د.أحمد يوسف
عندما يجمعك الحديث مع أحد شيوخ السلفية الجهادية، ويدور النقاش حول الممارسات الاستفزازية واللاإنسانية والجرائم التي ترتكبها عناصر الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش)، تجده يشير إلى انسجام ما يجري مع ما ورد من أحاديث الملاحم والفتن وعلامات آخر الزمان، وكأن قيام الساعة بات قاب قوسين أو أدنى!!
ومع أجواء الإثارة والفضول، التي تمنحها مثل هذه الأحاديث، تجد نفسك تحاول فهم مجريات الكوارث الحادثة في بلاد العرب والمسلمين، وإسقاطه على ما بين أيدينا من نصوص دينية، يبرع العقل – أحياناً - في تكييفها على واقعنا المأساوي اليوم، وكأنها هي المقدمات التي تحمل بشائر النصر وإرهاصات التمكين.!!
السؤال الذي يطرح نفسه داخل هذا السياق: هل هذا هو - فعلاً - زمن الملاحم الكبرى؟ وهل هذه المجازر التي يتم ارتكابها بحق الإنسانية في العراق، وما يجرى أيضاً في سوريا من إهلاك للحرث والنسل، وتدمير لتراث ومعالم قائمة منذ آلاف السنين، وتهجير للملايين من مواطنيها المسلمين، هو ما تقصده تلك النبوءات والأحاديث النبوية، التي يتداولها بعض وعاظ السلفية الجهادية؟! وهل ما يذكرونه من بشريات تتحدث عن أخبار مستقبلية كعودة الخلافة الراشدة، ينطبق حقيقة على ما يجري في بلاد الشام من ثورة وتطهير عرقي؟ وهل يمكن تقبل توصيف تلك المشاهد البالغة الفظاعة بما يراه دعاة السلفية الجهادية أنه سيتمخض عنه ما سينقل الأمة الإسلامية إلى مرحلة جديدة، وهو المقدمة لحصول الوعود الإلهية بالنصر والتمكين".!!
وحيث إن مثل هذه التفسيرات السطحية التي يوردها بعض شيوخ السلفية الجهادية، تتناول عالم الغيب بقليل من القراءة والتبصر لوقائع عالم الشهادة، فإن الواحد منا يعيش حالة من الحيرة وتقليب اليدين؛ لأن مآلات كل ما يجري لا تبدو فيها ملامح الخير والرشاد، بل هي الحالقة للدين ومكانة أمة المسلمين.
وإذا تتبعنا ما يجري – اليوم - على ساحتنا العربية والإسلامية، فلا نشاهد إلا صور القتل والدمار وبأساليب بربرية، والعرب والمسلمون يقاتلون ويُقتلون بأسلحة بعضهم البعض، وبثرواتهم وتحالفاتهم تمضي على رقابهم سيوف أعدائهم!!
إن كل أبعاد المشهد الإسلامي في ظل هذا التخبط والضلال، الذي نراه في ساحات الصراع التي تجري في سوريا واليمن وليبيا وحتى في مصر، لا تبعث في مجملها على التفاؤل والأمل، حيث دماء المسلمين هي التي تسيل أبطحاً، وبأيدي إخوانهم المسلمين، والكل - وهذا ما يثير الأسى - يذكر الله ويذبح!!
وبدل أن يتقدم الإسلام وينتشر في ربوع العالمين؛ باعتباره الرحمة المهداة والنعمة المسداة للبشر أجمعين، وتضيء مع إشراقته وتتلألأ شموع المسلمين، فإننا نجد أن الأمة الإسلامية - اليوم – هي على مسامع الناس وألسنتهم تقع في دائرة الاتهام والإدانة بالتطرف والإرهاب!!
السلفية الجهادية: تيار إسلامي تغذيه رغبات الانتقام
قبل الثمانينيات، لم نكن نسمع بمصطلح "السلفية الجهادية"، وإن كانت هناك تيارات سلفية توصف – أحياناً - بالغلوِّ والتطرف، ولكن بعد المواجهات المسلحة التي خاضها "المجاهدون العرب" مع السوفييت في أفغانستان، وما تبع ذلك بعد هزيمة الجيش الأحمر وانتصار الأفغان، حيث عاد الآلاف من هؤلاء المجاهدين العرب إلى بلادهم، فيما استقر البعض الآخر في معسكرات داخل أفغانستان للمساهمة في بناء الدولة الإسلامية الحديثة هناك، كما قام المئات منهم بشدِّ الرحال لنصرة إخوانهم المسلمين في البوسنة والهرسك، الذين كانوا يتعرضون لاضطهاد الصرب والكروات، وكذلك رحل بعضهم للقتال إلى جانب إخوانهم في الشيشان.
للأسف، لم تستقر الأحوال مع الكثير من هؤلاء المجاهدين، حيث طاردتهم الأجهزة الأمنية في بلادهم بالسجن والاعتقال، مما اضطر الغالبية منهم للعودة إلى أفغانستان، ولجأ البعض إلى الجبال كما شاهدنا في الجزائر ودول شمال أفريقيا بشكل عام، حيث خاضوا المعارك مع جيوش بلدانهم، وشكلوا تهديدات أمنية، عطلت الاستقرار والازدهار في تلك البلاد لسنوات طويلة.
كان أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وآخرون قد أقاموا لهم معسكرات تدريبية في أفغانستان، وتحولوا إلى بيئة حاضنة لكل من ضاقت عليه الأرض بما رحبت من هؤلاء المجاهدين، وبذلك تشكلت المجموعات الأولى لكل الراغبين في الانتقام من حكوماتهم وحكومات الغرب، التي خانت معهم العهد، فبدل أن تؤمن عودتهم، وتسهم في استقرار أوضاعهم وتأهيلهم لحياة حرة كريمة، تآمرت عليهم مع الطغاة من حكام بلادهم لاستئصالهم والخلاص منهم.
كانت رغبات الانتقام جامحة لدى هؤلاء الشباب الطيبين، وكان إحساسهم بخيانة الأمريكان لهم عميقاً، فبعد أن حسموا الحرب مع السوفييت بتضحياتهم ودماء إخوانهم، وعجلوا بانهيار إمبراطورتيهم العظمى، تخلى عنهم الأمريكان، بل وحرضوا عليهم – بنذالة - طغاة بلادهم!!
لذا، كانت الرغبة في الانتقام من أمريكا تتصدر قائمة الثأر لديهم، والتي لم تتأخر طويلاً، حيث كانت الضربة الأولى هي التفجيرات التي طالت برجي التجارة العالمي في منهاتن في 11 سبتمبر 2001م، والتي راح ضحيتها أكثر من 3000 من المدنيين.. بعدها، أعلنت أمريكا فتح باب العداء والحرب على الإسلاميين، وهذا ما استدعى تبادل عمليات القتل والهجمات بين أمريكا وما أصبح يسمى "تنظيم القاعدة"، الذي يقوده أسامة بن لادن.
ومع استهدافات القتل لعناصر هذا التنظيم، ومطاردة قياداته في كل مكان، أصبحت هناك حربٌ مفتوحة تجاوزت أمريكا إلى أوروبا، وخاصة من ظهر منهم في مشهد الصراع أنه قد اصطف إلى التحالف الأمريكي، كبريطانيا وفرنسا وإسبانيا.. وقد شاهدنا ما وقع من تفجيرات بمحطة القطارات في لندن بتاريخ 7 يوليو عام 2005م، وقبلها تفجيرات مدريد 2004م...الخ
لقد توسعت ساحات المواجهة بين تنظيم القاعدة والغرب، وبدأ الحديث عن وجود فسطاطين (كفر وإسلام) في تنظيرات أسامة بن لادن، الأمر الذي يعني أن المعركة ليس لها إلا وجهة واحدة يتوجب حسمها مع أمريكا والغرب؛ باعتبار أنهم من يقف خلف طواغيت الأنظمة العربية، وأن هزيمة هؤلاء الطواغيت لن تتحقق قبل تمريغ أنف أمريكا والغرب في التراب.
كانت أدبيات السلفية الجهادية؛ كفكر وممارسة، تشق طريقها بسهولة ويسر إلى أذهان شباب الأمة الذي تسوده البطالة، والمثقل بحالة من اليأس والإحباط، والمتمرد على كل ما قائم في عالمنا العربي والإسلامي من دكتاتورية وظلم واستبداد، لذا كان التجنيد والحشد يتم سريعاً لهذا التيار، الذي يرى فيه هؤلاء الشباب طوق الخلاص.
بالطبع، مع تنامي هذا التيار السلفي الجهادي، أصبحت هناك عناوين وقيادات تمثله، وقد نجح كذلك في استمالة بعض العلماء والرموز القيادية في دول الخليج، واستقطاب عددٍ منهم، والأمر الذي وفرَّ لهؤلاء الشباب المتحمسين في بلادنا العربية الثقة والقناعة بصوابية النهج وسلامة المنهج.
ومن الجدير ذكره، أن للتطورات الحاصلة في عالم الاتصالات (الانترنت) منذ مطلع التسعينيات دوراً كبيراً في إيجاد قنوات سهلة وآمنة للتواصل بين هذه المجموعات المحسوبة على تيار السلفية الجهادية، حيث أصبحت موسوعتها المعرفية والحركية لها مواقع وأعلام، وغدا "محرك جوجل" هو المفتاح لكل أسرارها ووسيلة التواصل الآمن بينها.
نعم؛ نجح تنظيم القاعدة في إشغال الغرب بما يسمى "الحرب على الإرهاب"، والتي أنفقت فيها مليارات الدولارات على بناء المنظومات الأمنية، وأشكال التنسيق المختلفة بين الدول الغربية وبعض الدول العربية، ولكن - للأسف - لم يتغير شيء، ولم تتوقف الحرب منذ الإعلان عنها عام 2001م، بل تعاظمت أعداد الضحايا من المسلمين والغربيين.
إن أشكال المظالم التي طالت الكثير من بلاد العرب والمسلمين، والتي كان الغرب وخاصة أمريكا تقف خلفها بشكل مباشر؛ كالحرب على أفغانستان والعراق، أو تلك التي تقع في دائرة التواطؤ، كوقفاته المساندة للدكتاتوريات في عالمنا العربي ضد الإسلاميين، هي التي حركت – بلا شك - تعاطف جالياتنا العربية والإسلامية هناك، ودفعتها لإظهار تنديدها بالسياسات الغربية، وشجعت بعض أبنائها للالتحاق بتنظيم القاعدة، والمشاركة باستهداف المصالح الغربية في عقر دارها.
وإذا أضفنا لكل ما سبق ما يجري على أرض فلسطين، حيث يقوم الغرب بإمداد إسرائيل؛ الكيان الغاصب، بكل أسلحة القتل والدمار، ويتغاضى عما ترتكبه من جرائم حرب وجرائم بحق الإنسانية، بل يدافع عنها في المحافل الدولية، فيما آلاف الفلسطينيين يقتلون ببشاعة، ويتم تدمير بيوتهم فوق رؤوسهم خلال حروب عدوانية ثلاث وبشكل بالغ الهمجية والوحشية، والحصار يضرب أطنابه على قطاع غزة منذ ثماني سنوات، فيما الاعتداءات على المزارعين والآمنين في الضفة الغربية لا تتوقف، كما أن عمليات التهويد طالت مقدسات المسلمين، وامتهان متعمد يمارسه المستوطنون لكل ما هو فلسطيني في المدينة المقدسة، وتدنيس مقصود لباحات المسجد الأقصى، وكل ذلك يتم بحراسة شرطة وجيش المحتلين!!
هذه المشاهد تستفز المسلمين في كل مكان، وتجعل الدم ورغبات الانتقام تسري في عروقهم.. لذلك، فإن كل ما يحدث من عمليات تستهدف الغرب - وخاصة أمريكا - فإن إسرائيل ليست بعيدة عنها.
السلفية بين العراق وسوريا: ألغاز وتساؤلات
في الحقيقة، كان الغباء الأمريكي واضحاً في غزو العراق، وكان حجم القتل والدمار الذي لحق بهذا البلد المسلم، هو المدخل لتصاعد رغبات الانتقام من أمريكا وحلفائها الأوروبيين.. ومع فظاعة ما قام به الجيش الأمريكي في المناطق السنيِّة، والتواطؤ الذي ظهرت عليه بعض التيارات الشيعية هناك، فقد خرجت من رحم هذا القهر الذي كابده أهل السنَّة هناك مجموعات أبي مصعب الزرقاوي، الذي بايع تنظيم القاعدة، حيث كانت أولى معاركه تستهدف الأمريكان، ثم دخلت مجموعاته في مواجهات مسلحة مع بعض الجهات الشيعية هناك.
من وسط هذه الأجواء المأساوية، وبتلاعب أمريكي استخباراتي ماكر، ولاعتبارات هدفها استكمال تدمير المنطقة العربية، واستنزاف ثرواتها، وخلق العداوات بينها.. وبعد تصفية أبي مصعب الزرقاوي، تمَّ توظيف بعض هذه المجموعات الإسلامية، وتوجيهها للمشاهد التي نراها في العراق وسوريا، حيث إن (داعش) أو (الدولة الإسلامية) أصبحت أداة في يد الغرب، وأن مشروعها الجهادي في العراق وسوريا أصبح موضع تساؤل، ويثير الكثير من علامات الاستفهام والتعجب.
السلفية الجهادية إلى أين؟
في ظل واقع الخوف والجنون الذي يعيشه العالم، والتهديدات المفتوحة التي يشكلها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) للبشرية جمعاء، والتي تغذي رغباتها في الانتقام حماقة الغرب وسياساته الظالمة في منطقتنا العربية والإسلامية، والتي هي بحاجة إلى مراجعات ومقاربات جديدة ليتوقف مسلسل القتل والاستهداف الذي يطال الأبرياء بلا رحمة ولا هوادة؛ سواء أكانوا مسلمين أو غير ذلك من شعوب العالمين.
إن هناك مواقفَ وسياسات يتحمل الغرب مسئوليتها، وهي التي تغذي مثل هذه الظواهر من التطرف والإرهاب، وتدفع الشباب للحاق بمثل هذه التنظيمات وتبني أفكارها ومجاراة حالات الجنوح والغلوِّ التي تدعو لها.. نعم؛ هناك مسئوليات تقع على عاتق البعض منا في الحركة الإسلامية، وتتطلب تهذيب أساليب الدعوة، ومراجعة النظر تجاه الآخر، والرد على أولئك الذين نبشوا بطون الكتب القديمة ليخرجوا لنا أحاديث الملاحم بعدما اعتقدنا أنه قد طويت صفحاتها بعد هزيمة الصليبيين وانتصار صلاح الدين، وبعدما حدث التمكين للمسلمين وظهورهم كخلفاء فيما زهى من عهود.
إن تحجيم ظاهرة التطرف والغلوِّ لدى السلفية الجهادية لن يتم بالقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بل بالعمل على تفهم أصل الظاهرة والعمل على استئصال كل بواعث وعوامل تمددها وانتشارها السريع بين الشباب.
إن هناك – بلا شك - الكثير مما هو مطلوب العمل به، وتتوزع فيه المسئولية على الجهات الثلاث الآتية:
أولاً) الغرب:
- يتوجب عليه التكفير عن السياسات الظالمة تجاه عالمنا العربي والإسلامي، وأن يتم تبني مواقف حقيقية لدعم المسار الديمقراطي بالمنطقة وحماية حقوق الإنسان.
- العمل على إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، والابتعاد عن دعم المواقف المؤيدة لإسرائيل.
- عدم الوقوف خلف الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي، والتصدي لمظاهر القهر والاستبداد الطاغية فيها.
ثانياً) الأنظمة العربية:
- الانفتاح على التيارات الإسلامية المعتدلة، واحترام معتقدات الأمة وتشريعاتها الدينية.
- احترام الحريات الإنسانية، والعمل على إشراك الإسلاميين في الحكم.
- السماح بالتعددية السياسية، واعتماد مبدأ الانتخابات والتداول السلمي للسلطة.
ثالثا) الإسلاميون:
- تقديم أدبيات ومناهج فكرية تعتمد الوسطية والاعتدال في الرؤية الإسلامية.
- إظهار رفضهم الواضح والصريح للفكر المتطرف الذي تقوم عليه رؤية تنظيم الدولة (داعش) في الفكر والسياسة.
- الحث على قيام المزيد من الحوارات بين الثقافات والأديان، بهدف تعزيز أدبيات التواصل والتسامح والقيم الإنسانية، وتبادل العمل في مساحة المشترك بين كل المرجعيات الدينية في العالم.
ختاماً: لا بدَّ من عمل
بصراحة أقول: لن تُجدي محاولات القضاء على تنظيم الدولة (داعش) عسكرياً، حتى ولو قامت الحرب العالمية الثالثة؛ وتجربة تنظيم القاعدة ما تزال ماثلة أمامنا، لأن أصحاب العقائد لن تهزمهم أدوات القتل والتدمير وحدها، بل تزيدهم تطرفاً ووحشية، ورغبة أكبر في الثأر والانتقام، ولو بعد حين.. إن الذي يستطيع مغالبة الفكر الداعشي هو الفكر الإسلامي المعتدل، هو المنهج الوسطي، الذي تمثله تيارات مثل جماعة الإخوان المسلمين وجماعة التبليغ والسلفية العلمية.
وحتى يتمكن هذا المنهج الوسطي المعتدل من النجاح، وإقامة موازينه، وبسط فسطاطه على الكل الإسلامي، فإنه يجب على الغرب التوقف عن دعم الأنظمة الطاغوتية، والعمل على تعزيز أساليب الحكم الديمقراطي، وأن يضع حداً للعدوان الإسرائيلي، وأن يجد حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية، وإلا فإن كل الخيارات الأخرى هي مجرد استمرار لسياسة المراوحة في المكان، وانتظار أعمال إرهابية أخرى كتلك التي حطت رحالها - مؤخراً - في باريس.