صورة قلمية لمشاهد العناق الحار بين الأسرى المفرج عنهم وذويهم في غزة
نشر بتاريخ: 03/10/2007 ( آخر تحديث: 03/10/2007 الساعة: 22:43 )
غزة-معا-هديل عطاالله- لم يكن في اجندتي من مشاريع صحفية يوم أمس سوى معايشة تلك اللحظة النادرة التي سيلتقي فيها أسرى قطاع غزة بذويهم، وذلك طبعاً عبر تسجيلها وتأريخها بين دفتي صحيفة او على اجنحة الشبكة العنكبوتية ، كانت رغبتي في أن أعيش هذه التجربة الإنسانية القصيرة في توقيتها الزمني هي دافعي الأول والأخير، كنت أحتاج فقط من نفسي أن أكون بكامل قواي الشعورية في تلك اللحظات.
كان الشخص الأول الذي نهضت على صوته صباح أمس هو موفق حميد مدير العلاقات العامة في إحدى المؤسسات المعنية بشؤون الأسرى، أبلغني بأن حافلة ستخرج إلى معبر بيت حانون "إيرز" شمال مدينة غزة، وهي ذاتها الحافلة التي ستقّل الأسرى إلى الأماكن التي اشتاقت لهم.
بداية المشوار
حملت "عدتي المكونة من قلم ودفتر" بشىء من السعادة الغريبة، كنت طوال الطريق أفكر بصمت ، بينما ركّاب الحافلة مشغولون بتوزيع الأعلام الصفراء والأوشحة الفتحاوية على بعضهم البعض، ابتسمت عندما ذكّرهم أحدهم بقوله " يجب علينا ألا ننسى رفع العلم الفلسطيني لأنه الأجمل من كل الأعلام المصفرة والمخضرة والمحمرة"، ودمع قلب أحدهم عندما همس وكأنه يتحدث مع نفسه "صحيح أن عدد المفرج عنهم قليل بالنسبة لألوف تتمنى أن تتنفس الحرية، ولكن حتى لو كان أسيرا واحدا فإننا سنعتبره إنجازا، وسنفرح من أجله".
تساءلت ترى كيف يكون شكل ذلك الفرح؟، تخيلته يتكلم مثلنا ويضحك ويصرخ أيضاً، بل هو يبكي أيضاً، أو ليست هناك دموعا للفرح عندما تعانق أم ولدها الأسير بعد خروجه من سجن الاحتلال؟ أو ليست هي ذاتها التي تنساب بغزارة من عيون شابة لحظة استقبالها لشريك عمرها بعد غياب أطول بكثير مما نعتقد؟ كانت الإجابة تمر أمامي سريعة على كل هذه الأسئلة لتقول "اصبري قليلاً وستنتقل إليك عدوى الفرح وأنت تتفرجين الآن على أبطال القصة".
في لهفة الانتظار !
كنت انتظر أن تدق الساعة الثانية عشر بفارغ الصبر ككل العشرات الذين جاءوا لاستقبال أبنائهم، في تلك اللحظة فقط آمنت بأن عقرب الساعة عندما يلتف حول الثانية عشرة تكون نقطة البداية والنهاية معاً.
وبالطبع لم يصل الأسرى في الموعد المحدد وهو 12، انتهزت فرصة الانتظار هذه وذهبت باتجاه سيدة تبدو أصغر من عمرها الستيني! من يدري لعل الفرح عاد بسني عمرها إلى الوراء، أم محمد التي كانت تنتظر زوج ابنتها الأسير عبد الهادي حسنين سبقت ابتسامتها كلماتها فقالت "عبد الهادي ليس زوج ابنتي فحسب، بل هو ابني أيضاً حيث قمت بتربيته منذ كان طفلاً لا يتجاوز الحادية عشرة، لقد جئنا بالأمس إلى هنا وانتظرناه خمس ساعات أنا وطفلاه الصغيران، وكم كانت صدمتنا عندما عدنا بدونه، لقد احترق قلبي على أحفادي الصغار الذين أخذوا يبكون بحرقة ويقولون "بدنا بابا يا ستو".
وأضافت بتفاؤل غير عادي "اليوم ابنتي بعد غياب دام ست سنوات تنتظره وكأنها عادت "عروس" من جديد، كيف لا وهو تركها في بداية مشوارهما في هذه الحياة، والأصعب من ذلك أنها ممنوعة من الزيارة ولم تره منذ عامين".
أم محمد تحدثت عن طقوس الفرح التي جهزتها ل"صهرها" الذي يتبقى له ست سنوات لانتهاء محكوميته قائلة " لقد ملأنا البيت له بالزهور، والأعلام وصور الأسرى"، ولكن رغم ذلك هي لم تنس كل أمهات الأسرى اللاتي لا زال أبنائهن قابعين في السجون رافضة التمييز بين الأسرى، متضرعة إلى الله أن يفرج عنهم جميعاً".
تركنا أم محمد تنتظر ابنتها وأحفادها الذين سيأتون من المدرسة مباشرة إلى "ايرز" لاستقبال والدهم، وعلى بعد أمتار قليلة منها كان والد الأسير خليل بركة يقف صامتاً بينما عيناه تقول كلمات وأحلام وردية، ترجمها بقوله "الحمد لله على أجمل هدية في هذا الشهر الفضيل، أخيراً سيكون خليل بيننا، أنا لا أصدق نفسي"، مشيراً أن ابنه المحكوم عليه بسبعة أعوام ونصف، قضى أربعة سنوات وثلاث شهور.
نصف ساعة مضت والجميع لا زالوا يتطلعون إلى أي قادم يأتي من بعيد، وكان من بينهم جيهان عبد الله التي قالت " أنا لم آتي لاستقبال أسير بعينه، وإنما جئت كمواطنة فلسطينية تناصر قضية الأسرى، واعتبر أي أسير سيخرج الآن هو أبي وأخي وابني وزوجي، لقد شعرت بمعنى الانتظار القاتل يوم أمس عندما أصيبوا بخيبة أمل لا تصفها سوى ملامحهم المحبطة عندما عادوا بدون أبنائهم".
وأعربت عبدالله عن أملها بأن تكون هذه الخطوة الصغيرة أولى الخطوات على طريق الإفراج عن كل الأسرى بدون تمييز.
على طبق من حذر!
يبدو أنه حان الوقت وأن وجوههم تلوح الآن في الأفق، ويبدو أن بشرى الفرح باتت أقرب وأقرب بكثير من ذي قبل، ولكن الفلسطينيين قدرهم أن يتوجسوا من فرحة تقدم لهم على طبق من حذر، وبالفعل ما هي إلا لحظات حتى بدأت قوات الجيش الاسرائيلى بإطلاق الرصاص الحي والمباشر على جموع المحتشدين، مما أدى إلى إصابة المصور الصحفي محمد جادالله الذي يعمل في وكالة رويترز.
تراجع المنتظرون قليلاً خوفاً من رصاصات أخرى تفسد فرحهم، تهليل وتكبير وأناشيد وطنية تعلن ساعة الصفر...يظهر الأسير الأول يلتف أهله حوله ويسيرون به مسرعاً إلى الحافلة، ويظهر الأسير الثاني محملاً على الأكتاف والقبلات تتوزع عليه من هنا وهناك، وهكذا كان الثالث والرابع وصولاً إلى التاسع والعشرين، كلهم كانوا يرفعون السبابة والوسطى بشموخ ورجولة معلنين النصر على أيام العذاب والشقاء بإرادتهم القوية.
أما أم الأسير التي لم أعد أذكر اسمها فلم تشبع زغاريدها من الفرح وهي تدوي بأعلى صوت في أرجاء المكان....حقاً إن وصف هذه اللحظات بالذات يحتاج إلى عازف ماهر يعزف ألحان الأمومة بصوت يصل إلى أبعد مكان في الدنيا ويخترق الصليب الأحمر، ويصل إلى أبعد زمان ليلتصق بيوم الأثنين دوناً عن الأيام....
أما ماجدة العجرمي التي وقفت أمام عدسة كاميرا إحدى الفضائيات، فكان صوتها يرتعش كارتعاشة دموعها التي سالت على خدها الطفولي، فقالت " يا آلهي....لا أبالغ إن قلت أنه من الصعب أن يشعر أحد بما أشعر به الآن، هل من المعقول أن أخي عاد إلينا، كم هي فرحتي، ولكن مع الأسف إنها ناقصة، لأني واثقة بأن هناك مئات الفتيات في مثل عمري يفتقدن إلى وجود أخوتهن ".
من جنين إلى غزة..تباً للظلم
بضع دقائق مرت كلمح البصر قال فيها الأسير نسيم أبو ورد من سجن "ديمون" كان الأكثر تميزاً بين كل الأسرى، لأن له قصة مختلفة ومثيرة في حزنها، حيث أصر الاحتلال على أن يتم ترحيله إلى قطاع غزة بعيداً عن مسقط رأسه في جنين وذلك لذرائع أمنية، حيث قال "بالأمس فقط أبلغني الصليب الأحمر أنه سيتم ترحيلي إلى غزة، ومن الطبيعي أنه انتابتني صدمة، خاصة أن إدارة السجن أكدت أنني إذا رفضت هذا القرار وصممت على إكمال محكوميتي التي لم يتبق لي فيها سوى ثلاثة شهور بعد قضاء ست سنوات، فإنها أيضاً سترحلني إلى غزة، ليكون مصيري كمصير أخي وهو أحد مبعدي كنيسة المهد".
يبدو أن نسيم اختلط حزنه بفرحه، لأنه يعتبر أن غزة هي أرضه تماماًُ كالضفة، لا سيما أن أهلها استقبلوه بحفاوة، ولكن حزنه على أمه التي تمنت أن تعانقه بعد كل هذه السنوات، حيث وجه رسالة لها "اصبري وصابري يا أماه...فلا بد أن يأتي يوم ونتقابل فيه"....حتماً كان كل حرف في هذه العبارة يذرف دمعة مقهورة.
وتطرق في حديثه إلى الوضع المأساوي الذي يعيشه الأسرى داخل السجون الاسرائيلية، موضحاً "طعامهم ليس بطعام، ومعاملتهم تتوقف على حسب الوضع السياسي، لكن مهما كان الأمر كيف تتوقعون أن تكون معاملة المحتل للأسير؟، كما كنا نعاني من شح النقود التي تصلنا عبر "الكانتينا"، مستذكراً ليلة الوداع التي كانت من أصعب لياليه، لأن مذاقاً مراً هو أن يخرج الأسير ويترك آلاف الأسرى من ذوي الأحكام العالية يتعذبون ورائه حسب تعبيره.
تلك هي الإجابة
بعد كل ما شاهدته وسمعته كان طريق عودتي محملاً بالكثير من التأمل للموكب الذي سارت به السيارة التي أقلتني، العودة استغرقت وقتاً طويلاً وكأننا نسير في "زفة عرس"، السيارات التي كانت تحمل الأسرى وذويهم لم تتوقف عن "التزمير"، والمصورون لم يتوقفوا أيضاً عن إخراج كاميراتهم من نوافذ هذه السيارات كي يلتقطوا صورة لابتسامة أسير يجلس في الحافلة التي جئت بها، وصورة أخرى للناس الذين وقفوا على شرفاتهم ليشاركوا الأسرى في فرحتهم....
زميلة صحفية قاطعت تأملي الصامت بسؤالها "ما بالك فيما تفكرين؟"، لم أجبها، لأن غصة كانت في حلقي حيث توجد الإجابة وهي "لاشك أني سعيدة من أجل كل أسير خرج في هذا اليوم الذي اعتبره مميزاً على صعيد تجربتي الشخصية والصحفية، ولكن من الصعب ألا يمر بخاطري آلاف الأسرى الذين يتمنون أن يلمحوا وجوه أمهاتهم الرائعات ولو من بعيد...أو ليس هذا سبباً جديراً بتأمل حزين؟!