القدس- معا - صدر مؤخرا عن مركز "مدى الكرمل للدراسات الاجتماعية التطبيقية" دراسة تحليلية موسعة للكاتب جورج كرزم بعنوان "الهجرة اليهودية المعاكسة ومستقبل الوجود الكولونيالي في فلسطين". وهي تعتبر الأولى من نوعها في معالجة "الهجرة اليهودية المعاكسة" معالجة شمولية اعتمدت المنهج الجدلي أداةً في التحليل والنقاش؛ علما أن "الهجرة" اليهودية المعاكسة طالما شغلت بال الأوساط الحكومية والأمنية الإسرائيلية، لِما تشكّله من إشكالية وجودية، نظرًا لصغر حجم السكان اليهود في "إسرائيل" نسبيًّا، والتكوين الكولونيالي الإثنيّ اليهودي للأخيرة باعتبارها دولة "هجرة" واستيطان استعماريين يشكّل استمرارُ تدفق المستعمرين إليها ضرورةً وجودية لا غنى عنها لتسمين "الدولة اليهودية" بالعنصر البشري اليهودي الشاب.
ويقول كرزم في مقدمة دراسته بأنه نظرًا لشحّ المعلومات والمعطيات العلمية التفصيلية الموثوقة، المستندة إلى المصادر الإسرائيلية الأولية المتعلقة بموضوع "الهجرة" اليهودية المعاكسة، ونظرًا للنقص الواضح في الأدبيات المتصلة بهذا المجال، وغياب الدراسات الهادفة إلى معالجة خلفيات ودوافع ومستويات وتأثيرات "الهجرة" المعاكسة، فقد غابت الأعمال البحثية التحليلية العربية المعمقة الخاصة بهذه المسألة. ويعزو كرزم هذا الأمر إلى اعتبار المؤسسة الصهيونية "للهجرة" اليهودية وَ"الهجرة" المعاكسة مسألتين أمنيتين إستراتيجيتين من الدرجة الأولى، وبالتالي لا تسمح تلك المؤسسة إلاّ بنشر المعطيات والأرقام العامة والإجمالية في هذا المجال، بعيدًا عن التفاصيل التي تعتبرها ذات مضمون أمني–إستراتيجي.
وتشير الدراسة إلى أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، حرصت منذ إنشاء دولة "إسرائيل" حتى يومنا هذا، على التأكيد مرارًا وتكرارًا أن "الهجرة" اليهودية إلى "إسرائيل" تُعَدّ مسألة مركزية ووجودية، وشددت على أن "قانون العودة" الصهيوني إلى "إسرائيل" يشمل جميع يهود العالم، ويهدف إلى ضمان رفاه وأمن وبقاء "الأمة". وبينما نُشِرَ الكثير عن "الهجرة" اليهودية إلى "إسرائيل"، فإن المعلومات المتاحة حول "هجرة" اليهود المعاكسة، من "إسرائيل" إلى خارجها، قليلة بل شحيحة.
وتقول الدراسة بأن تقديرات المراجع الحكومية الإسرائيلية المختلفة لأعداد اليهود الإسرائيليين المقيمين في الخارج (الذين "نزحوا" من "إسرائيل" واستقروا في الخارج) تختلف في ما بينها اختلافًا كبيرًا. لذا، شكَّكَ العديد من الباحثين في مدى دقة أرقام الحكومات الإسرائيلية؛ فإلى جانب أوجه القصور الإحصائية والمنهجية، يظل عدد "المهاجرين-النازحين" الإسرائيليين مثار جدل وخلاف كبيرين، بسبب دلالته الديموغرافية، الاجتماعية، السياسية، الأمنية والإستراتيجية، سواء داخل "إسرائيل" أو خارجها.
ويبين كرزم بأن عوامل الطرد الديمغرافي من "إسرائيل" تعاظمت، فأصبحت أعلى من عوامل الجذب إليها. ويجادل بأن العوامل الأمنية بعامّة، وتحديدًا الهواجس الأمنية للعديد من اليهود الإسرائيليين وانعدام الشعور بأمنهم الشخصي في عمق جبهتهم الداخلية، تشكّل القوةَ الدافعة الأهم "للهجرات" اليهودية المعاكسة، أكثر من العوامل الاقتصادية المتمثلة في الضائقة المعيشية والوضع الاقتصادي.
ويعالج كرزم في دراسته ظاهرة "نزوح" الأدمغة اليهودية الإسرائيلية إلى الخارج، بحثًا عن فرص مهنية وعلمية ومعيشية أفضل، وحياة أكثر أمنًا ورفاهية لم تفلح "الدولة اليهودية" في توفيرها لهم؛ رغم وعود الأخيرة لهم بأن "إسرائيل أرض الميعاد" ستدرّ عليهم "لبنًا وعسلاً".
وتوضح الدراسة بالأدلة والمعطيات الإسرائيلية والغربية الموثقة بأن التراجع الكبير في "الهجرة" اليهودية إلى فلسطين وتواصُل "الهجرة" اليهودية المعاكسة التي من المتوقع تفاقمها أكثر فأكثر مع تدهور الأوضاع الأمنية والعسكرية في فلسطين وتصاعد المقاومة العربية ضد الاحتلال، إضافة إلى التكاثر الطبيعي الكبير في أوساط الفلسطينيين، كلّ هذا سيؤدي إلى هبوط كبير متواصل في نسبة اليهود في فلسطين التاريخية.
وتناقش الدراسة ظاهرة حيازة أكثر من مليون يهودي إسرائيلي جوازات سفر أجنبية، والاندفاع المتزايد لآخرين كثيرين لحيازة جوازات سفر أجنبية إضافية، بالتوازي مع التطمينات الأميركية لـِ "إسرائيل" بأن الحكومة الأميركية ستستصدر، عند الضرورة، جوازات أميركية للإسرائيليين اليهود الراغبين في ذلك.
وتعرّج الدراسة على خطاب بعض القيادات الصهيونية الذي يؤجج الخوفَ في أوساط اليهود الإسرائيليين، بدءًا من القنبلة النووية الإيرانية، مرورًا بخطر "الإرهابيين" الموجودين في كل مكان، وانتهاء بالتلويح بالتهديدات الوجودية وتخطيط إيران وحزب الله "لمحرقة" جديدة تهدد اليهود. هذا الخطاب المؤجج للهلع أفضى إلى نتائج عكسية تمثلت في "نزوح" العديد من الشباب اليهود والأدمغة اليهودية إلى بلدان الرخاء في أميركا الشمالية وأوروبا وأستراليا.
وتلتقط الدراسة نقطة الضعف المركزية في المجتمع الإسرائيلي والمتمثلة في العنصر البشري الذي يُعَدّ بالمنظور الإسرائيلي عنصرًا أمنيًّا من الدرجة الأولى، وبخاصة أن "الدولة اليهودية"، كدولة "هجرة" واستيطان كولونيالي، لم يكتمل بناؤها بعد من الناحيتين الديمغرافية والجيوسياسية، وهي تخطط، إستراتيجيًّا، لاستجلاب المزيد من مئات آلاف اليهود.
وترى الدراسة أنه إذا استمر ارتفاع معدلات "الهجرة" المعاكسة، مع ازدياد عملية الاستنزاف البشري والاقتصادي في المجتمع الصهيوني وامتدادها لفترة طويلة، فسيؤدي ذلك إلى تفاقم عوامل الانهيار الداخلي لبنْية دولة "إسرائيل".
وخلصت الدراسة إلى الاستنتاج بأن مواجهة عسكرية مكثفة طويلة الأمد، تمتد لأشهر طويلة أو سنوات، سوف تعني استنزافًا متواصلاً في البنْية البشرية الصهيونية؛ ممّا سيحفز بقوةٍ تعاظُمَ "الهجرة" اليهودية المعاكسة، وسيدفع العديدَ من اليهود إلى "النزوح" نحو الخارج، وبخاصة أولئك الذين يملكون جوازات سفر أجنبية.
وختمت الدراسة بالقول: "إذا كان أكثر من نصف اليهود الإسرائيليين قد أعلنوا في ظروف غير حربية، أنهم يفكرون بترك "إسرائيل"؛ كما أن ما يقارب 70% من الإسرائيليين توجهوا أو كان لديهم نية التوجه إلى سفارات أجنبية للاستفسار عن الجنسية (وجواز السفر)، أو التقدم بطلب الحصول عليها؛ فإن تدهور الوضع الأمني-العسكري سوف يعني أن نسبة مرتفعة من هؤلاء "ستهاجر" فعليًّا من فلسطين. فلو افترضنا أن نصف اليهود فقط ممن توقعت الدراسات الإسرائيلية أنهم يفكرون في "الهجرة" العكسية سيتركون فلسطين فعليًّا؛ أي نحو 25% من إجماليّ اليهود في فلسطين (البالغ عددهم نحو 6 مليون)؛ عندئذ، فإن عدد اليهود الذين سيتركون فلسطين في ظل حرب استنزاف طويلة الأمد، قد يصل، في مرحلة أولى، إلى نحو مليون ونصف المليون. عندذاك، ستهبط نسبة اليهود من إجماليّ السكان في فلسطين التاريخية إلى ما دون 42% (أخذًا في الاعتبار كذلك التزايدَ السكاني العربي الطبيعي الكبير)؛ وهو ما يعني أن اليهود سيصبحون أقلية، وستتفاقم عوامل الانهيار الداخلي لبنْية دولة "إسرائيل"، بسبب "الهجرة" المعاكسة التي ستزداد مع تزايد عملية الاستنزاف البشري والاقتصادي في المجتمع الصهيوني وامتدادها لفترة طويلة".
وتوصلت الدراسة إلى استنتاج استراتيجي جوهري مفاده أن تحول اليهود إلى أقلية (في فلسطين التاريخية) سوف يعني اقتراب "إسرائيل" من الحد الديمغرافي الحرج (demographic threshold) الناتج عن "الهجرة" اليهودية المعاكسة. وإن امتدّت عملية الاستنزاف البشري وبالتالي عوامل الانهيار الداخلي لبنية دولة "إسرائيل" لفترة طويلة الأمد، فعندئذ سيتحول الحد الديمغرافي الحرج إلى مستوى الضرر الديمغرافي (demographic injury level) الذي يعني الدخول في مرحلة الخطر الإستراتيجي الحقيقي على مجرد الوجود البشري والمؤسَّسيّ للدولة اليهودية.