الأربعاء: 27/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

تمبكتو قدّيسة الصحراء

نشر بتاريخ: 14/09/2015 ( آخر تحديث: 14/09/2015 الساعة: 12:03 )
تمبكتو قدّيسة الصحراء
عفاف خليفي- تونس

في مواجهة آلة الإرهاب التي تجتاح شقوق التّاريخ، استطاع المخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو الخروج بنا من دائرة المُشاهدة العُنفية لوقائع الحرب الأصولية التي فتكت بمالي في فيلمه الجديد “تمبكتو”، الذي يصوّر فترة احتلال جماعة “أنصار الدّين” لتمبكتو وعبثهم فيها. اختيارنا للحديث عن هذا الفيلم ليس ناتجاً فقط عن مواكبة نجاحه الكبير عالمياً (ترشيحه للأوسكار وفوزه بجائزة سيزار كأفضل فيلم وأفضل مخرج لسنة 2014)، بل لفرادة العمل السينمائي في ذاته.

هل بإمكاننا نحن، المُشاهدين الثّابتين لمجازر الإرهاب اليومية، أن نستوعب الواقعة سينمائياً؟ كيف سننظر ونتلقى ونُعاين الفكرة سينمائياً؟

علينا أن ندرك بداية أنّ السينما ليست وسيطاً لقصّ الحكايات، بقدر ما هي وسيط جمالي لتوليد الأفكار وإعادة ترتيب زمنية الفعل داخل الصورة، وهو ما أبدع فيه المخرج سيساكو.

يتراوح الفيلم أساساً بين خطّين متداخلين: تلاوة التعاليم الجديدة للجماعة لفرض تحريماتهم،

وتعامل أهالي تمبكتو مع الإرهاب المسلّط. وبين هذين الخطين يقع النسيج السّردي السيميائي للفيلم.

للمدينة تلك الخصوصية التي نجح المخرج في تصويرها، فبان وجهها التّاريخي من خلال كادر سينمائي فيه جمالية ودقّة عالية. وظّف المخرج ثلاث أساطير بدت متغلغلة في كلّ تفاصيل الصورة هي: الصّحراء، البداوة والحرّية، وهي الأقانيم الثلاثة لتاريخ تمبكتو وسرّ جماليّة الصورة.

“تين بكتو” رائحة الحرير والتوابل، تقاطع قوافل الملح في الصّحراء القديمة. سمّاها المارّون على اسم عجوز طارقية تُدعى “بُكتو” تحفظ أماناتهم إلى أن يعودوا. عجوز الصحراء المقدّسة أسرت عقول الكثير من الأوروبيين والأمريكيين، فرحلوا إليها واحتضنتهم تماماً كما احتضنت أعراقاً مختلفة قبلهم. جدّة الصحراء كطوارقها الذين كانوا طيّبين زاهدين، خيامهم في الرّيح، لم يرثوا سوى أسمائهم في مدينة تعاقب كلّ الغزاة عليها.

امرأة التّاريخ الكسيح تمبكتو تُنازع الموت البطيء وتقاوم وحدها أفول أسطورتها، فيحاول أهلها تأخير القيامة بوضع حصيرة سميكة لسدّ ثغرة أُحدِثت في باب جامعها العتيق، ما يرمز في مِخيالهم إلى نهاية العالم.

يعبّر المخرج عن فكرته من خلال الحضور الكثيف للمرأة، عبر مشاهد وحكايات تحمل فيها كلّ امرأة صفة من صفات المدينة.

بائعة السّمك التي تنحدر من قبائل البوزو تواجه الشرطة الإسلامية كما أفتت لنفسها، وترفض إجبارها على ارتداء القفاز، تصرخ في وجوههم وتقول إنّها لن تلبسه، فهي وأهلها رفيعو الشّرف دون قفاز. ثمّ إنّ فكرة بيع السّمك بارتداء قفاز قطني تبدو فكرة حمقاء.

أيضاً يبدو التّعبير عن المرأة الطارقية بداية وفيّاً لخصوصيتها داخل مجتمعها، فهي لا تخضع لأيّ تمييز أو دونية، لأنّ المجتمع الطارقي أمومي في تركيبته، تتحمل فيه المرأة مسؤولية، ولها كلّ الحرّية بعيداً عن الحكم الذكوري. نلمس هذا في مشاهد الحوار بين الزوجين المقيمين في الصحراء، يقول أنّ صبرها هو ما يجعلهم صامدين وباقين هناك في أرضهم. كل التّفاصيل تدلّ على مكانة المرأة الطارقية نظرته إليها وهي تحدّثه، تعامل الأب مع طفلته، عزفه وغناؤها النّدي كليل الصحراء
ليس في عرف الطارقية الخضوع، وهي صاحبة القرار في مجتمعها. يبدو ذالك في مشهد زيارة الأصولي لها وهو يأمرها بتغطية رأسها، تقول له أنّ ليس عليه النظر إذا كان لا يريد، وتستمرّ في طقوس غسل شعرها كأنّ أحداً لم يمر.

قصّة العائلة الطارقية هي الخيط الرابط بين كل التفاصيل الباقية في الفيلم، تصل ذروة الحدث عند إعدام الزّوج بتهمة القتل، تختار المرأة عدم الانصياع، حتّى وإن كان ثمن تمردهاعلى أحكام الجماعة حياتها، وفي مشهد القتل الأخير تلتقي بزوجها نداً في الموت أيضاً.

اعتمد المخرج سيساكو لغة سينمائية قائمة على الصورتين السمعية والبصرية بالتّوازي، ما تطلب فنّية عالية في الاشتغال على الصورة السيميائية لبيان دلالة وجودية لفكرة المقاومة، تصويره لمشهد جلد المرأة وهي تواصل الغناء، إعلانها الرفض والصمود، صوت الغناء يرتفع وصوت سياط الجلاّد في آن.

في أكثر النّماذج إبداعاً دلالياً شخصيّة “زابو” المرأة المُتّسمة بالجنون، من أسقط عنها الحكم في تشريع المُتشدّدين، زابو عين الحقيقة ولسانها، تقف أمام الإرهابيين تنعتهم بالحمقى، تمقتهم، توقف سيرهم، تفلت من أحكامهم، كأنّها الوجه الآخر للحضارة الرّافضة لقتامة الإرهاب.

هذه الكثافة الرّمزية تبرز في مجموعة آليات، كاللون والمونتاج وزاوية الرؤية، وما يتطلبه تموقع للكاميرا في تفاصيل خاصّة هو جزء من الدلالة. لعب المخرج على التفاصيل التعبيرية للوجوه ومساحة واسعة للمكان، ما نجح في جذب الإحساس الجمالي للمتفرّج وانتباهه، دون الخروج عن الإيقاع الدرامي للمشاهد.

يبدأ الفيلم بمشهد يكتمل رمزياً ودلالياً عند النّهاية: الإرهابيون يلاحقون ظبية في الصحراء، وينتهي بركض الطفلة الطارقية في ذات المساحة. المشهدان متطابقان دلالياً، الطفلة الطارقية امرأة تمبكتو ظبية الصحراء.

لكن يبدو أنّ الطرح الفكري للفيلم بعيد عن حقيقة ما حدث من مجازر في تمبكتو، حيث بدت صورة الإرهابيين ناعمة، خِلاف الحقيقة الأكثر دموية، وبدا لهم وجه إنساني لم نره في الواقع.