الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

العمال الفلسطينيون... البحث عن لقمة الموت

نشر بتاريخ: 08/09/2015 ( آخر تحديث: 08/09/2015 الساعة: 09:58 )
العمال الفلسطينيون... البحث عن لقمة الموت
سلفيت - معا - لعل تغاريد البلابل والعصافير مع مغيب الشمس تساعدني في هدوء روعي قبل البدء بالمسير عبر طريق الموت بين أشجار الزيتون في أراضي بلدة الزاوية بمحافظة سلفيت الواقعة على حدود الخط الأخضر والتي شقها جدار الفصل العنصري عام 2004، حيث لا اعرف إلى أين أسير سوى أنني سأوثق معاناة الطبقة الأنبل في كسب عيشها طبقة العمال الذين يسطرون أسمى معاني الحياة في وقت عدمت فيه الحياة.

فمع إكمال انغماس الشمس وراء الجبال، يبدأ العمال الفلسطينيين بالمسير ليلا برفقة صوت حشرجة ما بين ضلوعهم وضرب نعالهم هذا المشهد الذي كنت جزءا منه يوم أمس السبت ذروة الدخول عبر "فتحات" جدار الفصل العنصري التي يتم اختراقها خصيصا لدخول الأيدي العاملة داخل الخط الأخضر حيث رددها إحدى الفتيان الذين يساعدون العمال بالعبور كنا نهتف سابقا عند بناء الجدار "مهما أقامت إسرائيل من جدر وأسلاك فإننا سنهدمها بعزيمتنا وقوة إرادتنا الفولاذية التي لا يمكن أن تنكسر".

والمعلوم انه يعمل داخل الخط الأخضر الفلسطيني حوالي 20 ألف عامل فلسطيني بطريقة غير منظمة أو ما يسمى بطريقة التهريب حيث يتم نقل وعبور هؤلاء العمال بطرق خطرة للغاية، و يقول احد العمال واصفا رحلة العبور " نسير عبر رحلة عذاب ومرّ نتجرعه منذ خروجنا من المنزل حتى وصولنا إلى مكان العمل مرورا بكثير من المآسي والأحداث التي نشاهدها في أفلام الأكشن لكن هنا ربما العيش أو الموت"

فيما يذكر الآخر وهو يلتسق بي لا اعرف لماذا سوى انه قال "أنا فرحان لمرافقتك لنا لأنك ستوثق ولو لجزء بسيط عن معاناتنا للحصول على كسب عيشنا حتى وان أمسك بنا جنود الاحتلال الصهيوني فإنهم سينشغلون بك أنت لأنك صحفي ويتركوننا بدون ضرب أو شتائم".

في عتمة الليل الدامس الذي تعدى الواحدة بعد المنتصف وانسلاخ الأصوات من المكان سوى أصوات صراصير الليل وعلى بعد عشرات الأمتار من جدار الفصل العنصري قبل الوصول إلى الفتحة التي سأمرّ والعمال من خلالها يعلو صوت من بعيد "أجا الجيب أجا الجيب" حينها يشدني أحدهم لأفتراش الأرض فننبطح أرضا على الأشواك وربما أفعى أو مهاجمة خنزير، وبعد لحظات يمر إحدى الجيبات العسكرية مشعلا أضواءه، حيث همس من كان بجانبي "لا تتحرك وإلا سنموت" فلحسن الحظ لعدم اقترابنا أكثر من الجدار لان جنود الاحتلال قاموا برمي القنابل الصوتية والغاز المسيل للدموع على جنبات الطريق.

وسط الضغط العصبي والنفسي بعد عدة دقائق اكمل الجيب العسكري مسيره وأكملنا المسير نحن أيضا حتى وصولنا لفتحة العبور في جدار الفصل العنصري والتي مزق خلالها العمال بأجسادهم كافة أشكال العنصرية التي يفرضها الاحتلال الصهيوني على الفلسطينيين فيروي أحد العمال قائلا "نواجه يوميا أشد صنوف القهر والذل في سبيل كسب الرزق وتوفير قوت أبنائنا، فلا يعلم بنا أحد إلا الله، فخلال الأسبوع الماضي كنت أسير برفقة خمسة عمال وبعد عبورنا فتحة الجدار نزلنا النفق المصطنع الذي يليها، إلا أننا وجدنا أنفسنا نسير على العشرات من القنابل التي دفنت في الأرض من قبل جنود الاحتلال حيث انفجرت بنا وقد نزفت آذانا بالدماء من شدة الصوت وبعدها تم القبض علينا مباشرة".

بلهفة وخوف يصف شاب من الزاوية ممن يقدم المساعدة في عبور العمال قائلا" يأتي إلى هنا المئات من العمال على مستوى الضفة يوميا حيث نقدم لهم المساعدة، ونشاهد الأطفال والنساء ممن لم يحملون التصاريح أو الهوية الإسرائيلية، فأشد موقف شاهدته بأم عيني عندما ساعدت امرأة مع ثلاثة من أطفالها قد تزوجت في مدينة كفر قاسم المحتلة، فبعد دخولهم عبر الفتحة بعشرات الأمتار ألقى جنود الاحتلال الصهيوني القبض على الأسرة ثم توجهوا بالصراخ على الأطفال وإلقاء القنابل الصوتية والشتائم على الأم، إنه مشهد تقشعر له الأبدان حتى أنني بكيت من شدة الموقف ولا استطيع فعل شيء لهم، بالإضافة لذلك أتذكر حادثة لإحدى العمال الذين كسرت رجله جراء الهروب من جنود الاحتلال الصهيوني قبل الدخول عبر فتحة الجدار".

وما يؤكد وقاحة جنود الاحتلال الصهيوني بإجماع كافة العمال الذين شاهدتم ليلة أمس، معاناتهم التي يعيشونها قسرا وكرها، حيث تولد الكثير من القصص المؤلمة التي تعكس حالهم، ومن هذه القصص يرويها احد العمال قائلا "عندما نمر عبر مسافة تتعدى خمسة كيلو مترات مشيا على الأقدام ليلا أو نهارا بين الجبال حتى نصل لمكان العمل بأمان نكون قد ولدنا من جديد حيث نبقى هناك لأشهر ثم نعود لكن من ترك خلفه الأطفال لا يستطيع المكوث أكثر من أسبوع، وفي كل مرة يتم إطلاق الرصاص وقنابل الغاز والصوتية علينا ونعيش لحظات صعبة نقرأ الشهادتين فيها في كل مرة، أما عند الإمساك بنا من قبل جنود الاحتلال فإنهم ينهالون علينا بالضرب صغيرنا وكبيرنا ويشتمون أمهاتنا وأخواتنا ثم ينقلوننا حتى مطلع الفجر، يجلسوننا تحت أشعة الشمس الحارقة حتى الساعة الثانية عشر ظهرا ثم ينقلوننا إلى اقرب معبر لإخراجنا، حتى وإن لم يمسكوننا بالقرب من الجدار فغنهم يمسكوننا في إحدى البلدات الفلسطينية داخل الخط الأخضر ككفر قاسم حينها تكون البلوة باثنتين وأكثر أيضا".

وفي سؤالنا لرئيس بلدية الزاوية نعيم حمودة حول ما يتعرض له العمال في عبورهم من خلال "الفتحات" التي تكون في جدار الفصل العنصري الجاثم على أراضي البلدة أجاب" يعبر البلدة المئات من العمال يوميا لكسب قوت عيالهم ومن هنا تبدأ المعاناة، فهناك جانب إنساني بحت يحتم علينا تقديم المساعدة، ومنها عندما تلقينا قبل بضعة أسابيع اتصالا يفيد بوجود أحد العمال الذين أصيبوا برصاص جنود الاحتلال الصهيوني ليلا وسيتم تسليمنا إياه عبر بوابة الجدار في منطقة وادي السبيتاني لنا بوجود سيارة إسعاف الهلال الحمر الفلسطيني وذهبنا لذلك وقدمنا اللازم آنذاك، وهناك الكثير من حوادث الوفاة التي حصلت في الزاوية للعمال، كما نسمع يوميا وخلال الأسبوع الماضي انقلاب حافلة كانت تقل عمال فلسطينيين وقد جرح من فيها في كفلا قاسم، لكن يكمن تخوفنا من وجود "الفتحات" هنا لعدة أسباب لربما استغلالها من قبل الأنفس المريضة لتهريب المخدرات لأبنائنا، أما السبب الثاني عدم وصول المزارعين إلى أراضيهم المحاذية للجدار من أهالي البلدة خوفا من جيش الاحتلال حيث يطلقون عليهم القنابل الصوتية والمسيلة للدموع لأنهم يحسبونهم من العمال".

هناك الكثير الكثير من قصص المعاناة اليومية التي يتكبدها كافة العمال الفلسطينيين الذين يغامرون بحياتهم في سبيل البحث عن لقمة الموت كما اسماها احد العمال الفتية ممن التقيت بهم يوم أمس، مضيفا بأنه كان قد تعرض للإصابة عند اصطدام سيارة من نوع "جيمس" كانت تقل أكثر من 25 عامل فلسطيني إلى مكان أعمالهم، أما النوم فإنه يكون تحت أشجار الزيتون القريبة من مستوطنة ما يسمى "رأس العين" ومع حلول الشتاء تكون المصيبة الأكبر".

وهنا لا يمكن الختام لان اللحظات اكبر مما نتخيل، والمعاناة أوسع مما نفكر، والتفكير بقوت الحياة ثمنه الموت في ظل غياب الكثير.

تقرير الصحفي عزمي شقير