوم زفافهم يسألهم القاضي ، القبول او الرفض ،ففهم الرجل ، ان ابنه احمد قد استشهد ، في تلك اللحظات التي عمّ الصمت ، سالته الا يحق لوالدته ان تودعه فأجابني : فاليدفن ، فاكرام الميت دفنه !!!

المجزرة

وقعت المجزرة فجر 15 رمضان 1414 هـ «25/2/1994» داخل الحرم الابراهيمي عندما كان مصلون مسلمون صائمون يؤدون صلاة الفجر، حيث اطلقت عليهم النار بواسطة شخص واحد اسمه باروخ غولدشتاين كما قالت الرواية الرسمية الاسرائيلية ، والتي ثبت فيما بعد بطلانها من قبل شهود عيان مسلمين كانوا في الحرم، وجنود اسرائيليين شاهدوا اكثر من شخص يطلق الرصاص على المصلين.

وقد ذكر الدكتور عبدالحفيظ الاشهب عضو لجنة التحقيق الفلسطينية في المجزرة ان عدد القتلى كان 29 مصلياً اضافة إلى 29 آخرين قتلوا على ايدي القوات الاسرائيلية، مع 96 جريحاً، والمهم في تصريحات السيد الاشهب قوله: "ان مسؤول الوقف في الحرم الابراهيمي كان قد بعث برسالة إلى رئيس الوزراء الاسرائيلي ووزير الدفاع اسحاق رابين بتاريخ اكتوبر 1993 نبّه فيها إلى افعال المستوطن باروخ غولدشتاين الذي ارتكب فيما بعد المجزرة. وان السلطات لم تتخذ اجراءات احتياطية لحماية المسلمين من هذا المستوطن بالذات، خاصة وان اسمه كان موجوداً في رسالة ادارة الوقف".

وذكرت مجلة " شيش " الاسرائيلية الاسبوعية " ان مريام غولدشتاين زوجة مرتكب المذبحة ناشدت الجيش توقيف زوجها قبل عشرين دقيقة من ارتكابه المذبحة والحيلولة دون دخوله إلى الحرم.

وقالت: انها ذهلت للتصرف الغريب الذي صدر عن زوجها. وكانت قد ابلغت الضابط المندوب في مستوطنة كريات اربع انها تخشى ان يرتكب زوجها عملاً جنونياً، دون توضيح طبيعة هذا العمل".

فكما في مثل هذا الوقت من كل عام ، وفي شهر رمضان المبارك يتوقف اهل مدينة خليل الرحمن ليستذكروا ويحيوا ذكرى تلك المذبحة المروعة التي اقترفت عام 1994 بحق المصلين من ابناء الخليل من النساء والاطفال والشيوخ، بل ويخشى اهل الخليل فوق كل ذلك من تكرار المذبحة على يد الجيش "المعربد" او على يد ارهابي يهودي "بلطجي" منفلت ، خاصة وان الاحتلال لا يتورع عن تقديم الدلائل اليومية على مثل هذا التوجه الارهابي.

وقد تفاقمت الاحوال والمعاناة في المدينة الى درجة توصف، بان كل شيء فيها مباح للمستوطنين، ويمكن القول إنّ الفلسطينيين في البلدة القديمة الذين يُقدّر عددهم بما لا يقل عن 40 ألفاً ، يُعاقَبون بسبب بضع 420 مستوطن من المستعمرين موزّعين على خمس بؤر في قلب بلدتهم ، استقروا فيها بحماية أكثر من ألف من جنود الاحتلال

أما أبرز جرائم الاحتلال التي ما زالت البلدة القديمة تتعرض لها، فهي هدم منازل المواطنين ومنشآتهم الخاصة أو الاستيلاء عليها، وإغلاق الشوارع، وإغلاق مئات المحال التجارية وطرد أصحابها من التجار منها، وحظر التجوال لفترات طويلة، وتلحق بذلك البوابات الحديدية والإلكترونية التي وضعتها قوات الاحتلال، ونقاط المراقبة العسكرية فوق أسطح المنازل المسكونة، والكثير من الحواجز الإسمنتية والترابية فضلاً عن الحواجز الثابتة، وإذا ما أُضيفت إلى ذلك كله استفزازات المستعمرين أنفسهم ، فإنّ ذلك جعل التحرك في بلدة الخليل القديمة أشبه بالمشي وسط حقل من الألغام، وهو ما أجبر الكثير من الفلسطينيين على مغادرتها محاولين الانعتاق من السجن الكبير وضائقة الحياة العسيرة المفروضة عليهم قسراً.

ان الامور في البلدة القديمة أسوأ من ذلك وتشبه الى حد كبير "معسكر غوانتانامو" كما وصفها الشيخ ابراهيم صرصور - رئيس الحركة الاسلامية الجناح الجنوبي في فلسطين ـ 48 قائلا:"كأننا ذاهبون إلى معسكرغوانتنامو، فكل شيء مغلق فيها وسكانها يعيشون في جيتوهات وكانتونات حتى السماء مغلقة، وإذا لم يتدارك الأمر في بلدة الخليل القديمة فإنها وخلال فترة قصيرة ستتحول إلى مدينة يهودية".

فالمشهد الماثل في مدينة خليل الرحمن:"ان القمع الإسرائيلي للفلسطينيين بمدينة الخليل أجبر الآلاف منهم على مغادرة بيوتهم وتجميد أعمالهم التجارية"، ويقول التقرير الذي أصدرته جمعيتا "بتسيليم" و"حقوق الإنسان في إسرائيل" : "إن أكثر من أربعين في المائة من الفلسطينيين الذين كانوا يسكنون في مركز مدينة الخليل الخاضع للسيطرة العسكرية الإسرائيلية قد اجبروا على النزوح من دورهم، كما أجبرت أكثر من 75 في المائة من المحلات التجارية على إغلاق أبوابها"، ويردف: "إن النزوح الفلسطيني من قلب مدينة الخليل - المقدسة لدى المسلمين - جاء نتيجة السياسة الإسرائيلية المبنية على الفصل بين العرب واليهود والمعاناة المفروضة على الفلسطينيين".