الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

10 سنوات من الغياب- أم عمر البرغوثي: فرحة تزرع الأمل في قوس قزح

نشر بتاريخ: 19/10/2015 ( آخر تحديث: 19/10/2015 الساعة: 18:16 )
10 سنوات من الغياب- أم عمر البرغوثي: فرحة تزرع الأمل في قوس قزح

الكاتب بسام الكعبي - في معتقل عسقلان وقبل منتصف ليلة الثامن عشر من تشرين أول 2005، هَمَس الأسير نائل البرغوثي بقلب قديس لشقيقه الأسير عمر: "صوت الحاجة سيرتفع بعد قليل فوق أثير الإذاعة". لم يكد ينهي جملته حتى أعلن مقدم البرنامج عن الختام بمكالمة هاتفية أخيرة؛ ودوى صوت فرحة البرغوثي الجبلي بقوة ورنة لامست نبض قلبي نجليّها نائل وعمر، وضمائر رفاق السلاح في غرفة الاعتقال، لتجدد شغف الانتصار وتفتح ثغرة أمل في جدار زنزانة صماء معلنة: "درهم شرف ولا بيت مال يا أحباء قلبي. سلامي لكل أسرى وأسيرات الحرية، والأمل كبير بقهر السجّان والافراج العاجل يا أحبائي. ليت الأسيرة المحررة إيمان نافع تكون من نصيبك يمّا يا نائل".


أطلقت وصيّتها الأخيرة عبر الأثير خلال شهر الصيام الفضيل، قبل غيابها في رحلتها الأبدية على وقع آذان الفجر وسحور رمضان، غابت فجر التاسع عشر من تشرين أول 2005، بعد أربع ساعات بالضبط على وصيّتها وأمنياتها التي زرعتها في درب الحرية لأسرى الحرية، وأطلقتها عبر أثير برنامج إذاعي، متمسكة بالأمل ليتحطم قيّد السجّان؛ وقد تحطم.. وانتصر الأمل وأشرقت شمس الحرية.


رحَلت أم عمر عن التظاهرات والاعتصامات، وغابت عن بوابات سجون الاحتلال وشباك الزيارة، قبل أن تتجاوز عتبة الخامسة والسبعين، وبعد أن سلمت أكثر من نصف حياتها لمقاعد حافلات الصليب الأحمر، وتنقلت على عجلاتها إلى معظم سجون الاحتلال. طاردت دون كلل أو تعب أو عتب؛ نجليّها نائل وعمر وحفيديّها عاصف وعاصم، وإبن عمهم فخري ومجموعة من أسرى الدوريات؛ وكانت تحرص على انتظام زيارتهم لغياب ذويهم قسراً خارج الوطن المحتل..كيف غابت الفرحة من الأرض لتصعد نجمة تبرق في السماء؟


سرير المشفى وبوابة السجن!
تمكن نائل في آذار 2005 من الحديث هاتفياً مع والدته، اطمأن عليها عندما علم باشتداد مرضها ونقلها إلى مستشفى الشيخ زايد في رام الله، بحث في الصحف القديمة عن أرقام المشفى حتى تمكن من الوصول الى هاتف غرفتها. كانت متعبة، وتقرر تحويلها إلى مستشفى "هداسا" عين كارم في القدس الغربية. رفضت الإدارة استقبالها، فنقلها طاقم الاسعاف إلى مشفى المقاصد الخيرية في القدس العربية. غادرت سرير الشفاء بعد تلقي العلاج، لكن الأوجاع لم ترحمها وداهمتها، ثم منحتها فرصة أخيرة للقاء نجليّها الأسيرين.


أقدمت إدارة سجن نفحة في مطلع نيسان 2005 على نقل نائل بصورة مفاجئة إلى معتقل عسقلان، ليلتقي بشقيقه الأسير عمر، الذي بدا منهكاً صحياً من نتائج الاضراب السابق عن الطعام. مزقته مشاعر الغضب وهو يراقب شقيقه عمر غير قادر على ابتلاع مياه الشرب، وازدادت آلامه أكثر عندما علم بتردي الوضع الصحي لوالدته، ومحاولات وزير الأسرى الأسبق سفيان أبو زايدة بتوفير تصريح للحاجة من أجل زيارة نجليّها الأسيرين. اشترط الاحتلال نقلها في سيارة اسعاف، بشرط وجود مرافقة لا تربطها بها صلة قرابة، وتحمل بطاقة مقدسية! عثرت عائلة البرغوثي على امرأة من كوبر متزوجة في كفر قاسم داخل الخط الأخضر؛ وقد رافقتها في مشوارها الصعب.


في منتصف شهر نيسان هبط الشقيقان عمر ونائل من غرفتهما إلى قاعة انتظار في السجن وسط حالة استنفار غير عادية للحراس. دخلت أم عمر منهكة على حمالة تمسك بيد قريبتها، ولا تقوى على الحركة والكلام. لم يصدق نائل مدى تدهور صحة والدته وتضاؤل حجمها، واستعاد في لحظة من ذاكرته صورها المتعددة تنقل حزماً كبيرة من الحطب على رأسها، واستعاد رحلتها القاسية على بوابات السجون، واضراباتها المتكررة عن الطعام تضامناً مع أسرى وأسيرات الحرية. قبّل جبينها ويديّها وقدميّها، ثم انفجر ببكاء داخلي؛ مرّ وصامت. تماسكت وقالت إن والدكما توفي قبل ستة أشهر وهو راض عنكما. مرت الزيارة بطقوس مؤلمة، وعادت إلى سريرها في مستشفى المقاصد الخيرية في القدس المحتلة لاستكمال العلاج.


غابت الحاجة أربعة أشهر تنقلت خلالها بين المستشفيات بحثاً عن علاج، وعادت في زيارة أخيرة لرؤيتهما في سجن عسقلان ظهيرة اليوم الأول من شهر آب 2005. بدت في حالة صحية متردية، وقد نهشها مرض السكري، ولم يعد القلب قادراً على النبض الطبيعي. انتهت الزيارة بالغضب والحزن والألم، وعاد نائل وعمر إلى غرفتهما ينهشهما القلق على حياة والدتهما، وتتفجر الأسئلة حول المسيرة الطويلة لكفاحها الصلب: كيف عاندتها قسوة الظروف؟ وكيف تصدت لمصائب الزمن بصبر وحكمة وصلابة؟ ومن أين جمعت كل عناصر قوتها وتماسكها؟


الفرحة الغائبة!
لم تفرح البريئة فرحة البرغوثي كثيرا بدلال والدها رباح، طبيب الأعشاب المرموق، باعتبارها ابنته الوحيدة وآخر العنقود، فقد غيّبه الموت من حياتها مطلع الأربعينيات قبل اجتيازها سن الزواج، كما تزامن غياب والدها مع رحيل شقيقها البكر ادريس.


لم تتمكن اليتيمة الصغيرة والبنت الوحيدة من متابعة تعليمها، وعوضت غيابها عن المدرسة بحفظ آيات من القرآن الكريم، وشحذ موهبتها في الزجل الشعبي، وقد ورثتها من جدها علي البرغوثي؛ الذي ذاع صيته بكتابة قصائد الشعر والزجل الشعبي.


تزوجت قريبها صالح عبد الله البرغوثي مطلع الخمسينيات قبل أن تكمل العشرين من عمرها، وعملت كفلاحة قوية في زراعة الأرض والاعتناء بأشجار الزيتون. جمعت الحطب من البراري، واعتادت نقله بحزم ضخمة على رأسها إلى البيت لتستخدمه في الطهي.


أنجبت نجلها البكر عمر سنة 1953، وخسرت نجلها الثاني جبريل عام 1955 بعد ثمانية أشهر على ولادته، ثم أنجبت نائل سنة 1957، وحنان عام 1964. اهتمت برعايتهم وتربيتهم في غياب والدهم الذي كان يكدح في شرقي الأردن ولبنان.


طاردت شقيقها علي في السجون الاردنية والسورية على خلفية نشاطاته الحزبية، لكن التحوّل القاسي الذي غيّر مجرى حياتها عقب احتلال الضفة الغربية عام 1967، تجسّد في اعتقال نجليّها عمر ونائل أواسط السبعينات، واصدار أحكام قاسية بالمؤبد في حقهما، وزجهما طويلا بين قضبان الزنازين.


شكل سجن رام الله المحطة الأولى في سكة طويلة من الانتظار القاسي على بوابات سجون الاحتلال، وحجزت مقعداً مؤبداَ في حافلات الصليب على مدار ثلاثين عاما، بل سابقت عجلات الباص للانطلاق منذ ساعات الفجر إلى سجون: رام الله، نابلس القديم، جنيد، الخليل، نفحة، عسقلان، بئر السبع، ريمون، هداريم، هشارون، الرملة، ايشل، تلموند، جلبوع، شطة والقائمة طويلة.


خاضت اضرابها الأول عن الطعام سنة 1980 تضامناً مع الأسرى والأسيرات، وفي الزيارة أخبرها عمر أنهم أضربوا 12 يوماً عن الطعام، فقالت له إنها أضربت 13 يوماً. وفي اضراب أسرى معتقل جنيد سنة 1984 لم تشارك في الفعاليات طوال ثلاثة أيام؛ وسط تساؤل المعتصمين والمعتصمات عن سر غياب أم عمر. غابت قسراً عن المشاركة للقيام بواجبها لتستقبل بحزن المعزين والمعزيات في بيتها، تكريماً لروح شقيقها يحيى الذي توفي أثناء الحج في مكة المكرمة، لكنها استقبلت بفرح المهنئين والمهنئات بتحرر عمر في صفقة تبادل الأسرى أواخر أيار سنة 1985.


واصلت عام 1987 على مدار واحد وعشرين يوماً الاضراب عن الطعام اسنادا لأسرى معتقل جنيد، ورفضت أن تفك اضرابها إلا بعد زيارة نجلها نائل في السجن، رغم رجاء الأطباء في مقر الصليب الأحمر في القدس لخطورة وضعها الصحي. نفذت قناعاتها وأصرت على موقفها بعدم انهاء اضرابها إلا بعد زيارة المعتقل، وسجلت واحداً وعشرين يوماً جديداً في مسيرة اضرابها عن الطعام تضامناً مع أسرى وأسيرات الحرية.


قادت وفدا نسوياً توجه إلى رفح في جنوب قطاع غزة، لتقديم العزاء بأحد شهداء طلبة جامعة بيرزيت؛ موسى مصباح حنفي (23 سنة) الذي استشهد برصاص الاحتلال خلال تظاهرة طلابية يوم 13 نيسان 1987، تضامناً مع الأسرى المضربين عن الطعام في معتقل جنيد. استقلت الحافلة الجماعية وتوجهت إلى غزة، لكن سلطات الاحتلال منعت دخول الوفد النسوي، وأعادته من الحاجز العسكري للاحتلال في نقطة "ايريز" شمال القطاع.


مطلع التسعينات تعرض شقيقها علي للاعتقال السياسي في سوريا، بذريعة تقديم خدمات لمعارضي النظام. تمكن علي من تهريب قناعاته لزوجته السورية؛ بأن شقيقته أم عمر الوحيدة التي تمتلك مفاتيح الافراج عنه، بعد أن عجز ذووها في مدينة طرطوس، شمال سوريا، عن الوصول إلى زنزانته السرية، فيما أبدى شيخ الطائفة العلوية في اللاذقية اعتذاره عن المهمة، وأعلن بصراحة أنه لا يستطيع التدخل في الشأن السياسي. اجتازت أم عمر نهر الأردن إلى الشام، وطرقت دون كلل أبواب مكاتب الفصائل، وتمكنت من انتزاع فرصة بزيارة شقيقها في المعتقل، واشترطت على أجهزة الأمن أن ترافقها زوجته السورية. حملت معها ثلاثين كيلو غرام من الفواكه، وعندما اعترض حراس السجن، قالت لهم: لماذا الاعتراض وأنا أحمل لأبنائي المعتقلين في سجون الاحتلال هذه الكميات من الفواكه؟ غضب مسؤول السجن من المقارنة، لكنه استجاب لضغطها بادخال الفواكه، وحدد وقتاً قصيراً للزيارة لا تتجاوز نصف ساعة، فاعترضت ثانية: يعني اليهود أحسن منكم؟! في معتقلات الاحتلال الزيارة لا تقل عن 45 دقيقة. غضب الضابط المسؤول مرة أخرى على قسوة المقارنة، وكاد أن يتخذ قرارا بمنعها من الزيارة، لكنه اضطر لمنحها ساعة كاملة. شقيقها علي أخبرها أنه في سجن تحت الأرض ولا يعرف مكانه، ووعدته بالعمل بكل طاقتها من أجل اطلاق سراحه.
وفت بوعدها، ولم تترك مسؤولا فلسطينيا على الساحة السورية إلا وقابلته وطالبت تدخله لدى أجهزة الأمن، وأخبرتهم بوضوح أنها لن تبرح الشام، إلا عندما يغادر شقيقها زنزانته السرية.


تسلمت وعداً نهائيا من قادة الفصائل بالعمل على اطلاق سراح شقيقها من السجون السورية، وحينها قفلت عائدة إلى الضفة الغربية المحتلة. استجابت السلطات السورية لوساطة قادة الفصائل، وأطلقت سراح شقيقها علي. خرج مقعداً على كرسي من زنزانته بعد ثلاثين شهرا في الاعتقال السري، وظل يصارع أمراضه حتى وفاته سنة 1996 ودفن في سوريا، وطوى صفحة مشرقة من الكفاح الوطني في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان. انتمى علي مبكرا لحركة فتح وظل وفياً لاتجاهه العروبي.


أثناء عودتها من دمشق سنة 1991 عبر نقطة الجسر، أقدم جهاز المخابرات الإسرائيلية على اعتقالها، ونقلها إلى أقبية تحقيق سجن المسكوبية في القدس الغربية. أعلنت الإضراب عن الطعام طوال ثمانية أيام حتى ضمنت اطلاق سراحها. تصدت لمحاولات ضابط المخابرات بتلفيق تهمة لها حول علاقتها بقادة التنظيمات، وأنكرت التهمة وصمدت في التحقيق، ورفضت تناول وجبات الطعام حتى عادت منتصرة إلى بيتها.


حصلت عام 1994 على فرصة للحج إلى بيت الله الحرام، قطعت جسر الكرامة برفقة زوجها بعد تأخير قصير على الجانب الإسرائيلي، لكن الطرف الأردني اعترض سفرها وأصر على منعها من عبور الأردن؛ عقب تحقيق تركز على نشاط نجليّها عمر ونائل. في نهاية الأمر تحدت الضابط الأردني قائلة: هذا طريق للخالق وليس ملكاً للأردن، وعليك تسهيل أمر مروري لإداء فريضة الحج. لاحظ الضابط سطوتها وقوة شخصيتها في الرد والتصدي لاسئلة المحقق. لجأ إلى الخديعة عندما أخبرها بضرورة لقاء الضابط المسؤول عن الجسر لتسهيل عبورها إلى الأردن. حملها في السيارة العسكرية وطار بها إلى الجانب الإسرائيلي. احتجزها الاحتلال وطلب منها العودة إلى بيتها، فيما سافر زوجها وحيداً إلى مكة المكرمة. لم تستسلم للقرار الأردني، وظلت تحاول الوصول إلى مكة المكرمة، حتى نجحت سنة 2002 عندما تسلمت موافقة ملكية من العاهل السعودي تسمح لذوي الأسرى باداء مناسك الحج.


الصحفي اللئيم!
في احدى زيارات السجن قال لها نائل: غَلبّتك يمّا. جاوبته مبتسمة: "يا بني مين طالع له يزور كل فلسطين على حساب الصليب الأحمر. شفت الساحل والجبل والبيارات والصحاري مجاناً وعلى نفقة الصليب".


ضَغَطتْ على نائل بقوة لتعرف ماذا يحتاج؟ قالت له كل الأسرى يهمسون لذويهم باحتياجاتهم، قل لي يا قلبي ماذا تحتاج؟ أكد لها أن كل شيء متوفر تقريبا للأسرى ولم يقدم لها اجابة شافية. كررت الضغط حتى قدم لها نائل اعترافاً وندم عليه: احتاجُ لأنام ساعة واحدة تحت الشمس على ظهري؛ فوق ربيع قريته كوبر(شمال رام الله)؛ وقرب حاووز البلدة. أمدُ يديّ وساقيّ على اتساعهما دون أن تلمس جدارا أو حديدا، أغفو بعمق ولا أسمعُ تعليمات عبرية للسجّان في مكبرات الصوت. لا أحتاجُ أكثر من ذلك يا أمي. صمتت، وغطست في أحزانها، ودعت له بتحقيق أمنيته قريبا.


عاشت أمنية نائل تطاردها ليل نهار، وكشفتها في مقابلة صحفية مع مراسل "هآرتس" عندما عرضت عليه بشكل ساخر فكرة اختطافه لفترة قصيرة في بيتها من أجل مبادلته مع نائل، وقالت له: لك أن تتخيّل حاجة ابني في النوم دقائق على ظهرة تحت شمس كوبر، وعلى حشيشها، ويمّد أطرافه دون أن تلامس جدار الزنزانة وحديدها. كتب الصحفي اللئيم تفاصيل فكرتها الساخرة بدقة، ونشر عرضها "بخطفه" في قصته الإخبارية!؟ قرأ نائل المادة الصحفية وشاهد صورتها ودقق في أقوالها، وشعر بالسكاكين تمزق قلبه، واكتشف حجم ندمه على كشف أمنيته لوالدته، وقد عاشت نصف عمرها تدعو له بتحرره لتحقيق أمنيته المتواضعة.


خلال احدى الزيارات في سجن عسقلان، سَلَمها وجه فرشة أخضر وزعته الإدارة على الأسرى وذلك من أجل توثيق مراحل اعتقاله. جاءت في الزيارة التالية ترتدي وجه الفرشة عندما حولتها إلى دشداشة. قدمتْ القماش لخياطة في البلدة وطَلبتْ منها حياكتها بمقاسات دشداشة. تفاجأ نائل من ثوب ترتديه بلون وجه الفرشة في سجنه. قالت: "وجه الفرشة اللي بتنام عليه يمّا بدي أخليه جزء من جلدي يرافقني حتى تتحرر من سجنك".

ديوك "فرخة"
اعتدى جنود الاحتلال على مدرسة كوبر خلال احدى التظاهرات الطلابية في الانتفاضة الأولى، وتمكن ضباط الدورية من اعتقال أحد الطلبة. تصدت نساء كوبر لأفراد الدورية بهدف تخليص الطالب، صرخن باصواتهن، وزعمت كل واحدة بأنها أمه. اعترض الضابط على صراخهن، ولم يعجبه إدعاء كل امرأة بأنها والدة الطالب المعتقل. تصدت له أم عمر: "هذا الطالب له مائة أم وأب واحد. أنت لك أم واحدة ومائة أب".


في احدى زياراتها لسجون الاحتلال، نادى حارس البوابة الإسرائيلي بلكنة غربية على إسمها للدخول إلى غرفة الزيارة: فرخة برغوثي. ضحك الزوار الذين برفقتها على اللغة العرجاء التي لا تحسن نطق الأحرف، وقد حولت الحاء إلى خاء في الإسم المرموق للحاجة الصلبة والمناضلة. ردت أم عمر بهدوء: "فرخة، وأنجبت ديوك لمواجهة المحتل".


وفي زيارة أخرى دققت بدموع امرأة مسنة تبكي نجلها الأكاديمي المعتقل، سألتها عن فترة حكمه، أجابت تسعة أشهر. قالت لها: آمل أن يتمكن اليوم من العودة برفقتك؛ إذا وافقت إدارة السجن على اضافة حكم ابنك إلى مؤبد ابني نائل المعتقل منذ سنوات طويلة. صمتت المرأة وابتلعت لسانها ومسحت دمعها.


مجد الصابرات


زرعتْ أم عمر في باب بيتها ليمونة وأطلَقتْ عليها إسم نائل، وحَرصتْ على نقل عبوات مياه من نجلها الأسير في كل زيارة للمعتقل. كانت تتوضأ بالمياه الطاهرة فوق جذورها. أينعت الليمونة بعد سنوات، ونقلت حباتها إلى قلبها الأسير في سجن بئر السبع. ظلت على هذا المنوال في كل زيارة حتى منعت الإدارة ادخال الليمون. في احدى الزيارات وصلت أم عمر وحيدة إلى معتقل بئر السبع، احدى الزائرات هَمست إلى نائل: والدتك المسنة لم تعد قادرة على حمل جالون المياه، ونقله بمفردها دون مساعدة من بئر السبع إلى ليمونة كوبر. أوقف نائل عادته وجنّبها أمر المياه، لكن الليمونة التي سقتها عشر سنوات من مياه الأسير، واظبت على الاعتناء بها رغم أن حبات الليمون لم تعد تصل إلى نائل ورفاقه الأسرى.


أثناء تردد أم عمر على عيادة متخصصة بأمراض القلب في رام الله، قال لها الطبيب المختص عقب الفحص السريري: هناك تضخم في القلب يا حجّة. ردت عليه: "القلب بيضخم يا بني على قد الهّم. القلب الضخم ضروري من أجل أن يتسع للهموم الكبيرة يا دكتور".


توفي زوجها أبو عمر نهاية العام 2004، واخذ الوضع الصحي لأم عمر يتفاقم بالتدريج بدءا بتضخم القلب وضعفه، وتعرض الرئتين لهجمات المياه، وضيق النفس، وارتفاع الضغط وتزايد معدلات السكر في الدم. تنقلت بين المستشفيات ثم غابت إلى الأبد، لكن لم يغب أملها الكبير بتحرر نجلها نائل، وقد تحقق بعد غيابها بست سنوات وثلاثين يوماً بالضبط.


تحرر نائل برفقة مجموعة كبيرة من رفاق السلاح في صفقة وفاء الأحرار يوم 18 تشرين ثاني 2011 بعد قضاء 34 عاماً خلف القضبان. نفذ نائل وصية والدته وارتبط بالأسيرة المحررة ايمان نافع، لكن الاحتلال أعاد اعتقاله في حزيران 2014 مع ستين أسيراً محرراً في صفقة "شاليط"، واحتجزه في زنازين معتقل بئر السبع، وأصدر بحقه حكماً بالسجن الفعلي 30 شهراً! النيابة العسكرية قدمت اعتراضاً على الحكم، وسط صمت أطراف عربية ودولية وقعت اتفاق تبادل تنكر له الاحتلال؛ باعادة الأحكام السابقة بحق أسرى حررتهم صفقة وفاء الأحرار.


 لم تشهد أم عمر وقائع الصفقة ثم تداعياتها، لكنها "تدرك" قسوة الانقلاب عليها تحت شاهدة حفرت تاريخ نجمة في سجل الصابرات المكافحات؛ من أجل شعب حر ووطن مستقل. أم عمر مناضلة حقيقية تستحق اللقب، وتدفع الكتابة قسراً في طريق الشغف؛ لعلها تخطف جزءاً يسيراً من مسيرة هذه النماذج الكفاحية؛ التي حافظت على طهارتها ونقائها، بعيداً عن انحطاط المزيف، بصوره النمطية المتعددة في خطف الألقاب والمناصب، ونهب الامتيازات، واحتكار أدوار البطولة بطبعة "دوبلير".