نشر بتاريخ: 24/05/2016 ( آخر تحديث: 27/05/2016 الساعة: 09:43 )
شارك
كتب عبدالله بدران
علمنا أن من يواجه الموت هنا كمن يشرب الماء، تحركنا قليلاً لرصد حركة التنظيم عبر أجهزة التقريب، فطلب منا الانتقال لموقع آخر تكون فيه الصورة أوضح وأفضل وأكثر أمناً. بعدها علمنا أننا قريبون جداً من خط المواجهة مع داعش، لا تصدق حينها أن أمتاراً تفصل متقاتلين من جبهتين وقروناً من الفكر. اقترب المتقاتلان وتبادلا القتال بالرمانات اليدوية، فيلم سينمائي هنا، حرب ضروس، وقتال الموت فيه لمن يستسلم أولاً، سألنا ما الهدف من هذه العمليات في الفلوجة ولم أنتم منذ اكثر من سنتين في هذه المنطقة؟
ثلاث ساعات قد تضطر لقطعها مع مواكبة أمنية من فصائل المقاومة العراقية للوصول إلى الفلوجة بالرغم من أنها تبعد خمسين كيلومتراً عن العاصمة العراقية، لكنك تضطر لسلوك الطريق الذي حررته هذه الفصائل أو على الأقل قدمت في عمليات التحرير إسناداً أمنياً للقوات العراقية، والوجهة إن صح التعبير عاصمة داعش حيث العمليات اليوم لتحرير أبرز معاقل التنظيم. صيف العراق ساخن وصيف الفلوجة أسخن، تنقلنا الآليات عبر طريق دولي بعد أن تجتاز صدر اليوسفية جنوب بغداد عبر حواجز تفتيش، واضح أنه ليس سهلاً عبورها حتى لمن هم من مقاتلي الفصيل ذاته دون تنسيق مسبق، والسبب إجراءات أمنية اتخذها فصيل يعتبر الأكثر غموضاً في إدارته وعملياته وسلم القيادة فيه. نجتاز الطريق السريع بسيارتنا وأحياناً نضطر لأن نخفف السرعة بسبب الحفر التي أحدثتها قذائف المورتر التي أطلقها التنظيم، وأخرى في الطريق الدولية التي لم تشهد صيانة منذ احتلال العراق في عام 2003. ثمانية حواجز أمنية أو يزيد تكاد لا تجتاز آخرها بأكثر من كيلومتر حتى يعلمك المرافقون بضرورة فتح نوافذ السيارة. تنبيه لا حاجة لأن تسأل عن سببه، فالأصوات أبلغ جواب، والصورة خير دليل. صيف لاهب هنا، وحرارة الأرض تنفذ إلى قدميك، لكنك تنشغل هنا بشباب لا تزيد أعمارهم عن 25 عاماً، بعضهم بلحى وآخرون تعرف أنهم قادة عسكريون من هيئتهم وممن يرافقهم من أمن شخصي.
الكل هنا يفترش الأرض، ليس للراحة، بل هنا الفلوجة لا تهدأ قاذفات الصواريخ الثقيلة إلا لتعبئتها أو لإجراء تصحيح عليها قبل تكرار القصف، ما اسم المنطقة تحديداً؟ نسأل فيأتي الجواب "إنها الهياكل" خاصرة الفلوجة الجنوبية، وهيبة داعش ورأس حربته يوم هدد بغداد بحرب مياه الفرات بعدما احتل سدة النعيمية المسؤولة عن دفعات المياه. أعمدة الدخان اختلطت بالسحاب ودونه، أصوات القذائف بأنواعها، أسلحة ثقيلة، ومدفعيات من طراز 155 ميلمتراً أو كما يعرفه العراقيون المدفع النمساوي، وصواريخ أطلقت عليها الفصائل أسماء خاصة بها، من إنتاجها بشكل كامل. اقتربنا أكثر من مجموعة مبان تراصفت وواضح أنها مطبخ العمليات العسكرية، لكن المفارقة أنها قريبة من موقع الاشتباك المباشر، واعتاد قاطنوها من هندسة ومراقبة وقسم التنصت على شبكات اتصالات داعش، على اهتزاز المبنى كلما سقطت قذيفة هاون. اقترب مصورنا من إحدى فتحات ما كان يفترض أنه شباك ألغته المعارك، فطلب منه الابتعاد، أو التصوير سريعاً والاختفاء على الأقل خلف الحائط. علمنا أن من يواجه الموت هنا كمن يشرب الماء، تحركنا قليلاً لرصد حركة التنظيم عبر أجهزة التقريب، فطلب منا الانتقال لموقع آخر تكون فيه الصورة أوضح وأفضل وأكثر أمناً. بعدها علمنا أننا قريبون جداً من خط المواجهة مع داعش، لا تصدق حينها أن أمتاراً تفصل متقاتلين من جبهتين وقروناً من الفكر، كيف يمكن لمساحة لا تزيد عن 500 متر إن لم تكن أقل، أن تجمع مقاتلاً من داعش وآخر من كتائب حزب الله، اقترب المتقاتلان وتبادلا القتال بالرمانات اليدوية، فيلم سينمائي هنا، حرب ضروس، وقتال الموت فيه لمن يستسلم أولاً، سألنا ما الهدف من هذه العمليات في الفلوجة ولم أنتم منذ اكثر من سنتين في هذه المنطقة؟ علمنا أنها سلة داعش الغذائية، ومنفذ التنظيم إن أراد تهديد بغداد، إن لم يكن بالسلاح واستهداف مطارها، فبإغراقه محيط أبو غريب غرب بغداد بمياه الفرات.
من بعيد لا تتضح الصورة لمن يشاهد، بعض أسلحة داعش بدائية كأفكاره، منجنيق لاستهداف الأفراد وتجمعاتهم، وصواريخ يصنعها داخل المشفى العام للفلوجة لضمان عدم استهدافه من قبل الطيران. هكذا كما تم التعميم من قبل قيادات نافذة لجهة تحديد مواقع تجمع المدنيين، اقتربنا أكثر ليس سيراً على الأقدام هذه المرة بل عبر شاشة تتراصف مع أربع شاشات على حائط كبير، وهي متصلة بكاميرا حرارية داخل غرفة في بيت بعيد بعض الشيء عن خط المواجهة. هنا ترصد تحركات مسلحي داعش في حزام جنوب الفلوجة، ومن هنا يطلب تنفيذ القصف، وهنا يجتمع عسكر كبار لرسم خطط العمليات والعمليات المساندة للقوات العراقية. هدوء قاتل يخترقه طوال الوقت صوت ذبذبات الاتصالات اللاسلكية أو صدى قصف المدفعية والصواريخ الثقيلة، علمنا أن هدف العمليات الأولى إكمال الطوق حول محيط الفلوجة كلها وما يعرف عسكرياً بخلق نقطة تماس بين مختلف الصنوف التي اندفعت لتحرير المدينة. فهدف العمليات التي أسندت للقوات الساندة، هو إكمال تحرير كل ضواحي الفلوجة ابتداء من جنوبها عند الفرات وإكمال مسيرة على طول حدودها الشرقية مع بغداد باجتياز منشأة كبيرة اسمها المستشفى الأردني وتأمين جسر الموظفين أبرز نقاط اتصال داعش بين الفلوجة وخلايا التنظيم في الضواحي التي تصل العاصمة العراقية. وهو نقطة أساس لاتصاله بالطريق الذي يشطر الفلوجة إلى جزأين شمالي وجنوبي بما يسّهل مهمة الجيش العراقي وجهاز مكافحة الإرهاب وقائد عمليات تحرير الفلوجة.
من شدة الهدوء في تلك الغرفة الكبيرة، تحاول أن تهمس حتى لمن هو بعيد عنك، تقترب من مجموعة حواسيب على طاولة من أسندت لهم مهمة العمل الاستخباراتي فتكتمل عندك صورة داعش. فأنت شاهدت تحركاتهم على شاشات تعرض صورها نقلاً عن الكاميرات، وفي الحواسيب هذه أصوات نداءاتهم، ومن خلاصة النداءات التي تستمع لها عبر سماعة الأذن يحدد من يدير العملية ما ينفع لتنفيذ ضربة أو استهداف موقع أو يقيّم حالة عسكرية وكل ذلك بهدوء. المكان ضجر لأن الهدوء قاتل ولا يمت بصلة لحقيقة ضجيج الخارج، حاولنا أخذ الموافقة لاستخدام أحد الحواسيب الكبيرة وتمت الموافقة وبدأنا بعملية نسخ عبر إحدى الشاشات، وأيضاً بهدوء استمر حتى فوجئنا بصرخة صوت عال، انتبه .. انتبه .. الشاشة .. الشاشة. ما الذي يجري؟ سألنا، فعلمنا أن الشاشة بتقنية اللمس، وأن نحلة كادت أن تقف على إشعار رفض أحد الأوامر في شاشة الحاسوب المثبتة على الحائط وكانت ستلغي عملنا وتربكه. وهل أنتم هكذا طوال اليوم وهي منطقة عمليات زراعية والحشائش تنعش وجود الحشرات كما تؤمن غطاء لمسلحي داعش؟ لا فالبديل اليدوي موجود، ولا شيء سيوقف العمليات صوب تحرير الفلوجة حتى تحريرها والوصول إلى مركزها.