الإسلاميون في مشهد الحكم والسياسة: بين الرفض والقبول
حوارات وتساؤلات حول الدولة المدنية والحريات السياسية والمواطنة وتطبيق الشريعة- د.أحمد يوسف
كشفت وقائع الربيع العربي أو ما ظهر من تحركات باتجاه النهوض وتطلعات التغيير والإصلاح بالمنطقة، أن الشارع العربي برغم رغباته الجامحة للإطاحة بالأنظمة الدكتاتورية، والتخلص من كافة أشكال الظلم والاستبداد السياسي، التي أناخت على رقاب شعوب أمتنا العربية لأكثر من نصف قرنٍ من الزمان، أن الشارع كانت له تحفظات تجاه وصول الإسلاميين إلى سدَّة الحكم والرئاسة، ولم يكن هناك تسليم مطلق لوجودهم في مشهد السياسة واتخاذ القرار، والدليل على ذلك هو سرعة التفاف المعارضة وأجهزة الدولة العميقة بتطويقهم، وتحريك الدهماء – بقوة - للخروج عليهم، وقطع الطريق أمام فرص التمكين لهم، وإظهارهم من خلال الماكينة الإعلامية كعجزة فاشلين.
من المؤسف أن الشارع العربي لم يتحرك دفاعاً عن حقهم في استكمال سنوات وجودهم في الحكم، بل أسهم في بعض البلدان بالتعجيل بإسقاطهم، أو التزم الصمت عند محاولة الانقلاب عليهم، وهنا السؤال المثير للاستغراب والتساؤل وبيت القصيد: لماذا؟
الإسلاميون والحكم: السؤال المشروع والإجابة المطلوبة
إن حجم الحراك الذي استعر مع الربيع العربي، وما تزال تداعياته قائمة، وما تمخض عنه من نتائج محصلتها الميدانية – من وجهة نظر البعض - هي فشل أصحاب المشروع الإسلامي، وإخفاقهم في بلوغ الغايات وتحقيق الأمنيات التي بشروا بها منذ قرابة ثمانين عاماً، أي عندما تهاوت دولة الخلافة العثمانية في عام 1924م، وتأسيس حركة الإخوان المسلمين في العام 1928م على يد الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله).
إن السؤال حول أسباب تعثر الإسلاميين وتراجع مشروعهم يبقى مشروعاً، ويتوجب البحث عن إجابة مقنعة له، وهذا هو بمثابة "واجب الوقت" الملقى على عواتقهم؛ من حيث ضرورة إعمال الفكر، وإمعان النظر، وإجراء المراجعات، بهدف الوصول إلى سرِّ اللغز، ومعرفة الدواعي خلف ذلك، وكيفية تلافي ما سبق وقوعه من أخطاء، ثم العودة بمظهر جديد في الفكر والسياسة، والممارسة والسلوك، يستوعبه الشارع، ويتقبله الجميع.
إن حجر الزاوية وبيت القصيد من وراء هذا النقاش، هو مدى أهلية التيارات الإسلامية، وخاصة الإخوان المسلمين؛ باعتبارهم كبرى الحركات الإسلامية في الوطن العربي ومنطقة الشرق الأوسط، لإمكانية إحداث الإصلاحات التي تتطلع لها شعوب أمتنا العربية من المحيط إلى الخليج.. إن تجربة الإسلاميين القصيرة في الحكم، بالرغم من إدراكنا لحجم الاستهداف والتآمر عليها، لم تقدم ما يوفر لجماهير الشارع العربي القناعة بأهليتها، ويمنح هذا الشارع من التطمينات الكافية التي تبعث فيه التسليم بقبول خياراتها في إدارة شؤون البلاد والعباد، كما أن الكثير من الأسئلة التي تطرحها الجماعة الوطنية لم تتلق عنها إجابات، بحيث تعكس وجود وحدةٍ للموقف، ووحدةٍ لروح الفهم بين الإسلاميين؛ سواء أكانوا يمثلون الإخوان المسلمين أو نظراءهم من السلفيين.
لذا؛ وفي سياق هذه المخاوف التي تنتاب جماهير الشارع من الإسلاميين، فإنني أعرض لبعض القضايا التي تحتاج من الإسلاميين إجابات شافية، ويتوجب عليهم توضيح الموقف منها، استناداً لما هو متاح من أفكارٍ في أدبياتهم أو في مجال الممارسة السياسية القائمة، كما هو الحال – مثلاً - في تركيا والسودان.
لا شك أن تجربة تركيا أردوغان في التغيير والنهوض بالبلاد خلال اثنتي عشرة سنة هي محط احترام الشارع العربي والإسلامي وتقديره، أما ما نشاهده في السودان بالرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود على "مشروع الأسلمة" هناك، فهو – بصراحة- لا يمنح الاطمئنان، ولا يبعث على التشجيع والقبول بين الناس.
التجربة المصرية: مشاهد تستدعي الجدل
على إثر اللغط والمناكفات السياسية التي وقعت في مصر بعد فوز الإخوان المسلمين في الانتخابات، ووصول الرئيس محمد مرسي إلى كرسي الرئاسة، انشغلت ماكنة الدعاية الإعلامية للتحريض على الإخوان والتشهير بهم، والعمل على تشويه صورتهم داخل الشارع المصري، وتحميلهم من الاتهامات ما تنوء به كواهلهم، برغم غياب الأدلة والبراهين على كل ما أوردته تلك الماكنة الدعائية من مزاعم واتهامات.
نعم؛ لقد أخطأ الإخوان في بعض المواقف، ولم يُكتب لهم التوفيق في جملة من الاجتهادات، وتعثرت ممارساتهم ومساعيهم في كسب بعض القوى السياسية من الليبراليين واليساريين، ولكنهم – وهذه حقيقة - لم يقدموا للبسطاء من الناس ما يشي بأن "الإخوان المسلمين" هم طوق الخلاص لمصر من أزماتها الاقتصادية، ومشاكلها الاجتماعية والأمنية، وظلت المؤشرات وَفق معطيات جماهير الشارع وبعض نخبه الفكرية والسياسية هي في غاية السلبية والقلق، وأوحت بأن قدر الشعب؛ المتشوق لسرعة الإصلاح والإنجاز، هو التريث والانتظار؛ وربما الانتظار والانتظار الطويل؛ لأن حجم الأعباء كان أكبر مما يمكن أن تتحمله كواهل الإخوان المتعبة من سنوات المحنة وعهود الابتلاء، خلال صراعهم الطويل مع ما سبق من الأنظمة والحكام.
الإخوان المسلمون: محاولات متأخرة للتحرك وتقديم إجابات
لم يفطن الإخوان المسلمون في مصر لحجم الماكينة الإعلامية التي تستهدفهم، وقدراتها الرهيبة على التحريض، وظل اعتمادهم بالدرجة الأولى على قناة (مصر 25)؛ وهي فضائية ناشئة، بإمكانات محدودة وخبرات متواضعة، وأيضاً على فضائية الجزيرة، وهي وإن كانت فضائية عملاقة على مستوى العالم، إلا أنها من ناحية التأثير داخل الساحة المصرية، وخاصة خارج القاهرة والإسكندرية، تبقى محدودة الانتشار والجاذبية، قياساً مع حجم القنوات الإعلامية المصرية المتعددة البرامج والمسلسلات، والتي يصل إرسالها إلى كل الأرياف ومدن الصعيد.
لم يتمكن الإخوان من خلال إعلامهم المتواضع على حشد الشارع المصري، وتعبئته بكفاءة حول خطابهم السياسي، ولم ينجحوا في التغلب على حملات التشهير، والرد عليها بالكفاءة والمهنية المطلوبة، وبالتالي تراجعت حظوظهم في توفير حاضنة شعبية تدافع عن رؤيتهم في مشهد الحكم والسياسة.
كانت النخبة المصرية من المعارضين للتيار الإسلامي؛ وخاصة من الليبراليين وقوى اليسار، تعمل بشكل متسارع للتخويف من الإسلاميين، وطرح كل الشكوك حول مشروعهم في الإصلاح والتغيير للتنفير منهم، وحيث إن معالجات الإخوان لما تمَّ إثارته من قضايا وهموم ليوميات الناس ومشكلاتهم المزمنة لم تكن واضحة، وأحياناً غير مقنعة، لذا لم يتمكنوا من تغليب روايتهم، وتثبيت أركانها في ذهنيات الشارع المصري.
وفي محاولة متأخرة للصحوة والاستدراك، تحرك بعض شيوخ الإخوان ومفكريهم للرد على الكثير من تلك التساؤلات، والتي تناولتها وسائل الإعلام المغرضة، وتسببت في إرباك حسابات الشارع المصري، حيث قام الشيخ عصام تلِّيمة؛ أحد الشخصيات الإخوانية الأزهرية، في كتابه الموسوم: "الخوف من حُكم الإسلاميين"، بتناول موقف الإسلام والإسلاميين من الدولة الدينية والمدنية، والموقف من تطبيق الشريعة الإسلامية وتوضيح مكانة الحدود منها، إضافة إلى موقف الإسلام من الحقوق السياسية لغير المسلمين، والمبدأ الإسلامي من قضية المواطنة، وأيضاً موضوع الإسلاميين من الحريات السياسية...الخ
وقد عرض الشيخ عصام تلِّيمة جملة من المبادئ اعتبرها مهمة، قبل الحوار والإجابة على ما تقدم من تساؤلات، وقد تمثلت في الآتي:
1- من حق كل متخوف أو متوجس من تيار ما أن يبادر بالسؤال والاستفسار، فهو حق مشروع، على أن يكون التساؤل مشروعاً من الطرفين، ومتحلياً بأدب الخلاف الفكري، وليس اتهاماً أو تجريحاً، ونيلاً من طرفٍ لحساب طرف.
2- لن ترشد تجربة بين يوم وليلة، فنحن على مشارف تجربة سياسية جديدة .
3- بالنقاش والحوار تحل المشكلات، لا بالتخوين والتفزيع، وعلى الجميع أن يتسع صدره للآخر، وألا تضيق صدورنا بما لدى الآخرين من تساؤلات وحوارات ونقد.
4- نحن جميعاً أبناء وطن واحد، فلا مزايدة على حب فصيل للوطن أكثر من فصيل آخر، ولن يستطيع فصيل مهما كانت قوته وحجمه أن ينهض بحمل عبء الوطن وحده، مهما خلصت النيات، وصحت العزائم لديه...
5- كلنا كنا في حالة سياسية واجتماعية وثقافية لم تكن صحية بالمطلق، والكل ينادي بالتغيير والإصلاح.
لا شكَّ أن هذه النقاط – من وجهة نظري - تشكل مدخلاً حميداً، ومجالاً حيوياً لفتح النقاش مع الآخر؛ سواء أكان مناصراً أو خصماً عنيداً، وهي بمثابة نهج الحكمة لمدلول (تعالوا إلى كلمة سواء)، والتي إذا أحسنّا التأسيس عليها، يمكننا بعد ذلك بناء قاعدة التفاهمات التي تقودنا إلى تحقيق تطلعات الوطن في الإصلاح والتغيير، وَفق نظرية: ثورةٌ جاء بها الجميع، وينهض بتثبيت أركانها الجميع.
الدولة الدينية: موقف الإسلاميين بين الفقه والسياسة
أوضح الشيخ تلِّيمة في كتابه المشار إليه، أن موقف الإسلاميين لا يختلف عن موقف الإسلام من رفض الدولة الدينية؛ بل إن الدعوة للدولة المدنية، القائمة على الشورى والعدل، هو ما أجمعت عليه آراء العديد من المفكرين الإسلاميين، أمثال: الشيخ محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي، والشيخ عبد الرازق السنهوري، والإمام حسن البنَّا، والقاضي عبد القادر عودة، والشيخ يوسف القرضاوي، والأستاذ محمد عمارة، والدكتور محمد سليم العوا، والأستاذ فهمي هويدي، والدكتور سعد الدين العثماني، والدكتور أحمد الريسوني وآخرون، والتي تتلخص في الرأي الآتي: إن دولة الإسلام ليست دينية؛ بل هي دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية.
وكان إجماع الموقف من موضوع الدولة المدنية هو ما عبر عنه الشيخ القرضاوي؛ فقيه هذا الزمان، حيث أشار بالقول: "إن الدولة التي يبنيها الإسلام هي دولة مدنية، مرجعها الإسلام، وإنها ليست دولة دينية أو ثيوقراطية تتحكم في رقاب الناس أو ضمائرهم باسم الحق الإلهي، ليست دولة الكهنة أو رجال الدين الذين يزعمون أنهم يمثلون إرادة الخالق في دنيا الخلق أو مشيئة السماء في أهل الأرض، فما حلُّوه في الأرض فهو محلول في السماء، وما عقدوه في الأرض فهو معقود في السماء.!!".
من هنا، يتوجب التأكيد بأن هذا الوضوح في قول الشيخ القرضاوي ينبغي أن يتم تأصيله في أدبيات الإسلاميين على مستوى القواعد؛ لأن حالة الالتباس وغياب الوضوح، سوف تؤدي إلى إرباكٍ وتشويشٍ وفهمٍ مغلوط، ليس عند جمهور الإسلاميين فقط، بل أيضاً لدى جمهور الشارع وخاصة بين أولئك المتوجسين من كل ما هو إسلامي؛ عمامة أو مئذنة.
تطبيق الشريعة وإقامة الحدود: الرؤية وواقع التجربة
عندما جاءت حركة حماس إلى الحكم كان السؤال الذي طاردنا من الشارع طوال الوقت: هل أنتم عازمون عل تطبيق الشريعة الإسلامية؟ ثم كان السؤال الذي أورده الكثير من الإسلاميين: متى ستعملون على تطبيق الشريعة الإسلامية؟
كانت الإجابة التي تعاطينا بها مع الجميع: إننا لسنا دولة، نحن شعب تحت الاحتلال، وعندما يتحقق الاستقلال يصبح مثل هذا السؤال مشروعاً، أما الآن فهو مشروع فتنة.
واليوم مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والحديث عما يسمى بدولة الخلافة، وما شاهدناه من أفعال همجية وأعمال تخريبية مستفزة، نبرأ منها، ونحمد الله أن ما قاموا به لا يمت بصلة لما ننادي به لشكل الحكم، والذي نتطلع إليه في بلادنا الإسلامية.
في عالمنا العربي ومنطقتنا الإسلامية هناك عدة نماذج لأشكال الحكم التي توسم أنظمتها السياسية بأنها إسلامية، كالسعودية والسودان وإيران، وهناك بلدان أخرى يقوم على مشهد الحكم والسياسية فيها أحزاب وشخصيات إسلامية، مثل: المغرب وتركيا وماليزيا وإندونيسيا...الخ
تاريخياً، كانت مسألة تطبيق الشريعة، وفي القلب منها إقامة الحدود، هي المدخل للتشهير بالإسلاميين والتحريض ضدهم، إذ سرعان ما تقفز قضية الرجم وقطع يد السارق لتتصدر مشهد التنفير من الإسلاميين والتخويف منهم. في حين يعلم كل من له دراية بالدين الإسلامي أن الشريعة لا تعني الحدودَ وحدها، والحدود لا تمثل نسبتها في الإسلام أكثر من 2%، فالإسلام عقائد؛ من إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والإسلام أيضاً عبادات؛ صلاة وصيام وزكاة وحج، وهو كذلك أخلاق ومعاملات.. فالإسلام كلٌّ لا يتجزأ، واختزال الشريعة الإسلامية في الحدود مخلٌّ بحقيقتها، وإساءة لهذا الدين ولرسوله، الذي بُعث رحمة للعالمين.
إن من المعروف في ديننا، أن الحدود هي آخر ما استقر عليه التشريع الإسلامي وليس أول ما بُدأ به، فلم يبدأ التشريع بجلد الزاني، ولا بقطع يد السارق؛ بل كانت الأولوية لتحقيق الأمن والشبع، (فليعبدوا ربَّ هذا البيت، الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف).
هذه المسألة يتوجب أن تكون مفهومة وواضحة لدى كل الإسلاميين وقبل غيرهم؛ لأن ما يترتب عليه هذا الفهم، ينعقد عليه التصور وأسلوب الحكم، حيث إن فهم الشيء هو جزء عن تصوره، ومشاهدتنا لبعض التيارات السلفية، ولغتها الدعوية، وشكل الممارسة والتطبيق الذي يعاينه المتربص لأفعال البعض منهم، وخاصة ما يجري في العراق وسوريا، وتظهيره بأساليب مفزعة، بهدف التشهير بالإسلاميين عامة والتحريض عليهم، يتناقض مع الحديث النبوي "ادرأوا الحدود بالشبهات".
الإسلاميون والمواطنة: التعايش والقبول
جاء الإسلام إلى الحياة فوجد فيها الناس – من حيث الدين – قسمين: أهل كتاب، ومشركين يعبدون آلهة من دون الله. وكان أن عقد الرسول (صلى الله عليه وسلم) مع أهل الكتاب وثيقتين، ملخصها: "وإنه من تبعنا من يهود/نصارى، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم"، وهكذا نرى أن الإسلام قد اعتبر أهل الكتاب الذين يعيشون في أرجائه مواطنين، وأنهم أمة من المؤمنين، طالما كانوا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم، حيث إن اختلاف الدين ليس – بمقتضى أحكام الصحيفة – سبباً للحرمان من مبدأ المواطنة. كما عملت هذه الوثيقة؛ وثيقة يهود المدينة ووثيقة نصارى نجران، على استبدال مفهوم الفرقة والصراع بين الشعوب والقبائل؛ بمفهوم الأمة القائم على الوفاق والتعايش مع حفظ الخصوصيات، حيث تكوَّن لأول مرة في المدينة مجتمع تتعدد فيه علاقات الانتماء إلى الدين والجنس، ولكن تتوحد فيه علاقة الانتماء إلى الأرض المشتركة، وهي أرض الوطن.
وقد قام الأستاذ الشيخ راشد الغنوشي بتوضيح هذا المعنى بالقول: "إن الصحيفة نصَّت على أن "اليهود أمة والمسلمين أمة"؛ أي أمة العقيدة، وأن "المسلمين واليهود أمة"؛ أي هي أمة السياسة أو المواطنة بالتعبير الحديث، وهذا معناه أنهم شركاء في نظام سياسي واحد يخولهم حقوقاً متساوية، باعتبارهم أهل كتاب وأهل ذمة. باختصار: هم مواطنون حاملون لجنسية الدولة المسلمة من غير المسلمين، وقد قال عنهم أحد أكبر أئمة الإسلام الخليفة الراشد الرابع علي (رضي الله عنه): "إنما أعطوا الذمة ليكون لهم مالنا، وعليهم ما علينا".
إن الحُكم هو عقد بين الأمة والحاكم، وأن العقد شريعة المتعاقدين، وقد كان عقد الأمة الإسلامية منذ قيام دولة الخلافة: أن يكون الحاكم مسلماً، وارتضت ذلك الأمة بكل أطيافها، ثم سقط هذا العقد بسقوط الخلافة الإسلامية، حيث وقعت الكثير من بلاد المسلمين في قبضة المستعمرين، وتعاون على تحريرها كل سكانها الأصليين؛ المسلمون وغير المسلمين، وحلَّ بذلك تعاقد جديد من العلاقة قائم على مبدأ المواطنة، والذي يعني المساواة بين أفراد الدولة ومواطنيها جميعاً، مهما اختلفت انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو السياسية.. إن هذا المبدأ يوجب علينا اليوم – كما أشار الشيخ عصام تلَّيمة - هو بناء دولة المؤسسات، التي يصبح فيها الحاكم مجرد منفذ للدستور، وحامياً للقانون، وحارساً للقيم، ولا يتعدى كونه يملك ولا يحكم.
في الحقيقة، لقد قام الأستاذ الشيخ الغنوشي، مستفيداً من واقع غربته في بريطانيا لأكثر من ربع قرن، بتناول مفهوم المواطنة في كتابه "الحريات "العامة في الدولة الاسلامية"، حيث قدَّم تصوراً للمشروع الإسلامي في مجال الحريات العامة، واعتمد في محاولة صياغة النموذج الإسلامي في الحريات العامة منهج استيعاب الفكر والنموذج الغربي الليبرالي وإنجازاته في حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات، واستيعاب الفكر الإسلامي المستمد من الكتاب الكريم والسنة النبوية والتاريخ والتراث الإسلامي، والذي قدم نموذجاً فريداً مبتكراً؛ "الخلافة الراشدة"، ثم حدث تراجع وجمود أوقف استيعاب الفكر الإسلامي ومسايرته للتطور البشري.
ثم يحاول أن يقدم التصور الإسلامي في القضايا المستجدة والأوضاع الحديثة التي لم يستوفها الفكر السياسي والإسلامي، وذلك بمحاكمة الفكر والمبادئ الغربية، وتوظيف النصوص الإسلامية والتراث، واستخلاص مواقع الاختلاف والاتفاق، واقتراح مواقف ورؤى وتصوّرات كانت في بعض الأحيان جديدة أو مخالفة لتيار عام جرى تداول فكره وأدبياته، والتعامل معها على أسس من القداسة الشرعية.
وناقش الأستاذ الشيخ راشد الغنوشي أدلة تقليدية جرى استخدامها لاستخلاص أحكام ومواقف ظلت موضع احترام وتقديس لدى غالبية الحركات الإسلامية والمسلمين بعامة، وذلك برد هذه الأدلة إلى السياق العام للشريعة الإسلامية ومقاصدها، ووضعها في إطار أدلة وشواهد ونصوص أخرى، معتبراً أن أسلوب التجزئة ونزع الأدلة من سياقها العام يفسد مدلولها، ويجعلها مناقضة للإسلام ومبادئه العامة.
وفي إحدى اللقاءات الخاصة في استانبول عام 2011م، تحدث د. أحمد داود أوغلوا؛ وزير الخارجية آنذاك، مشيراً للشيخ راشد الغنوشي ومشيداً به، بالقول: "لقد تعلمنا الكثير من كتابك، واسترشدنا ببعض نصوصه في أدبيات حزب العدالة والتنمية، لقد كنت أستاذاً لنا".
أما الأستاذ فهمي هويدي؛ الكاتب الإسلامي المعروف، فقدم من خلال كتابه الموسوم: "مواطنون لا ذميون"، معلماً آخر في إضاءة الطريق أمام أبناء هذه الأمة؛ مسلمين وغير مسلمين، ليتبينوا بوعي موضع خطاهم، ويلملموا شتات جهودهم المبعثرة، وطاقاتهم المهدورة، تكريساً لأواصر المودة والرحمة، وانطلاقاً نحو مستقبل يسع الجميع، ويسعد فيه الجميع .
وكما أشار الشيخ حسن الصفار في كتابه (الحوار والانفتاح على الآخر)، بأن أخطر شيء على وحدة الأوطان ومصالحها، أن تتضخم الانتماءات الأخرى: كالدين، والمذهب، والقبيلة، على حساب الانتماء للوطن، فتنظر كل جهة للجهات الأخرى عبر دائرة انتمائها الخاص، وهنا تضيع المصلحة العامة، وتضعف وحدة المجتمع. ولمواجهة هذا الخطر لا بدَّ من وجود وعي وطني، ومساواة حقيقية بين جميع المواطنين، ولعل هذا هو الهدف الذي كانت ترمي إليه "صحيفة المدينة"، أي إقرار صيغة تعايش بين مواطنيها من المسلمين واليهود، على أساس العدل والانصاف.
على أرض فلسطين: التعددية الدينية وانعكاساتها السياسية
إذا حاولنا تناول كل ما سبق من مفاهيم، وإسقاطها على واقعنا السياسي في فلسطين، فإنه يتوجب علينا الوعي بأننا جميعاً - مسلمين ومسيحيين – في شراكة حقيقية؛ قدرنا واحد، ومصيرنا واحد؛ فإما أن ننهض معاً أو نسقط معاً، فلا كرامة ولا أمن ولا قيامة لوطن إذا شعر جزءٌ من أبنائه بالتمييز وبأن حقوقهم منقوصة فيه.
ومن الجدير ذكره، أن العرب بمختلف انتماءاتهم الدينية – وخاصة المسلمين والمسيحيين– قد تعايشوا تاريخياً على أرض فلسطين؛ مهد الرسلات السماوية الثلاث؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، على مدار آلاف السنين، وكانت تسود علاقاتهم - في معظم تلك الفترات - أجواء التفاهم والتسامح والمحبة والمساواة، وكانت المواطنة هي الناظم لشكل الحقوق التي يتمتع بها كلٌّ منهم، وواجباته تجاه الوطن.
وفي ظل واقع احتلالي بغيض، سيظل المكر السيء يدفع في اتجاه خلق فتنة بيننا وبين إخواننا في الوطن وشركائنا في الوحدانية، ليستنزف طاقاتنا جميعاً، ويجرنا – بخبث - إلى ساحات التحامل والعداء والكراهية.. فبدل أن تتوحد جهودنا على مواجهة ذلك المحتل الغاصب، سوف ينشغل كلٌّ منا بالتجييش والإعداد للدخول في معارك جانبية لإضعاف الآخر وسلب مقامه ومواقفه، والمستفيد - طبعاً - من وراء كل تلك المعارك المفتعلة والدماء المهدورة هو الاحتلال نفسه.
لقد تعلمنا من دروس التاريخ، أننا بالحوار سوف نقطع الطريق على كيد المحتل ومكره، وبالتسامح والتصافي وتقديم كل منّا خطوة حانية وصادقة تجاه الآخر، سوف نحقق الوصول - بنجاح - إلى نهاية الطريق، وبلوغ الغاية التي نرجوها في إقامة مجتمع تسوده المحبة وتربط بين أهله قواعد العيش المشترك، وخاصة بيننا وبين إخواننا المسيحيين، الذين تعايشنا مجتمعياً معهم على ثقافة "إن لهم في هذا الوطن ما لنا، وعليهم ما علينا".
الإسلاميون: الحرية والتعددية السياسية
إن ما يراه مفكرو المدرسة الوسطية هو جواز التعددية السياسية بإطلاق، سواء كانت أحزاباً إسلامية أم غير ذلك (علمانية؛ ليبرالية أم يسارية)، ومن هم على هذا الرأي الشيخ راشد الغنوشي؛ زعيم حركة النهضة التونسية، حيث أشار في ندوة صحفية عام 1981م، قائلاً: "نحن لا نعارض البتة أن يقوم في البلاد الإسلامية أي اتجاه من الاتجاهات، لا نعارض البتة قيام أي حركة سياسية، وإن اختلفت معنا اختلافاً أساسياً جذرياً، بما في ذلك الحزب الشيوعي، فنحن حين نقدم أطروحتنا نقدمها ونحن نؤمن بأن الشعب هو الذي رفعنا للسلطة ليس إلا؛ لذلك ليس لنا الحق أن نمنع أي طرف من أن يقدم برنامجه.. وهذا الموقف هو منطق مبدئي إسلامي، أصولي شرعي، فنحن لا نعتبر المنع من حقنا أبداً، بل هو من حق الشعب، ولا خير فينا كطرف من جملة الأطراف السياسية إن لم نكن قادرين كغيرنا على الدفاع عن أطروحتنا وبرامجنا واختياراتنا، وإقناع غيرنا بها حتى تتبناها القواعد، سواء على مستوى المعارضة أو السلطة السياسية".
وقد أجازها كذلك د. محمد سليم العوا، حيث قال: " إننا لا نستطيع أن نمنع تياراً سياسياً قائماً في زماننا؛ علمانياً كان أم ماركسياً، لمجرد أنه يتعارض مع ما يتصوره البعض للإطار الإسلامي، إنما لنا أن نمنعهم فقط من هدم النظام الإسلامي، ثم لا نحجر على حرية أي منهم في الاختلاف والدعوة، وليكن صندوق الانتخاب هو الحكم بيننا".
وممن قال بنفس الرأي الشيخ يوسف القرضاوي، وكذلك د. سيف الدين عبد الفتاح والأستاذ فهمي هويدي.
باختصار: إن موقف الإسلاميين من موضوع الحريات هو القبول بالتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، وكذلك الحال من التعددية الدينية والقبول بمبدأ المواطنة، والذي يقوم على المساواة في الحقوق والحريات، عدا ما يعدُّ من خصائص كل منهم دينياً.
ختاماً: الرؤية ومفاتيح الخلاص لشعبٍ محتل
إننا كإسلاميين على أرض فلسطين، نعاني من الاحتلال والحصار، ولذا فإن السياسة والواجب الوطني تفرض علينا أن نعمل مع الجميع، وأن يشعر الكل بمختلف ألوانه السياسة وأطيافه الحزبية، وانتماءاته الدينية والعرقية، أننا نشكل "مثابة آمنة" له، وأن فهمنا قائم على احترام الجميع، وأننا نتطلع لشراكة سياسية وتوافق وطني، مع بالغ التقدير لخصوصيات الكل في الفكر والسياسة والأيديولوجيا.
وتأسيساً على ما سبق ذكره، نود الاستعانة بما أشار إليه د. سعد الدين العثماني؛ أحد قيادات حزب العدالة والتنمية المغربي، في كتابه الموسوم: "في فقه الدين والسياسة"، حيث أوضح طبيعة الالتباس القائمة، بالقول: "إن العلاقة بين الدين والسياسة ليست علاقة فصل؛ لأن الدين حاضر في السياسة بشكلٍ من الأشكال في جميع الثقافات والحضارات والمجتمعات، بما فيها المجتمعات الغربية اليوم، ولكنها في الوقت نفسه ليست علاقة وصل تام؛ لأن الفعل السياسي هو دنيوي بامتياز، فهو بشري؛ اجتهادي تقديري، رغم كونه من حيث العموم يخضع لمبادئ الدين وأحكامه".
إن ما يحتاجه الإسلاميون بشكل عام هو التركيز على قضايا الشراكة السياسية والتوافق الوطني، لأنها مفتاح التكيف والقبول للعمل بروح الفريق، دون إقصاء لأحد أو تغييب لجهة.
في ساحتنا الفلسطينية ليس لنا من خيار غير جمع الشمل للكل الوطني والإسلامي، والتحرك برؤية وطنية، وفي سياق توافقٍ ضمن القواسم المشتركة التي تحددها حقوقنا وثوابتنا الوطنية.
لقد انتهى زمن التفرد بالسلطة والقرار، ولم يعد مقبولاً الحديث عن أحزاب ببرامج متناقضة، وإظهار سرمدية الخلاف واستحالة اللقاء، حيث أكدت أغلب التجارب النضالية ضرورة اجتماع الصف خلف السياسي المفاوض، والقيادي المقاتل في الميدان.