الأربعاء: 27/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

عصيان الملاعب: ظاهرة أم أحداث عابرة؟! بقلم: عزيز العصا

نشر بتاريخ: 10/10/2007 ( آخر تحديث: 10/10/2007 الساعة: 16:23 )
عصيان الملاعب: ظاهرة أم أحداث عابرة؟! بقلم: عزيز العصا
بيت لحم - معا - التاسع والعشرون من أيلول من العام الحالي 2007م، هو اليوم الأول من العام الثامن لانتفاضة الأقصى التي انطلقت في الثامن والعشرين من هذا الـ (أيلول) في العام 2000م، والتي حصدت أكثر من 5000 شهيد، وأكثر من 10000 أسير، ومئات الآلاف من الجرحى والمصابين والمروَّعين والمعاقين إعاقات دائمة أو مؤقتة.. هذا اليوم الرمضاني المبارك (الذي صادف 17/رمضان/) والـ "أيلولي الأسود"؛ فشهر أيلول في الذاكرة الفلسطينية أسود بل حالك السواد، كغيره من شهور السنة. فقد شَهِدَ أحداث، لا مجال لذكرها، حفرت في الجرح الفلسطيني النازف ما لا يُنسى..
لقد كان هذا اليوم واحداً من أيام "دورة الخضر الرمضانية في كرة القدم"، التي نُظِّمت على استاد الخضر. ولمن لا يعرف الخضر نقول: هي بلدة فلسطينية جميلة تتميز بعنبها الذي فيه شفاء للناس.. مستهدفة من قِبَلِ الاحتلال الذي اغتصب أرضها، والذي يحاصرها من كل جانب منذ أربعين عاماً. انضم أبناؤها إلى جحافل الثوار وإلى قوافل الشهداء والجرحى والأسرى في كافة مراحل النضال الفلسطيني. أما الاستاد المقام على أرض الخضر فهو مَعلمٌ وطني فلسطيني وواحد من رمزيات مقاومة الاحتلال؛ فهو ملاصق للشارع الستيني الذي أنشأه الاحتلال ليمزق أراضي هذه البلدة الوادعة الآمنة.
أما مباراة ذلك اليوم فقد تمت بين فريقين وطنيين حتى النخاع؛ جاءا من بلدتين تشكلان جناحي محافظة بيت لحم، وهما: العبيدية الواقعة شرق المحافظة ووادي النيص الواقعة جنوبها.. وأما توقيت المباراة فقد كان بُعيد صلاة التراويح من ذلك اليوم الرمضاني-الخريفي-الصافي.. وأما الحضور فقد كان من معظم شرائح المجتمع في العبيدية ووادي النيص ومضيفيهم أبناء الخضر؛ منهم الأطفال وكبار السن، ومنهم رجال دولة ورجال إصلاح.. وأما أسباب هذا الحضور النوعي والكمي فهي كثيرة، إلا أن أهمها هو التمتع بمباراة تسودها الروح الرياضية التي يُفترضُ أن تحكم الجمهور والللاعبين والاداريين.
كما هو معروف، فإن كل من يسمع عن مباراة رياضية يسأل عن النتيجة، وعن الفائز، وعن عدد الأهداف، وعن الهدّافين، وعن المدافعين "حماة الشباك".. أما المباراة، التي نحن بصددها، فإنني أعتذر للقارىء الكريم عن الغوص في النتائج الرياضية لها. فقد كان لتلك المباراة "الأيلولية!" نتائج أخرى تكاد أن تطمس الأهداف التي أُنشئت من أجلها رياضة كرة القدم. لقد جرت رياح المباراة ورياح "ما بعد المباراة" بما لا تشتهي سفن الجميع، عندما تحولت مجرياتها إلى أحداث عاصفة كادت أن تودي بحياة أناس من جمهور ذهب للمباراة ليخرج من حالات الكبت ونوبات القهر التي يعاني منها، ولاعبين أرادوا أن يُسَجَّلوا في السفر الرياضي الفلسطيني..
لقد جرى ما جرى من ضرب وإهانات، وتحطيم للسيارات، والأهم من هذا كله أن خُدشت العلاقة العبيدية-الخضرية التي فيها من المصاهرة، والصداقات والاحترام المتبادل ما يكفي لأن يمنع الأحداث من أن تقع. والعبيدية (تقع على الطريق الذي يصل شمال الوطن بجنوبه) هي كذلك بلدة قدم أبناؤها للوطن ما يجب عليهم أن يقدموه؛ فانضموا إلى الثورات الفلسطينية المختلفة ليكونوا جزءً من جحافل الثوار وقوافل الشهداء والجرحى والأسرى. ومن أبرز ما تتمتع به هذه البلدة هي خلوها المستعمرات نتيجة صمود أبنائها، وتوحدهم في مواجهة محاولات استباحة أرضها من قِبل سوائب المستوطنين وسماسرة بيع الأراضي.
بعيداً عن الكرات التي هزت شباك كلا الفريقين.. وبعيداً عن انفعالات الجمهور ومشاعره تجاه الحكم الذي لا يمكنه إرضاء الطرفين.. وبعيداً عن مزاجية مراهق لا يعجبه الحكم ولا اللاعبين ولا الجمهور، وبالتالي فلا يعجبه العجب.. بعيداً عن هذا وغيره، لا بد لنا من التوقف أمام ما حدث في تلك المباراة، وما جرى بعدها سواء أكان ذلك كانعكاس مباشر لأحداثها أم غير مباشر.
نظراً لأنني في وضع لا يمكنني من السيطرة على المفاهيم والمصطلحات الرياضية.. ونظراً لأنني أرى بأن الرياضة تعني الأخلاق، بل أن الرياضة هي روح الأخلاق وجوهرها، فعندما نريد امتداح أخلاق شخص نقول عنه بأنه "يتحلى بروح رياضية".. ونظراً لأننا بحاجة لأن نرفع صوتنا عالياً في وجه كل من يخرج عن القانون، أو الأعراف، أو المثل، أو القيم، أو الأخلاق الحميدة بخاصة أخلاق المضيف وأخلاق الضيف.. نظراً لهذا كله، مما ذُكِرَ ومما لم يُذكر، فإن هناك مجموعة من الحقائق التي لا بد من تذكير من نسيها بها، وتكرارها أمام من يتذكرها ولم ينسها بعد. تلك الحقائق التي علينا أن نتحلى بالروح الرياضية في الاعتراف بها، والتعاطي معها كمكونات أساسية من مكونات شعبنا وتاريخه، منها:
1. أن أخلاق شعبنا، عبر التاريخ، والتي تناقلناها كابراً عن كابر لا تبيح، بأي شكل، ترويع الضيف أو عابر السبيل أو من ينشد الأمان.
2. لم تكن الرياضة، عبر تاريخنا الوطني، إلا عنواناً لتبادل المحبة والمودة، والتعارف.. فالرياضي هو سفير دولته، أو مدينته، أو بلدته، وحتى أنه يعتبر سفيراً لأسرته؛ لأنه يعكس تربيته على كافة المستويات.
3. إن ممارسة الرياضة، بكافة أشكالها، هو تعبير عن إنسانية الإنسان، فهي التي تدربه على الصبر، واحترام الآخر(الذي يسمى هذه الأيام بالخصم!!!) والاعتراف به "نداً"، والاعتراف بانجازاته التي يحققها بجده وجهده وبما يمتلك من مهارات يتفوق بها علينا، ولعلنا نذكر بأن من الأخلاق الرياضية أن نهنئ من فاز علينا.
4. أن يترفع الكبار عن صغائر الأمور وتوافهها لكي يحفظوا لأنفسهم صفة (كبار). وبغير ذلك، أي إذا أصبح الكبار صغاراً والصغار صغاراً، فإنها ستكون الطامة الكبرى التي تجعلنا ممن قال عنهم الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جُهالهم سادوا
فعندما يقع الكرب ويحل البلاء، أياً كان شكله أو مستواه، فإن العقلاء والعقلاء فقط هم الضامن الوحيد للتخلص مما وقع.. أما أن يترك العنان للمزاجية، وردود الفعل أن تسوق الأحداث فهذا ما لا يمكن أن يؤدي إلى أي فائدة تُرتجى، وأن ثقافتنا التي تناقلناها عن الآباء والأجداد (والتي علينا أن ننقلها للأجيال القادمة) تُحَمِّلُ العقلاء كامل المسؤولية؛ فأمن الناس وأمانهم هو أمانة في أعناق العقلاء الذين عليهم أن يسهروا والناس نيام، وأن يجوعوا والناس شبعى، وأن يظمأوا والناس مرتوية.
5. على الصحافة بكافة أنواعها وأشكالها والصحافيين بكافة تصنيفاتهم وبغض النظر عن انتماءاتهم الاجتماعية أو السياسية أو الجغرافية..الخ أن يتمتعوا بالشفافية والنزاهة والحيادية في نقل الأخبار والأحداث وتصوير المشاهد بعيداً عن التحريض المؤدي إلى المزيد من تدهور الأوضاع. مع ضرورة الالتفاف إلى أن وسيلة الإعلام، وبمجرد أن نأخذ الترخيص الرسمي، لا تعود ملكاً خاصاً لمن رُخِّصت باسمه، وإنما هي ملك مجموع أبناء المجتمع وتكرس لخدمة الجميع.
6. إن السيارات والحافلات العامة والخاصة، والمؤسسات، والمنشآت، والطرقات، والشوارع ...الخ التي تقع خارج قبضة الإحتلال، والتي انتزعها شعبنا بعرقه ودمه ونمتلك السيطرة عليها (جزئياً أو كلياً) هي أمانة في أعناقنا، وليس لأيٍ كان سلطة التصرف الفردي المطلق بها إلا بما يوحد ولا يفرق، وبما لا يخرجها عن نطاق خدمة مجتمعنا الذي يتوق إلى حياة أفضل.. وعلينا أن نصونها ونرعاها، لأنها ليست ملك لفرد، أو حزب، أو مجموعة، أو عائلة، أو بلدة وإنما هي أمانة في أعناقنا علينا أن ننقلها للأجيال القادمة وهي في أبهى صورة، وبنفس المستوى الذي علينا أن نورثه لتلك الأجيال من قيمٍ، ومُثُلٍ عليا، وتفانٍ في خدمة الضيف، وما عليهم أن يتحلوا به من خُلُقٍ في حلهم وترحالهم.
بالرغم من الألم الذي تركته تلك الأحداث، إلا أن هناك ما يجب تسجيله لمن ترفّع عن صغائر الأمور، وداس على جراحه ليشكل نموذجاً في نصرة المظلوم حتى وإن كان "خصماً قبل حين".. كما يُسجل لشخصيات المحافظة والأجهزة الأمنية دورها في لجم الأحداث.. ومن جانب آخر، فإنه لا بد لنا أن نسجل على من لم يتعامل مع الحادث بموضوعية، ونزاهة، وشفافية أو مهنية تمكنه من قول الحقيقة كما هي دون مواربة، وبدون أن يكون جزءً أصيلاً من ظاهرة "عصيان الملاعب"، تلك الظاهرة التي أخشى أن تتسع إذا لم تجد من يقوضها ويجفف منابعها.
أما كيفية السيطرة على الحدث، لكي يتحول إلى درس نتعلم منه جميعاً، فهناك العديد من السيناريوهات، إلا أنني أرى بأنه، وإلى جانب ما تطبقه الأجهزة الأمنية من قوانين على الجميع، لا ضير من تشكيل لجنة تحقيق تتمتع بصلاحيات قول كلمة صريحة وواضحة في وجه المُخِلِّين بالأنظمة، والأعراف، والقوانين، واللوائح الرياضية والمجتمعية والوطنية. مع قناعتي التامة بأن محافظتنا العزيزة، بيت لحم، كما باقي محافظات الوطن، تمتلك من الرجال من يُشار لهم بالبنان والقادرين على التصرف بما يؤدي إلى لجم ظاهرة الاستهتار بالقيم التي تربينا عليها عبر الأجيال. كما أن بلدتي العبيدية والخضر تمتلكان من الرجال ما يكفي لـِ "لجم العبثيين"، وأن في كلتيهما من يتمتع بصفة "قول الحق ولو على نفسه".. بهذا، وبحكمة الحكماء، وحنكة المحنكين يصبح "عصيان الملاعب" أحداث يمكن السيطرة عليها وليست ظاهرة عصية على السيطرة.

البريد الالكتروني: [email protected]