الثلاثاء: 26/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

رمضان يُلهب الوجع والحنين للقرى المدمرة

نشر بتاريخ: 19/06/2016 ( آخر تحديث: 19/06/2016 الساعة: 16:46 )
طوباس- معا- أشعل موسم الصيام وجع رجال ونساء فقدوا ديارهم خلال النكبة، وألهبت أجواء شهر رمضان الحنين في قلوب حراس الذاكرة وحارساتها، خلال الحلقة (51) من سلسلة "ذاكرة لا تصدأ" لوزارة الإعلام واللجنة الشعبية للخدمات في مخيم الفارعة.
وبحسابات التاريخ الهجري، فقد وقعت النكبة أوائل رجب عام 1367، فيما استمر صمود بعض القرى حتى رمضان ( الشهر القمري التاسع) كشأن إجزم القريبة من حيفا، والفالوجة قضاء غزة.

مفتول الريحانية
يسترد الثمانيني أحمد سليمان صبح تفاصيل شهر الصوم في قريته الريحانية بقضاء حيفا، فيروي: كانت البلد ممتدة على أربع حارات، ولم نعرف المسحراتي، وكان الجيران يبادرون لتنبيه بعضهم البعض على مائدة السحور، ويتناولون ما ينتجونه من أرضهم وماشيتهم ودواجنهن، فقد كانوا يعتمدون على أرضهم بكل شيء. أما المسجد فكان غرفة واحدة تبرع بها ابن البلدة محمود الحسين.
وحرص "الريحانيون" على تقليد رمضاني وقت الإفطار، وكانوا يطلقون عل اجتماعهم لتناول الطعام بعد الغروب ( الحوطة)، وفيها يجلس الرجال والنساء على انفراد، ومن كان يذبح الماشية يوزع معظمها على الجيران والأقارب.
واستنادًا لصبح، الذي أبصر النور في القرية القريبة من حيفا عام 1938، فقد اشتهرت الريحانية بأطباق( المفتول والبرغل)، وكان الراوي وأطفال القرية وفتياتها يذهبون لعيون الريحانية طلبًا للماء البارد أيام الصيف. كما شاعت في القرية أكلة ( بنات العيد)، وفيها تلف الفتيات الصغيرات على البيوت لجمع البرغل والسمن، ويخترن ثلاث نساء ليطبخن الطعام ويوزعنه يوم العيد على البلدة كلها. فيما كان الأولاد يذهبون إلى الألعاب الشعبية وأبرزها (المراجيح) التي تُجهز من حبال الجمّالين ( العاملون في نقل البضائع على الجمال)، وتثبت بأشجار كبيرة في البيارات بمحيط الريحانية.

مسحراتي الكفرين
ويستذكر الثمانيني أحمد عبد الله دغمان، حكاية الشهر الفضيل في الكفرين، فيقول: كان الأهالي يتبرعون لقراءة المولد والمدائح النبوية الرمضانية، وكنا نخشع حين نستمع إليها، وكان المولد ينتقل في كل ليلة من بيت إلى آخر، ويدعو من يقع عليه الاختيار الجيران والأقارب والأهالي.
يقول دغمان الذي أبصر النور في الكفرين المجاورة لحيفا عام 1936: أتذكر أمي وقريباتي ونساء بلدنا حين كن يصنعن على الرحى (الجاروشة المنزلية) البرغل خلال نهار رمضان، ويجهزن الشعيرية من الطحين في البيوت. ولا أنسى كيف كان الرجال والنساء يجمعون الخضروات من أراضي سهل الروحة قبل الإفطار، ثم يجتمعون قبيل الغروب في مجموعات لتناول الطعام مع بعضهم البعض.
ووفق دغمان، الذي رسم خارطة لقريته ببيوتها وحاراتها ولا زال يحتفظ بها حتى اليوم، فقد حرص المسحراتي الشيخ عبد الله على إيقاظ الناس، وكان يجوب الحارات، ويصلي بالناس التراويح، وكنا نذهب في رمضان إلى مقام (الولي) الشيخ مجاهد. أما النساء فيتوجهن لعيون الكفرين: البيادر، والبلد، وحمد، وصلاح، وادي البزاري، والحنانة، وغيرها؛ لجلب الماء البارد قبل موعد الإفطار بقليل.
وتروي الستينية فخرية نعجة، ما نقلته عن عماتها ووالدتها وزوجات عمها اللواتي كن يسبقن الفجر في قريتهن الكفرين، لإعداد وجبات من البرغل، فيما يوفرن الحليب الطازج والبيض والزبدة في البيت، ويحضرن منقوع (القمردين) من الليل، ويحفظن زير الماء بالخيش الرطب؛ للحفاظ على برودته.
تتابع: كان جدي إسماعيل يزرع على "عين الحنانة"، ويخصص محصولاً لمواسم رمضان، كالفجل والبقدونس والنعناع والملوخية، وتتناول العائلة الممتدة كلها السحور معاً. وظلت أمي تُحضر "المطقطقة" ( لفائف من العجين تُقلى في الزيت ويضاف لها الجبن واللوز والقطر) حتى بعد النكبة، أما عمتي عفيفة فظلت تعد حلوى البصامي( خبز الصاج الرقيق، المقلي بالزيت، والمُشبع بالقطر) في المخيم على أمل أن تعود إلى البلاد ولا تنسى حلواها.
تكمل: في موسم العيد كان عمي أسعد يربط الحبال بالأشجار العالية ، ويصنع المراجيح، وكانت أمي وبنات البلد الصغيرات يغبن فترة طويلة عن بيوتهن في اللعب، وخلال أيام الحر في العيد يذهبن للسباحة في عين الحنانة. أما حلوى العيد فكانت القطين( التين المجفف) وراحة الحلقوم.

وجع إجزم
تحفظ هدى الخطيب ما نقلته لها والدتها عن أجواء رمضان في إجزم المجاورة لحيفا، فقد طال صمودها حتى رمضان، ثم بدأت طائرات العصابات الصهيونية بقصف القرية بالتزامن مع وقت الإفطار، وقتلت العديد من المجتمعين لتناول طعامهم بعد يوم صيام طويل، فيما فر الناجون بجوعهم وعطشهم.
ومن الراويات التي تنقل عن أبناء إجزم، أن الأهالي كانوا يشاهدون الطائرات وهي تأتي من جهة البحر، وتشن هجماتها عليهم، فيما ظن البعض أنها طائرات ليست معادية، جاءت لقتال ضد العصابات الصهيونية التي تشن عليهم الهجمات ليل نهار.

"حوزات" بعلين
وتسترسل روضة جوابرة ابنة بعلين قضاء غزة: حدثتني جدتي صفية، عن أهل بلدنا، الذين كانوا يجتمعون في مجالس تسمى "حوزات"، ويحضرون الحمام والدجاج البلدي المحشي للأفطار، ويتسحرون على المهلبية(النشا المستخرج من القمح يدويًا والمخلوط بالحليب). وفي العيد، كان الأولاد يأخذون البيض ويستبدلونه بالحلوى من الدكاكين الصغيرة، وتذهب البنات للعب في المراجيح المربوطة بأشجار التوت.
واستنادًا إلى جوابرة، فقد حرصت عائلات بعلين على تقاليد قراها الأصلية، ونقلتها إلى مخيم الفارعة خلال شهر رمضان والأعياد، وبخاصة احترام الكبار، والاهتمام بالأطفال وتوفير الألعاب لهم.
تضيف: بعد النكبة وفي مواسم رمضان، عمل والدي ( خالد جوابرة) وأخي جهاد في تجارة قوالب الثلج، فقد أشتروا ثلاجة تعمل على الكاز، وكانوا يبيعون بضاعتهم بعد العصر، لغياب الكهرباء، وكان الناس يشترون الثلج بسرعة؛ لتأمين الماء البارد في أيام الحر. فيما كانت أمي ونساء المخيم يذهبن إلى (عين الفارعة) بجوار المخيم، لإحضار الماء بأوعية من الصفيح على رؤوسهن.

إفطار يافا
وتسكن في ذاكرة وطفة سوالمة، ما جمعته من أمها عن مدينتها يافا، فتبوح: كان الأهالي يذهبون إلى البحر في شهر الصوم هرباً من الحر، وبعضهم حرص على تناول فطوره قبالة البحر أو على الشاطئ. أما جدي محمود الأفندي فكان يجلس في ديوانه، ويجتمع عنده الأقارب والأصحاب لتناول السحور والإفطار والسمر.
تتابع: كنا ننتظر المؤذن أبو عطا ليصعد إلى مئذنة المسجد في المخيم، ونحن الأولاد نركض إلى بيوتهم بسرعة حينما يسمعون الأذان، وفي إحدى الأيام اشتريت من عوامة الحاجة زينب المصرية( جاءت إلى المخيم من مصر)، وتناولتها قبل الأذان بوقت قصير، وأنا أقول لأمي (بعدني صايمة). وكنا نشتري دبس الرمان، والطحينية والسمنة والسكر بالأوقية. وكنت أحني يداً واحدة، لأعيد أخذ العيدية مرتين، وحتى لا يميزني أقاربي، فأقول لهم: هذه اليد بيضاء لم تقبض المعلوم.

طبول الفالوجة
ويستعرض الثمانيني محمد صالح العرجا أجواء رمضان ببلدته الفالوجة قضاء غزة، فيقول: كانت مرشحة لأن تكون مدينة، ففيها بلدية، وأربعة مخاتير، وشبكة مياه، وسوق كبير يعقد كل خميس بحضور واسع من فلسطين ومصر ( سوق البرين)، وحرص أهلنا على استقبال شهر رمضان بتجهيزات خاصة، بعد معرفة ثبوت الصيام من علماء الأزهر بمصر، وكانت تنشط لدينا الزوايا الصوفية الأربع، ونستمع إلى دق الطبول والموالد الرمضانية كل ليلة، فقد كانت تولد أجواء جميلة وإيمانية.
ووفق العرجا، الذي خرج إلى الحياة في خريف عام 1934، فقد تمسك أهالي بتقليد رمضاني يومي أسموه (الخروج)، وفيه يحمل كل واحد منهم طبقاً من الطعام، ويجتمعون في مجالس الأحياء والحارات ويأكلون معاً. وكانت البلدية تشعل الشوارع بفوانيس الكاز من بعد العصر حتى ينفذ وقودها بعد السحور.
يكمل: كان لكل حارة في بلدنا مسحراتي، وكنا نستمع إلى خليل الراعي وهو يقرع الطبل ويوقظ الناس من نومهم، ولا تغادر ذاكرتنا الأكلة الشعبية في رمضان (المفتول)، والمنسف الذي كان يصنع بلا أرز، أما الحلويات الرمضانية فأشهرها المطبّق، وكان التجار القادمون من غزة يحضرون لأسواقنا (النمّورة)، الحلوى الشهيرة عندهم.
يتابع: سقطت الفالوجة بعد حصار وصمود طويل، وأذكر أن ذلك تصادف مع رمضان، وكنت صائماً، وأغمي عليّ من شدة العطش، فأدخلني والدي إلى المقهى، وأشربني العصير قبل موعد الإفطار. ولا أنسى مشاهد الجيش المصري المرابط والصائم في بلدنا، وأتذكر هروب الحصّادين من السهول القريبة إلى داخل البلد، وهم يحملون المناجل، بعد مطاردة العصابات الصهيونية لهم.

"توحيشة" صبارين
ويرسم الثمانيني عبد القادر حمد، صورة لحال رمضان في قريته صبارين المجاورة لحيفا: كنا نطحن ونخبز ونعيش من خيرات أرضنا، ونخصص صاعاً من القمح للعالم إبراهيم النعاني، الذي كان يتطوع في بلدنا، ويعطي الناس دروساً في رمضان، وكانت (الهيطلية) والزلابية والفطير والبرغل الوجبات الشائعة في رمضان، وحرص الأهالي على تسمين الخراف لذبحها نهاية رمضان، فيما كانوا ويعرفون توقيت حلول الشهر الكريم وحلول العيد من الراديو الخشبي الضخم والوحيد للمختار مسعود عبد القادر.
يقول: لا زلنا نحفظ (توحيشة) شهر رمضان للمسحراتي أسعد الناطور، ونتذكر استعدادات الرجال والنساء لموسم الصيام، وطحن البرغل، وتجهيز البيوت للشهر الفضيل، واعتماد الناس على ما تزرعه وتربيه في طعامها وسحورها.

"مولد" اللجون
ويسترد حسين سالم أبو مراد، المولود في اللجون عام 1930: كانت بلدنا غنية بالخضروات والحنطة والماشية، وفي رمضان لم نكن ينقصنا أي شيء من خارجها. وفيها أربع حارات: المحاجنة، والمحاميد، والإغبارية، والجبارين، وكانت العزائم دارجة بين أهلها، وفي المساء يقام مولد للشيخ حسن محاميد يحضره كثيرون، وكان المسحراتي محمود أبو كلاش يلف البلد لإيقاظ الناس كل ليلة، ونتذكر صوته الجميل. وكانت تنتشر الأطباق الشعبية الرمضانية، وتُحضر النساء مشروب( القمردين)، ويطبخ الناس على وقت السحور والفطور أيضاً.

حياة وبوح
بدورة أشار منسق وزارة الإعلام في طوباس والأغوار عبد الباسط خلف، إلى إن "ذاكرة لا تصدأ" لاحقت هذه المرة تفاصيل الأجواء الرمضانية استنادًا إلى روايات شفوية، مثلما عالجت في الماضي جوانب اجتماعية وعادات وتقاليد ومواسم، شكلت لوحة لطبيعة الحياة في القرى المدمرة قبل أكثر من ستة عقود.
وأضاف: استطاعت السلسلة خلال أربعة أعوام تتبع أكثر من 50 شاهد عيان على النكبة، باحوا بشوق وحزن ومرارة عن مدن وقرى وبلدات في شمال فلسطين ووسطها وجنوبها.