مخيم جنين رفع العلم الأبيض
نشر بتاريخ: 12/06/2016 ( آخر تحديث: 12/06/2016 الساعة: 18:13 )
مقالة جدعون ليفي في هأرتس- ترجمة أمين خير الدين.
هدوء يخيم على المكان الذي كان شديد الرعب خلال الانتفاضة الثانية. بدون قتلى منذ أكثر من سنتين، وبلا إصابات،تحسنت الحالة الاقتصادية، ويشغل بال السكان التغريدُ على الفيس بوك أكثر من المقاومة. السؤال: إلى متى؟؟؟
حمامتان. واحدة بيضاء والأخرى رماديّة، حلّقتا، رمزا للمعاناة، في فضاء القاعة الكبيرة التي تُبنى عند آخر مخيم اللاجئين جنين، وتُسمى القاعة التي مساحتها 750 م2 "نيسان" تذكيرا بالشهر الذي بدأ به زحف ج.د.ا. سنة 2002 والذي ترك دمارا فظيعا في المخيم ، بُنيت القاعة من قبل اللجنة الشعبية في المخيم، وهي التي ستديرها، ويمكن للسكان استئجار القاعة بسعر التكلفة. ستكون الحفلة الأولى المُتَوَقّعة، آخر شهر رمضان، حفلة زفاف جماعي ل - 27 زوجا، وسيُمْنح كل زوجين 3000 $ هدية من اللجنة، بادرة تفاؤل في مخيم جنين.
تُسْتكمل، ليس بعيدا عن القاعة عدة مشروعات: دوّار العودة، سيُكْتب على طوبة بيضاء ومُصمّمة أسماء أل- 57 قرية التي هرب منها، أو طُرِد منها آباء سكان هذا المخيم. وكذلك بوابة مدخل المخيم من حجر أبيض منحوت، كُتِب عليه: "محطة انتظار لحين العودة"، ستُسْتبدل قريبا نماذج المفاتيح النحاسية الكبيرة التي تزين البوابة: وقد احتج السكان لأن هذه المفاتيح تبدو كقيثارة وليست كمفاتيح البيوت الضائعة في فلسطين.
ودُشِّنت، مؤخرا، أيضا مقبرة جديدة في المخيم. أقيمت المقبرة الأولى بعد اقتحام ج.د.ا. فامتلأت حتى لم يعد بها مكان،: أقاموا في ساحة الألعاب الكبيرة، التي كنّا فيها مرة، في مهرجان المقاتلين المسلحين، في عزّ الانتفاضة الثانية، أعمدة إنارة جديدة، وجُدِّدت العبارة ، ذات المغزى، المكتوبة على الحائط: "وإن لم أرجع، يكفي أنني حاولت" وليس بعيدا من هناك، افتُتِح سوبرماركت جديد، "العائلة السعيدة"، ومصلحة لغسل المركبات.
جنين، جنين. المخيم تغيّر عما كان عليه آخر مرة كنا فيها هناك، قبل أكثر من سنتين. فبل مقتل حمزة أبو الهيجاء بقليل. كان عمره 21 سنة، عرفناه في طفولته، عندما كان والداه في السجن. قال لنا حينها "لا تهتمّوا بي" قالها قبل أن يُطْلق عليه جنود ج.د.ا. الإسرائيلي النار فيقتلوه، بعد أن أطلق النار عليهم عندما جاؤوا لاعتقاله. كان، حتى هذه الساعة، القتيل الأخير في المخيم، مرّت سنتان وثلاثة أشهر بلا قتلى. مخيم جنين، تقريبا، لم يشارك في انتفاضة الأفراد الحالية، هنا لا يؤمنون بها، السكان مشغولون في الفيس بوك (حلبة لتبادل التغريد)، يهتمون بالوضع الاقتصادي المتحسن. ويهتمون بالكمية الكبيرة من السلاح الموجود في كل بيت --السلاح المستعمل أساسا للأفراح، لكنه يُقْلق السكان كثيرا، قال لنا أحدهم "من يتشاجر مع زوجته -- يطلق النار. من يُطْلق سراحه من السجن - يطلق النار. من يتزوج - يطلق النار". تحاول السلطة محاربة هذه الظاهرة، لكنها عاجزة عن المساعدة، وفي المخيم أيضا، قلقون من كقرة الحناطير لدى الشبان الصغار. معظم هذه الحناطير مسروقة من إسرائيل، يسوقونها في الأزقة الضيقة بوحشية خطرة.
السلاح والحناطير تقلق السكان أكثر من الاحتلال.
مخيم جنين، أكثر المخيمات نضالا، دُمّرته إسرائيل، قمعته وجرحته.يبدو محطما معنويا،على الأقل حاليا، كلٌّ إنسان ومصيره، كل واجتهاده الشخصي، من استطاع، انتقل إلى مدينة جنين، التي تزدهر نسبيا، خاصة بسبب عرب شمال إسرائيل، الذين يؤمونها للشراء. وأيضا على التلة العالية، حيث المناظر الخلابة، بُنيت في الآونة الأخيرة بيوت جديدة وفاخرة، لا زال ج.د.ا. يواصل اقتحام المخيم، لكنه أقل. فقط مرة في الأسبوع أو الأسبوعين، يدخل جنود مُشاة، يدخلون ألى البيت، يعتقلون أحدا، عادة بسبب "التحريض" عن طريق الإنترنيت، ثم يخرجون.، أحيانا الأولاد يرمون الحجارة على الجنود، لكن لا توجد طوابير مدرعات، أو سيارات جيب كما كانت تقتحم المخيم كل ليلة بضجة وإزعاج يبعث الرعب، أحيانا فقط في الصباح بسمع الأهالي أن ج.د.ا. فد اقتحم المخيم. مخيم جنين لم يعد كما كان، مخيم جنين ليس كما تظنون.
الطريق بين نابلس وجنين جميلة، المنطقة الوحيدة في الضفة الغربية النظيفة من المستوطنات، ونادرا ما يتجوّل ج.د.ا. عليها، ولهذا هي جميلة، في وسط مدينة جنين (تُصَنْدِلُ السيارات -المترجم) تُقْفِل البلدية عجلات السيارات التي تخالف القانون في وقوفها، قوات السلطة لا زالت تقلل من دخولها للمخيم، خوفا من سكانه المسلحين، اللافتات بالإنجليزية والعربية توجه إلى "قرية حداد السياحية" وإلى "مركز زوّار جنين" والفرع الجديد من "كونتاكي برايد تشيكين"، وكأن المدينة تغيرت من " مدينة المنتحرين" إلى موقع سياحة عالمي. المسيح لم يصل بعد، ولا السائحون، لكن شكل المدينة أفضل مما كان عليه قبل سنتين.
استيقظ المخيم هذا الأسبوع متأخرا: شهر رمضان هلّ، وجاء معه الحرّ والصيام نهارا والليالي المضاءة على السطوح، وجمال زبيدي أيضا استيقظ هذا الأسبوع متأخرا، في الساحة الفارغة بجانب بيته، حيث كان بيت ابن أخيه،زكريا زبيدي، قائد كتائب شهداء الأقصى، البيت الذي هدمه ج.د.ا. في الانتفاضة الثانية، أُقيم بيت جديد لابنه جمال يوسف.
يعمل يوسف الذي لم يكن أسيرا في محل لبيع الساندويشات في المخيم، نصف أبناء عائلة جمال لا يزالون في السجون: حُكِم على ابنه نعيم بالسجن - 33 شهرا يقضيها في سجن كتصيعوت، وابنه حمود منذ سنة في سجن مجيدو، ينتظر المحاكمة، ابن أخيه وصهره ينتظر الإفراج نهاية السنة، بعد 12 سنة سجن. أخوه يحيى سيفرج عنه بعد سنتين، بعد 16 سنة سجن. وهناك ابن أخ آخر،داود، حُكِم عليه 54 شهرا ، وإسماعيل، ابن أخيه، من القرية القريبة بروكين، يقضي 29 سنة سجن، كلهم أُدينوا بتهم أمنية، حقّا إنها عائلة مناضلين.
رويدا رويدا بدأ يتسرب إلى وعيهم أن هذا كان عبثا: " منذ مائة سنه ونحن نناضل، ولم نحقق شيئا أبدا" هذا ما قاله جمال زبيدي بهدوء، في صالون بيته، والذي هدم ج.د.ا. جزأ منه. يرى أبناءه المسجونين مرة كل نصف سنة، من خلال الزجاج المُدرّع، أطْلق سراح ابن أخيه زكريا قبل ثلاثة أشهر، بعد أن أمضى أكثر من ثلاثة سنوات في المُعتقل الفلسطيني، لكنه يمنع من مغادرة رام الله، إتُّهِم من قبل إسرائيل بإطلاق النار على حاجز الجلمه قبل سنوات. وقد كان اعتقال الرجل، القط ذي التسعة أرواح، محفوفا بالغموض والشائعات، ومُنسّقا مع إسرائيل، ومع ذلك لا زال هناك حوالي مائة مُعتقل من المخيم في سجون إسرائيل.
جمال ابن ال - 60 سنة عضو في اللجنة الشعبية، من المؤثرين من بين سكان المخيم ممن التقينا بهم خلال السنتين ، يعترف أن الوضع في المخيم أفضل مما كان عليه قبل سنتين، لكن هذا التحسن لا يُرضي الرجل المتعوِّد على النضال والتّحمُل. " الناس لا يهتمّون بالسياسة، كلّ يهتم بنفسه. لقد يئسنا - في القتال لم نوفّق، وفي السياسة لم نوفّق"، يلقي بالمسؤولية على العالم العرب، الذي ترك الفلسطينيين لمصيرهم، في الحقيقة لا أحد في المخيم يعرف إلى متى هذا الهدوء.هل ضاع الأمل في التحرير، هل سُحِق هذا الأمل من قبل إسرائيل؟ من الصعب معرفة ذلك.
في مدخل المخيم، فوق أحد الأزقة، لا زالت صورة صدام حسين مرفوعة، كأن الزمان قد توقف. ربما يكون المكان الوحيد في العالم الذي لا زالت تُرْفع فيه صورة الدكتاتور العراقي. أُقيمت قبل سنة في المخيم لجنة متابعة، تعالج قضايا بين السكان، في مكان لا وجود لجهاز يحفظ النظام والقانون. تجتمع في أوقات متقاربة، لها مكتب على رأس التلة في المخيم، تتشكل من 30 عضوا، عشرة منهم فعالين بشكل خاص، وتُعتبر تجربة ناجحة، تُساندها اللجنة الشعبية الأولى. تدير الحياة في المخيم بتمويل من السلطة الفلسطينية ومنظمة فتح والتبرعات. انخفضت نسبة البطالة في المخيم، مع أنه لا تتوفر مُعطيات عن مداها، ولا وجود تقريبا لجرائم خطيرة في المخيم.
من المفروض أن تُفْرِح هذه المعطيات كل مَن تهمّه مصلحة السكان، هذا هو المخيم الذي عُرِف خلال سنوات، ليست قليلة، بالتضحيات والبطولات، ربما أكثر من أي مكان آخر في الأرض المحتلة، ومع ذلك، عندما خرجنا من المخيم، في ساعات ما بعد الظهر، في الوقت الذي بدأ سكانه يقبِلون على المشتريات، تحضيرا لاستقبال أول إفطار في رمضان، بدا كأن شيئا يتلألأ حزينا شديدا في الفضاء.