نشر بتاريخ: 15/03/2016 ( آخر تحديث: 15/03/2016 الساعة: 15:05 )
بقلم: حسني مليطات
تُعرف الرواية بأنها فن أدبي يعبر الكاتب من خلالها عن الواقع المعاصر الذي يعيشه بطرق وأساليب متنوعة، منها استحضار الحكايات التاريخية الملائمة للواقع الذي يعيشه، فالبناء القصصي الروائي يتسم بخاصية السرد المتعدد، الذي يستطيع الكاتب من خلاله أن يتلاعب في الشخصيات والزمان والمكان، وبالتالي تشكيل سرد حكائي جديد خارج عن التأليف التقليدي الذي كان شائعا في العصور السابقة، ويعد المتخيل التاريخي نهجاً مستحدثا اعتمد عليه بعض الروائيين في التعبير عن ذاتهم، موظفين فيه طرائق السرد الروائية الحديثة.
اهتم النقاد بنهج المتخيل التاريخي في الرواية المعاصرة، منهم الروائي الجزائري واسيني الأعرج، الذي عرّف المتخيل بأنه " المادة السردية المنجزة التي تنشأ من خلال العلاقة النشيطة والخلاّقة مع حدث ما، وتعطيه امتدادات كبيرة في الزمان والمكان، وتخرجه من الوثوقية إلى الهشاشة والنسبية "، أما الناقد العراقي عبد الله إبراهيم وضح مفهوم " التخيل التاريخي " بأنه المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية، وأصحبت تؤدي وظيفة جمالية ورمزية، فالمتخيّل التاريخي لا يحيل على حقائق الماضي، ولا يروّج لها، إنما يستوحيها بوصفها ركائز مفسرة لأحداثه، وبذلك تكون رواية المتخيل التاريخي قد خرجت من إطار التاريخية التي تحمل في طيّاتها فترات تاريخية مقيتة، إلى نص أدبي يضم بين طيّاته العناصر الفنية المعاصرة للرواية، موضحاً الفكرة العامة من كتابة النص بالاتكاء على الحقب التاريخية المختارة، ولعل هذا يجعل من الرواية قيمة أدبية متميزة عن غيرها من الروايات، فقارئ رواية " شوق الدرويش " 2014 للروائي السوداني حمور زيادة، يجد أنها تميزت عن غيرها في القائمة القصيرة لجائزة البوكر لهذا العام من حيث البناء السردي المشوق الذي وظفه الكاتب، والتعبير عن الحقبة التاريخي للحكم التركي المصري للسودان بطريقة روائية معاصرة، أخرجت الحدث من التاريخ إلى نص حكائي يجذب انتباه القارئ، وكذلك الأمر ما قام الروائي السعودي مقبول علوي في روايته " زرياب " 2014 التي سنتحدث عنها فيما بعد.
وبالتالي فإن رواية المتخيل التاريخي تعد مثالا حيّا على مظاهر التجديد الكتابي التي لجأ إليها بعض الروائيين المعاصرين، والمقصود بالكتابة المتخيلة استحضار التاريخ وإعادة سرده بتوظيف العناصر الفنية المعاصرة للرواية، ومثال ذلك: توظيف السرد القائم على المزج بين لغة التاريخ ولغة الروائي المعاصرة، وإعادة تشكيل بنية زمانية مختلفة عن الزمن التاريخي، وتكون تلك البنية قائمة على التكسر الزمني وتداخل الحكايات داخل الرواية، عدا تشكيل هيكلية سردية ممثلة باستحضار الشخصيات المتخيلة ممزوجة ببعض الشخصيات المتخيلة من خيال الكاتب نفسه، ليصبح بذلك المتحكم الرئيسي بمسار الحدث الروائي كله.
وتعد رواية " القرمطي " للروائي الفلسطيني أحمد رفيق عوض مثالا واضحا على رواية المتخيل التاريخي التي اعتمد فيها على العصر العباسي في فتراته المتأخرة، موضحاً فترة زمنية محدودة فيه، ممثلة بولاية الخليفة المقتدر وسرد الأحداث التي آلت إلى خلعه وتولية أخيه من أبيه محمد القاهر، ثم عودته إلى الحكم من جديد؛ لأن القاهر كان لا يعرف معنى الحكم، ويكتفي بعشق الشراب والتلذذ بالنساء، كما وضح معالم الحياة الفكرية التي كانت شائعة في ذلك الزمن موظفا بعض الشخصيات الملائمة للتعبير عن ذلك، وقد استمر الكاتب على لسان سارد كلي المعرفة باستخدام ضمير الغائب حديثه عن خلافة المقتدر والأحداث التي جرت في زمن ثمانية فصول، وما تبقى منها كان حديثا عن حياة أبي طاهر الجنابي المعروف بالقرمطي، والذي أضفى عليه الكاتب عنوان الرواية الرئيس.
إنَّ فكرة الكتابة المتخيلة والاتكاء عليها تجعل الكاتب يعيش تجربة الزمن الذي يكتب عنه، وبالتالي يسهل عليه التعبير عن ذاته من خلال الأحداث المنتقاة في رواياته، ولعل هذا ما ظهر في رواية " القرمطي "؛ حيث عمد الكاتب إلى توظيف الحكايات التي كانت شائعة في ذلك الزمن التي تلاءم الزمن الذي يعيشه، من خلال الرمز المتخيل الواضح في الرواية.
عبَّر الكاتب في روايته عن فترة خلافة المقتدر بتوظيف السرد الروائي المتعدد، لينتقل من لخلاله لتوضيح معالم الأحداث في الرواية كلها، فالرواية تبدأ باستحضار شخصية فكرية هي شخصية أبو بكر الصولي، الذي يمثل الشخصية المفكرة في الرواية، ليتحدث بعد ذلك باستشراف مستقبلي عن الواقع التي سيعيشه المقتدر من خلع وطرد وعودة إلى سدة الحكم من جديد، أما الظاهر في البناء السردي تولية بعض الشخصيات الحديث عن معالم الحدث النصي، ومنهم الجهشياري الذي أوكل إليه الكاتب الحديث عن شخصية المقتدر الخاصة؛ لأن الجهشياري شخصية تاريخية معروفة في ذلك الزمن، حيث كان مفكرا وأديبا وكاتبا، كتب " كتاب الوزراء والحكام "، و" الخليفة المقتدر " الذي لم أعثر عليه، ولعل الكاتب قصد تولية هذه الشخصية سرد وقائع حياة المقتدر لأنه لازم المقتدر كثيرا وكتب عنه مخطوطا ربما لم يحقق حتى الآن، ثم يعود السارد العليم مرة أخرى للتحكم بمجريات أحداث الرواية، ونجد أن السارد اهتم بتقنيات الزمن الروائي المعاصرة، فنلاحظ الوقفات الوصفية المتعددة، لاسيما أثناء الحديث عن بعض الشخصيات الحاضرة في الرواية، ومن ذلك على سبيل المثال: " دخل أبو بكر الحسن بن علي بن بشار بن العلاّف، خفيفا في كل شيء، لحيته الناعمة القليلة، حجمه الخفيف، ثيابه الخفيفة رغم برد هذا الشتاء، عمماته البغدادية الأنيقة، كان كل شيء فيه ناعماً وخفيفاً ورقياً ويشي بضعف كامل واستسلام نهائي .. " الرواية ص19، ومن تقنيات الزمن أيضا الاستباق الزمني الذي يشير إلى قدرة السارد على امتلاك القدرة على تحريك الأحداث والشخصيات في الرواية، ومن ذلك قوله: مؤنس سيقتل المقتدر هذا اليوم .." ويهدف الكاتب من توظيف الاستباق إلى تشويق القارئ لمعرفة ما ستتأول إليه الأحداث، عدا حضور الحذف العلني والمضمن داخل المتن النصي، وخلاصة بعض الأحداث أيضا.
وتبرز معالم التخيل التاريخي في هذه الرواية في قدرة الكاتب على تحوير الحدث المتخيل، وذلك من خلال سرد الوقائع بطريقة مغايرة لما ورد في كتب التاريخ، ومن الأمثلة على ذلك، حادثة مقتل قائد الشرطة " نازوك " الشخصية التي كانت ترمز إلى الاستعلاء واستحقار الآخرين، فقد ورد في كتاب " تجارب الأمم " و " تاريخ ابن خلدون " أن نازوك كان رجلا مكروها في بلده، فيعد عودة المقتدر ألقى خطابا فلم يرق للعامة فقتلوه وصلبوه، أما المؤلف في رواية " القرمطي " فقد تحدث على لسان سارده عن أن نازوك قُتل على يد بعض العبيد بتدبير وتخطيط السيدة " شغب " أم المقتدر، المرأة المسيّرة لأمور الدولة كلها، والمتحكمة بكل التصرفات التي يقوم بها ولدها المقتدر، فذهب نازوك إلى بيت الكهرمانة ثمل، ما إن وصل سكرنا حتى قتل داخل غرفتها، ولم أجد مؤرخا ممن قرات لهم قد تحدث عن هذه الحادثة بالطريقة التي عبّرت عنها الرواية هنا، وغلب على سرد هذه الحادثة جمال اللغة الروائية التي تخلوا منها كتب التاريخ، يقول السارد – على سبيل المثال : " في العتمة جاء نازوك من باب زيزك، جاء متخفياً بزي الخدم، قاده غلام صغير إلى حجرة ثمل القريبة من حجرة سيدتها شغب، وما إن دخل نازوك بجرمه الضخم حتى دهمته رائحة الزعفران والعصفر، نازوك يعرف معاني هذه الروائح في بغداد، هبّت غرائزه كلها، استفزت كل شعرة فيه، انتشر كسارية تعانق ريحا طيبة، نظر فوجد وجه ثمل بين شمعتين طويلتين لهما قاعدة فضية تلمع، ارتجف الرجل وهو يمد يده المشعرة إلى يد ثمل البيضاء ...... يتبع قراءة من الرواية نفسها ص130.
والملاحظ من خلال السرد السابق اهتمام السارد بنقل معالم الحدث بأدق تفاصيله، لينقل القارئ بمشاعره إلى فضاء المكان الذي يصفه، وهذا ما لا نجده في كتب التاريخ التي اكتفت بذكر مقتل نازوك دون إشارات أخرى لذلك، ولعل أبرز سمات الروايات المتخيلة، ذكر حاسة الشم، وأثرها على الشخصيات داخل الحدث الروائي، فحاسة الشم للأشياء المادية التي تُذكر تجعل القارئ جزءا من الحدث المتخيل، وهذا ما وجدته في رواية " زرياب " لمقبول علوي، و " البيت الأندلسي " لواسني الأعرج، و " شوق الدرويش " لحمّور زيادة.
كما ظهر السرد المغاير أثناء الحديث عن هرب الخليفة المقتدر من قصره، فالكتب التاريخية ترى أن المقتدر وقع في أسر مؤنس الخادم، دون تفصيل بذلك، أما النص الروائي فينقل لنا بالتفصيل حيثيات هروب المقتدر وكيفية تنقله ومكوثه مدة عند ابن دريد، موضحا السارد بعض الصور الدلالية من تلك الحادثة، لاسيما صورة المرأة في تشكيل الحدث الروائي.
وكان للشخصيات في الرواية جزء مهم من فكرة المتخيل، فالشخصيات في الرواية التاريخية تمثل جوانبها الوظيفية التي كانت عليها في زمنها، إلا أن تقسيمها بما يلاءم النص يجعل منها فكرة إضافية للمتخيل الروائي في الرواية التاريخية، فقارئ " القرمطي " يجد أن الكاتب أعطى لكل شخصية مكانتها التي تناسبها، فالصولي والجهشياري وابن دريد من الشخصيات التي عبّرت عن النزعة الفكرية التي كانت شائعة في ذلك الزمن، ومؤنس الخادم ونازوك والقرمطي شخصيات ملائمة للحديث عن العنف وإراقة الدماء والصراعات الحضارية، وكان لكل شخصية دورها الذي يتوافق مع الحدث الروائي الذي اختلقه الكاتب نفسه، فلم يذكر ابن الأثير ولا مسكويه ولا ابن خلدون ما قاله ابن دريد عن المقتدر، ولا ما ذكره القرمطي أثناء احتلاله الكوفه، فالمشاهد الحوارية التي كانت تدور بين الشخصيات كانت مختلقة ونابعة من تفكير الكاتب، ليوثق علاقة الشخصيات ببعضها.
ومن ملامح التخيل التاريخي في الرواية زمن القراءة المتعدد، الذي يجعل من النص نهجا مطابقا للزمن الذي يقرأه القارئ، فالزمن الأول لطباعتها كان صالحا للأحداث التي مرت بها فلسطين ذلك الوقت، ولو أعيد طباعتها مرة أخرى عان 2015، لحسب للقارئ أن الرواية تتحدث عن الأحداث الجارية في سوريا والعراق، فعلني وأنا أقرأ الرواية أجد أن بعض الأحداث مشتركة، لاسيما الصراع الطائفي الذي يؤدي إلى صراع حضاري، كان حاضرا في العصور المتأخرة للعصر العباسي، وها هو الآن يعود مرة أخرى في البلاد نفسها، وعلني وجدت النص يمثل سردية قوليه تحمل في طياتها معالم الرمز المتخيل الذي يختلج في نفس الكاتب وتفكير القارئ أيضا.