بيت لحم- معا- لا يزال امر اندلاع جولة قتال جديدة في غزة خلال الاشهر القادمة بعيدا عن كونه حقيقة مفروغا منها، وذلك رغم الاستعدادت العسكرية المكثفة التي يقوم بها الجيش الاسرائيلي استعداد لوقوع هذا الاحتمال، خاصة وان خطوات مماثله لتلك التي افضت في النهاية لعملية "الجرف الصامد" 2014 بدأت تتبلور مؤخرا في الميدان حسب تعبير "عاموس هرئيل" المحلل العسكري لصحيفة "هأرتس" العبرية في تقريره المنشور اليوم " السبت".
يشعر نظام حماس الحاكم في غزة انه محتجز بين ضغوط لم يعد بالإمكان احتمالها وفي ذات الوقت يعمل على ترميم قدراته العسكرية ويقنع نفسه ان اسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة فيما تتذبذب مواقف القيادة الاسرائيلية التي لا ترى فائدة ترجى من اندلاع مواجهة قريبة بين اصدار التهديدات القوية ورسائل التهدئة على أمل ان تردع خطواتها بطريقة ما حماس وفي ذات الوقت إرضاء الجمهور الاسرائيلي القلق.
تتخذ اسرائيل حاليا موقفا سلبيا جدا فهي تستعد للدفاع عبر محاولة اكتشاف الانفاق الهجومية التي تم حفرها مجددا لكنها تمتنع في هذه المرحلة عن مهاجمة الانفاق داخل قطاع غزة وفي المقابل لا تتخذ أي اجراء او خطوة مهمة في سياق تخفيف الضغط الاقتصادي عن غزة .
وفي ظل هذه الاجوء فان الشكوك المتبادلة والتطرف والتحليلات غير الدقيقة لاتجاه حربة الخصم وغياب قنوات التنسيق سيدة الموقف وفي خلفية هذه الصورة هناك مصر التي لم تذرف دمعة واحدة حين سالت دماء حماس قبل عام ونصف وغير الراغبة حاليا في تصلب اسرائيلي اتجاه غزة لان مثل هذه التصرفات قد تثير غضب الملايين في ميادين القاهرة التي لا تستمع هذه الايام لدعوات دول مثل قطر التي تطالبها برفع او تخفيف الحصار عن قطاع غزة لكن ورغم هذه الاوضاع المعقدة فان المواجهة لا تخدم ايا من الاطراف في هذه المرحلة .
ان سيناريو " خطأ الحسابات " الذي يؤدي الى المواجهة وهو ذات السيناريو الذي فسر جهاز المخابرات العسكرية الاسرائيلية " امان" على اساسه اندلاع المواجهة الماضية قد يكرر نفسه ورغم ان التاريخ يكرر نفسه بشكل تام إلا انه يعود في بعض الاحيان على ذاته .
اصبحت نية اسرائيل وعدم رغبتها في التورط بمواجهة عسكرية اضافية في قطاع غزة واضحة للعيان وحتى تصريحات نتنياهو القوية الاندفاع غير المفهوم لرئيس المعارضة "هرتصوغ" لم تنجح في اخفاء هذه الحقيقة لأنه لا يوجد لدى اسرائيل حاليا هدفا استراتيجيا واضحا تسعى لتحقيقه خاصة ان اسقاط حكم حماس غير وارد على الاطلاق بل هناك اجماع بين الكابنيت والأجهزة الامنية المختلفة على ان بديل نظام حكم حماس سيكون اسوأ لان البديل سيكون الفوضى المطلقة في غزة او سيطرة مجموعات متأثرة بأفكار "داعش" كما ان فكرة نقل القطاع لسيطرة السلطة الفلسطينية امر غير واقعي خاصة وان الرئيس عباس اثبت على مدى السنين الماضية انه ليس بالشريك في هذا السياق حين رفض تولي دورا اكثر جدية على معابر القطاع نهاية الحرب الماضية لذلك فان اسرائيل تفضل " العدو الذي تعرفه ".
وفي كل الاحوال تنتظر اسرائيل العام الجاري كمية ليست بالقليلة من " المشاكل " الامنية بينها تهديد اخذ بالتزايد من قبل حزب الله اضافة لارتدادات الحرب الاهلية السورية و فرصة اندلاع حرب " ألوراثة " في مناطق السلطة الفلسطينية اضافة لموجة " الارهاب" المستمرة منذ اربعة اشهر في الضفة الغربية والقدس ووصلت في بعض الاحيان الى وسط اسرائيل حسب تعبير المحلل العسكري " عاموس هرئيل".
ان السبب الواضح والوحيد الذي قد يقود اسرائيل لمهاجمة قطاع غزة يتمثل في " تحييد " تهديد الانفاق ولكن لتنفيذ ذلك تحتاج الحكومة الى ذريعة واضحة لشن الحرب وهي تحتاج الى تبرير وتفسير يساعدها على خلق حالة من الشرعية يلتف حولها الجمهور الاسرائيلي الذي دعم بغالبيته المعارك الثلاثة السابقة منذ عام 2008 وشرعية اخرى على الساحة الدولية على الاقل لدى الولايات المتحدة ودول اوروبا الغربية التي اظهرت تفهما لإسرائيل خلال الجولات السابقة .
طالما بقي تهديد الانفاق " نظريا" ولم تتوفر عنه معلومات كاملة فان حكومة اسرائيل ستجد صعوبة في تبرير عملية عسكرية هجومية خاصة وانها تدرك ان عملية من هذا القبيل ستشهد احتكاك عسكريا قويا مع حماس دون ان تضمن في النهاية لا يضمن الهدوء لسنوات طويلة.
وصلت التغطية الاعلامية المكثفة لتهديد الانفاق مؤخرا حدود الهزل غير المعقول حين تحدث بعض السكان امام الكاميرات عن اصوات حفر تسمع في " كيبوتس" يقع على مسافة 4 كلم من حدود غزة " فيما يوجد لحماس الكثير من الاهداف القريبة والجاهزة وعلى مسافة اقل من ذلك بكثير بما لا يزيد عن مئات الامتار من خط الحدود " .
يواجه رؤساء المجالس المحلية في " غلاف غزة " معضلتهم الخاصة فمن ناحية ملزمون بحماية السكان والدفاع عنهم ومن الناحية الاخرى يعتقدون ان حالة من الخوف المبالغ فيه ستمنع انضمام سكان جدد للكيبوتسات والتجمعات السكنية التي يمثلونها خاصة بعد الزيادة الكبيرة على عدد السكان بعد الحرب الاخيرة وخطط الدعم الحكومي التي اقرتها حكومة نتنياهو ومنحت بموجبها منطقة غلاف غزة مليار ونصف شيكل اضافة الى الكثير من الاعفاءات والامتيازات الضريبية .
يبدو ان الاهتمام الاسرائيلي الزائد بقضية الانفاق قد شكل مفاجاة معينة لحماس خاصة انه جاء في اوج حالات انهيار متكرر لأنفاق اودت لمقتل العديد من عناصرها يبدو انه نتج عن الاحوال الجوية ما اجبر قادة حماس على الادلاء بتصريحات تتعلق بأهمية هذه الانفاق كورقة استراتيجية في المواجهة مع اسرائيل .
قد يتخذ الجناح العسكري التابع لحماس قرارا بشن هجمات ضد اسرائيل عبر الانفاق ردا على تدهور الاوضاع على الحدود نتيجة جهود اسرائيل الهادفة لكشف الانفاق او نتيجة حدوث تصعيد في المواجهات الدائرة في الضفة الغربية اذا ما اتضح ان حماس غزة مسئولة تنفيذ عمليات ضد اسرائيل انطلاقا من الضفة حينها ستجد اسرائيل نفسها مجبرة على الرد داخل غزة لكن يبدو ان " المتغير" الاساسي في معادلة الردع المتبادل يتمثل في تدهور الاوضاع الاقتصادية لسكان القطاع .
وهذا التدهور ليس مجرد ارقام جافة تتعلق بقدرة حماس على دفع الرواتب لموظفيها " حتى ان كانت قادرة على ذلك" او حجم البضائع التي تدخل غزة عبر اسرائيل ومنها " تضاعف هذا الحجم ثلاث مرات بعد الحرب الاخيرة " بل الاهم من كل ذلك هو شروط وظروف الحياة الاساسية في قطاع غزة وهنا بالذات يحدث التدهور الخطير .
انخفض عدد " ساعات التيار الكهربائي " في بعض احياء غزة الى اربع او ست ساعات في اليوم فيما تعتبر مياه قطاع غزة بشكل عام غير صالحة للشرب هناك دائما حاجة لنقل هذه المياه بالصهاريج حتى يتمكن السكان من القيام بوظائفهم وحاجاتهم الاساسية فيما تشير معطيات احصائية تم تقديمها مؤخرا للحكومة الاسرائيلية ان قطاع المياه الجوفية في غزة سيتعرض لضرر لا يمكن اصلاحه مطلقا حتى عام 2020 .
تبلغ نسبة البطالة في قطاع غزة 42:7% وهذا الرقم المخيف يشكل انخفاضا نسبيا قياسا بالوضع بعد الحرب حيث بلغت نسبة البطالة 44% .
وتضرب البطالة بكل قسوة قطاع الشباب والأكاديميين فيما لايزال غالبية العاملين في القطاع الخاص يتلقون اجرا يقل بكثير عن الحد الادنى للأجور .
وخلال السنوات الماضية باتت اثار الحصار المصري اكثر وضوحا حيث غادر قطاع غزة خلال عام 2015 حوالي 30 الف انسان فقط لا غير عبر معبر رفح الحدودي .
تراقب اسرائيل وترصد مؤسستها الامنية بشكل جيد علامات وإشارات التدهور الاقتصادي ويقف غالبية قادة المؤسسة الامنية الى جانب فكرة وضرورة تقديم تسهيلات فورية وإدخال تحسينات على البنية التحتية للقطاع على امل ان تؤدي هذه الخطوات الى حرمان حماس من مبررات الذهاب الى حرب جديدة .
ويعتبر " نتنياهو " ووزير الجيش " يعلون "الاقل اهتماما وتأثرا بهذا الوضع حيث يعتقد الاثنان ان الوضع في غزة ليس بهذه الخطورة مشيرين الى استمرار دخول البضائع وجباية حماس للضرائب ويفضلون التروي وعدم المصادقة بسرعة وتهور على مشاريع كبيرة تتعلق بالبنية التحتية في غزة مثل تطوير وتحسين مستوى شبكة توزيع الكهرباء.
يبرر نتنياهو و يعالون موقفهما هذا بأمرين رئيسيين, الاول الخوف من استغلال حماس لأية تسهيلات اضافية للقيام بترميم منظومتها العسكرية مثل توجيه جزء من الحديد والاسمنت الذي دخل غزة نحو الانفاق وإنتاج الصواريخ والثاني ضرورة ربط التسهيلات بمطالبة حماس باحداث تقدم في الاتصالات الخاصة بتحديد مصير الجنود الذين قتلوا خلال الحرب الاخيرة .
واخيرا على اسرائيل ان تتذكر حالة مماثلة لهذا الوضع سادت قبل اندلاع عملية " الجرف الصامد" حين طرح قبل اسابيع من الحرب اقتراح زيادة حجم البضائع التي تدخل الى غزة عبر معبر كرم ابو سالم لكن المصادقة على هذا الاقتراح تاخر كثيرا ولم ينفذ الا بعد الحرب اختتم " عاموس هرئيل" تحليله .