الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

عقول محتلة.. أنس الأطرش

نشر بتاريخ: 10/02/2016 ( آخر تحديث: 10/02/2016 الساعة: 17:10 )
عقول محتلة.. أنس الأطرش
القدس- معا- تصدر منظمة أطباء بلا حدود سلسلة من القصص التي تسمى عقول محتلة، وهي سلسلة من القصص التي تدور حول المتضررين بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني والمستفيدين من الخدمات التي تقدمها فرق الصحة النفسية التابعة لمنظمة أطباء بلا حدود في الخليل والقدس الشرقية وغزة. تجمع منظمة أطباء بلا حدود هذه القصص لعكس واقع الحياة اليومية التي يعيشها الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال. يتم اصدار هذه القصص شهرياً من قبل المنظمة.

كان أنس في الثالثة والعشرين من عمره وهو الرابع بين ثمانية أشقاء يعيشون مع عائلتهم في مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية. كان أنس يدير متجر أحذية لعائلته في الخليل حيث كان مسؤولا عن دخل الأسرة، كما كان يدير متجر آخر للعائلة في أريحا حيث كان يبيع الأحذية الرياضية للسياح هناك وفي 7 نوفمبر/تشرين الثاني، قُتل أنس على يد جندي إسرائيلي أثناء عبوره بسيارته على إحدى نقاط التفتيش.

كان أنس شاباً حالماً وذا دورٍ محوري بالنسبة لعائلته فهو مثال الشاب المليئ بالأفكار الإبداعية والطموحات وكان الابن الأكثر مرحاً في العائلة،كان لطيفاً دائماً ورقيقاً ويرعى الآخرين، وكان أيضاً الشخص الذي "يرفع المعنويات" بنكاته المشهورة وتعابيره الصوتية المضحكة عند رؤيته بعض الأطفال الحزينين أو القلقين.
"لقد قتلتَ شخصاً بريئاً ودمرت حياة عائلةٍ بأكملها".

كان أنس وإسماعيل شقيقان مقربان جداً، وفي نهاية شهر سبتمبر/أيلول 2013، وخلال عيد الأضحى، قرر إسماعيل تأجيل موعد زفافه الذي كان مقرراً في نوفمبر/تشرين الثاني. كان الهدف من وراء التأجيل العثور على فتاة مناسبة لشقيقه أنس لكي يحتفل الشقيقان بزواجهما معاً في أبريل/نيسان 2014، وكان الموعد الجديد تاريخاً خاصاً ولا يُنسى لكل العائلة. كان هذا الحلم يشكل تحدياً لكل العائلة ولكن الأمنية كانت جذابة وقابلة للتحقيق، كما أن أنس كان شخصاً مميزاً وأخاً مُحبّاً وهو يستحق بذل الجهد لأجله.

لم تكن العائلة في تلك الفترة تملك أدنى فكرة أنه بعد شهرٍ واحد سينهار حلمها في لحظة واحدة مع تلقي أنس رصاصةً في صدره.
اعتاد الشقيقان السفر أسبوعياً لإدارة متاجر العائلة المنتشرة في مدن مختلفة في الضفة الغربية، وكان عليهما اجتياز نقاط التفتيش الإسرائيلية بشكل مستمر. لم يكن هذا الأمر يقلقهما رغم الوقت الطويل الذي كانا يمضيانه والإزعاج المتكرر من قبل الجنود بتفتيشهما في كل مرة يعبران فيها نقاط التفتيش.

ولكن في أحد أيام الخميس من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2013، توقفت حياة هذا الشاب الصغير بشكل وحشي. كما هي العادة، كان أنس وشقيقه إسماعيل عائدان إلى المنزل بعد أن أمضيا جزءاً من أسبوع العمل في متاجر العائلة في أريحا وجنين. كان أنس منهكاً تماماً بسبب بداية الأسبوع المُحزنة، حيث توفي ابن عمه بسبب مشكلة صحية مفاجئة قبل ثلاثة أيام، كما تميز ذلك الأسبوع المؤلم بقلة النوم وعدد جولاتٍ أكبر من المعتاد حول الضفة الغربية.
مدخل منزل وسيارة عائلة الأطرش في مدينة الخليل وهي تعجُّ بصور أنس.

كان أنس ينام بعمق في مقعد الراكب وكانت قدماه مرفوعتان على لوحة القيادة ولم يسمع صوت هاتفه الذي رنَّ عدة مرات في جيبه بينما كان إسماعيل يقود على صوت شخيره. عندما وصلت السيارة إلى حاجز الكونتينر شمال الضفة الغربية صعدت على أحد المطبّات فاستيقظ أنس مُضطرباً بشكل كامل. توقفت السيارة عند نقطة التفتيش وكان أنس ما يزال يشعر بنعاسٍ شديد فخرج من السيارة ليمدد جسمه قليلاً، وبشكل لا يصدق، كانت تلك الحركة البسيطة كافية ليطلق الجندي الرصاصة البائسة التي جعلت جسده الفتيّ القوي يسقط على الأرض، وماتَ على الفور.

كافحت العائلة منذ تلك اللحظة لتستوعب الأمر ولكن الكابوس لم ينتهِ هنا، حيث اضطرت للتعامل مع أزمة قلبية أصابت الأب الذي خضع لجراحة حسّاسة ومعقدة في القلب بعد حادثة مقتل أنس ببضعة أشهر. وإضافة إلى ذلك، أدى تعاقب الأحداث إلى تغير جذري في وضعهم المالي خلال فترةٍ قصيرة حيث لم يكن أيٌّ منهم في حالة تسمح له بالتفكير بعمل العائلة، كما أنهم فقدوا تصريح العبور من الضفة الغربية إلى إسرائيل. وحتى اليوم، ما يزال تأثير موت أنس واضحاً على الحياة اليومية لعائلة الأطرش.

ادّعى الجيش الإسرائيلي أن الحادث وقع "عندما هاجم أنس قوات الشرطة الإسرائيلية بسكين"، ولكن العائلة ومجموعات حقوق الإنسان طالبت بفتح تحقيق في الحادثة. وذكرت مجلة لوس انجلوس النقدية للكتب مقالاً عن الحادث جاء فيه أن المتحدث باسم الشرطة الإسرائيلية أخبر المجلة أن تسجيلات كاميرا المراقبة في نقطة التفتيش والتي قد تلقي الضوء على حقيقة مقتل أنس قد لا تظهر للعلن، وأضاف المتحدث في رسالته الالكترونية أنه "لا يوجد أي تحقيق جارٍ في الحادثة".

نقاط التفتيش: تقييد الحركة
منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية عام 1967، طبقت إسرائيل سياسة تقييد الحركة عبر نقاط التفتيش والبوابات والحواجز والطرقات الفرعية والجدار الذي يمتد على طول 700 كيلومتر، ليفصل بين القرى ويعزل التجمعات البشرية ويزيد من تعقيد حياة الفلسطينيين، إضافة إلى نظام ا تصاريح الحركة المعقد الذي يتم تطبيقه منذ الانتفاضة الأولى عام 1987. يوجد اليوم أكثر من 96 نقطة تفتيش ثابتة ويجب على كل فلسطيني الحصول على تصريح دخول فردي لعبور نقاط التفتيش الإسرائيلية باتجاه القدس أو إسرائيل؛ حيث تنتشر هذه النقاط بين الضفة الغربية وإسرائيل، وبين الضفة الغربية والقدس الشرقية، وبين مدن الضفة الغربية وكل ذلك لتقييد حركة الفلسطينيين. قد يتطلب قطع مسافة قصيرة عدّة ساعات بسبب الحواجز ونقاط التفتيش المغلقة التي تجبرهم على الالتفاف حولها وقطع مسافات طويلة بينما يملك الإسرائيليون طرقاتهم الخاصة التي يسافرون عليها بحريّة.

الخليل هي أكبر مدينة في الضفة الغربية وهي مقسمة إلى جزأين: H1 وH2 . القسم الأول خاضع لسيطرة السلطة الفلسطينية، والجزء الثاني الظاهر في الصورة خاضع لسيطرة الجيش الإسرائيلي.

تعيق هذه القيود حصول الفلسطينين على الخدمات والموارد وعلى الرعاية الطبية بسبب القيود المفروضة والايقاف العشوائي لسيارات الإسعاف على نقاط التفتيش والانتظار لساعات قبل الحصول على تصريح العبور.

يوجد في الخليل أكثر من 120 عقبة مادية بما فيها 18 نقطة تفتيش معززة بالجيش بشكل دائم، في أكثر من 20 بالمئة من مدينة الخليل التي تعرف باسم (H2) حيث تستمر إسرائيل بممارسة سيطرتها المطلقة على المنطقة.

تحليل وضع عائلة الأطرش
أوزنور أسيسب، مسؤول الصحة النفسية لمنظمة أطباء بلا حدود في الخليل / الصورة: أطباء بلا حدود

بعد أن قام طاقمنا النفسي الاجتماعي بزيارة العائلة، تمت إحالة خمسة أفراد للحصول على الدعم النفسي وهم الأب والأم وابنتان وأحد الأبناء. وبناءً على تقييم المعالج النفسي تقرر إخضاعهم لمقاربة التدخل العائلي. كان لمقتل أنس تأثير هائل على كل أفراد العائلة وعلى حياتها، ففقدان أنس والدور الذي كان يلعبه أدى إلى فقدان التوازن في العائلة إضافة إلى الحُزن الشخصي لكل فرد في العائلة وهو ما يلغي إمكانية إن يدعموا بعضهم البعض. من الصعب أيضاً فهم ردود فعل كل شخص على هذه الخسارة. حيث كانت الأم بشكل رئيسي تشعر بالاكتئاب والقلق وكانت عاجزة عن التواصل مع بقية أفراد العائلة. فعلى سبيل المثال، لم تكن الابنة التي تبلغ من العمر 8 أعوام تشعر بالأمان والحماية، وقد ظهرت عليها أعراض القلق، وكانت متمسكة بأمها طيلة الوقت. أما الابن البالغ 10 أعوام فقد ظهرت عليه أعراض الاضطراب النفسي الجسدي الذي يتميز بشكل رئيسي بألم المعدة في غياب أي فضاءٍ يعبر فيه عن مشاعره في جو عائلي تعاني فيه الأم والأب والأخ الأكبر من ردود أفعال اكتئابية حادة.

بعد تقديم الدعم الفردي والعلاج الطبي النفسي لأفراد العائلة الذين يعانون من أعراض اكتئابية حادة، كان أحد الأهداف الرئيسية للعلاج خلق فضاء يستطيع فيه أفراد العائلة مشاركة مشاعرهم فيما بينهم. أُلحقت هذه الجلسات بأخرى خاصة بالتثقيف النفسي فيما يخص ردود الأفعال والفروقات الفردية تجاه الحزن. الهدف الآخر كان فهم آليات تعاملهم الحالية العملية وغير العملية، إضافة إلى دعم العائلة وإعادة تفعيل هذه الآليات وطرح آليات جديدة عند الضرورة. كما تم أيضاً دعم الأبوين ليعودا إلى ممارسة دورهما الطبيعي وهو ما ساعد الأولاد على التعامل مع مصاعبهم. أجرت العائلة 13 جلسة انتهت بوضع استراتيجية لمعالجة خسارتهم وتمكينهم من التلاحم مع بعضهم من جديد، وكذلك تمكينهم من الشعور ببعض السعادة في حياتهم دون المساس بشعور الحزن والاشتياق الذي يشعرون به عندما يتذكرون أنس.