د. وليد الشرفا
دوافع التأسيس،
ملامح التمثيل
تتكثف الأسئلة في مشروع نقد الاستشراق بشكل متشابك، يعيد التساؤلات الأزلية إلى ثقل اللحظة وإحراجها، ويضع النتاج الإنساني العظيم في ميدان تأطير العلاقات بين الإنسان والزمان والمكان والذوات والأفكار والتقسيمات المعرفية لفصول تاريخية، بدأت بالابتكار ومرت بالنضج وعايشت "المقدس"، ثم خرجت منه برصيد موضوع لا يحمل وهم "الخروج من الإحداثيات القديمة، ليعاود الكرة بالعودة إلى درجة الصفر في محاولة للبدء بدورة جديدة، تعيد الإنسان إلى قداسته الفطرية البعيدة كل البعد عن الإنجاز الحضاري في ظل اشتباك الدلالة والمصطلحات وغياب الرؤية؛ أو لنقل انزياحها".
انتقالاً إلى حلقة أضيق في هذه السلسلة المعقدة لعلها تكون النافذة التي يمكن من خلالها الإطلال على رحاب المشهد الاستشراقي، ولعل النقيض يفصح عن المضمون المطلوب؛ فكيف يمكن الحديث عن التفاوت والنسبية والإنجاز الحضاري المتمثل بالدولة والقانون الدولي وتلك الإشكالات "السياسية" في المشهد العام للحاضر والماضي والمستقبل بها! فإذا كان كل تفوق "عنصري" يتجسد بتفوق على الأرض سياسياً واقتصادياً ومعرفياً يعني نهاية التاريخ، فهل يعني ذلك أن كل دورة حضارية تخلق تاريخاً جديداً! وبالتالي تقليص مفهوم التاريخ التراتبي إلى مفهوم "التجريب" المرحلي.
وتكفي الإشارة هنا إلى بيانات "هنتنغتون" التي أغلقت الباب خلفها، وهل يمكن بالتالي اعتبار مفاهيم هيغل واشبنلغر وهوسرل ـ مع تفاوت زمني ومفاهيمي بينهم ـ الذي قال بإفلاس الفلسفة ونهاية التاريخ الذي هو أوروبي ضمن الاستشراق وضمن الفلسفة المعاصرة في كثير من جوانبها.
لعل هذه العودة التنازلية تسمح بالقول العام والعريض إن لغة أية ثقافة لا تعكس الواقع، بل تخلقه استناداً إلى البنى والحدود التي تسمح بها تلك اللغة.
ويمكن الانتقال من هذا المفهوم البسيط إلى مفهوم أكثر تعقيداً، يرتبط بالخلق وبالعلاقة مع مخلوقات "إنسانية وثقافية" أخرى تلعب دور المجاورة في الزمان والمكان، ويرتبط كذلك بشكل الفعل المعرفي في التعامل مع هذه المتجاورات الأُخر ومعنى الرغبة والاندفاعية ومبررات الاكتشاف؛ لأنه عندما يدمر الفعل الناشئ عن الرغبة من أجل إروائها، واقعاً موضوعياً، ليبتدع بديلاً عنه في التدمير وبه، واقعاً ذاتياً، وتحويل واقع آخر غيره إلى واقعه الخاص بوساطة هضم وتبطين واقع "غريب" و "خارجي".
وأنا الرغبة هو بشكل عام فراغ، لا يتلقى مضموناً وضعياً وواقعاً إلا بوساطة الفعل السالب الذي يشبع الرغبة بتدمير "أللا أنا" المرغوب وتحويله وهضمه؛ فالمضمون الوضعي للأنا الذي أنشئ بالسلب، هو وظيفة المضمون الوضعي "للأ أنا المنفي".
ربما تفيد مصطلحات: الهضم، الخارج، التحويل، إلا – أنا، في تسريع المحاورة مع هذا العالم الفكري، الذي فتحه إدوارد سعيد في "الاستشراق"، لرصد رحلة المنهج المعرفي الأوروبي، من خلال اللغة والخطاب، ومن خلال العقل بوصفة أداة للتفسير والتقويم، والعلاقة بين المعنيين المذكورين في هذه التجربة، التي تبدو في بداياتها مجموعة من العلاقات "الفوقية والنفعية والاستغلالية بين الداخل وهو المؤسسة التي تمتلك السلطة، وبين الخارج، الذي هو الهامش، وهو هنا الشرق، وتترسم حركة العلاقة بينهما بممارسة "القوة – السيد – العقل – الغرب – الاستعراض" معجبة الشرق.
عند "الغرب" تعني الحالة صورة عكسية، أي كلما تم هضم هذا الشرق، أصبحت الحالة "الغربية" أشد صلابة ووضوحاً، وهذا ما حاول إدوارد سعيد رصده في نقده للثقافة الغربية التي بدأت تكتسب مزيدا من القوة والوضوح في الهوية عندما وضعت نفسها موضع المعاكسة مع الشرق باعتباره ذاتاً بديله، تأتيه من تحت الأرض.
وإذا كانت هذه المطبوعات تتوزع بين البحثي والعقائدي والتخيلي، فإن الفرضية الحادة انطلق منها سعيد ويقوم هذا البحث بمحاولة تأطيرها، فرضية تنفي المعرفة المجردة، وتقول إنها معرفة مرصودة مخطط لها، فالأشكال الاستشراقية توزيع للوعي الجعرا - سي جمالية وبحثية، واقتصادية، واجتماعية، وتاريخية، وفقه لغوية؛ فالفعل هنا فعل معرفي، ظاهرياً لكنه فعل استحواذي الغائي، آليته المعرفة ووسائله الحجج والمعايشة والتخييل أحيانا، وكلها أصابع استشراقية لإرادة سياسية تعزز المقارنة والمواجهة، تستفيد من التاريخ وتصادر الواقع وتستشرف المستقبل وفق مركزيتها الخاصة، مركزية الغرب في مواجهة الشرق، ولا يقصد بالمواجهة هنا، التصادم، بل ربما تعني المواجهة المعرفية، مواجهة الشريحة في المختبر، ومواجهة الشاذ المجهول للعيار والشائع، ولعل التفصيل بالكتابة عن الاستشراق كظاهرة قائمة متكاملة عبر زمن طويل، يؤكد طغيان هذه الظاهرة بصفتها تعبيراً عن إرادة ومصالح ابتكرت وكشف عنها من خلال الاستشراق سواء أكان بحثاً وتشكيلاً فقه لغوي أم تحليلياً نفسياً، فالاستشراق فعل ومبادرة وليس شكلاً للفعل والمبادرة والإرادة.
بدأ الاستشراق رسمياً بصدور قرار مجمع فينا الكنسي العام 1312، بتأسيس عدد من كراسي الأستاذية في اللغات، العربية والعبرية والسريانية في جامعات باريس واكسفورد وغيرها من الجامعات الأوروبية والأميركية، وبدأت هذه المراكز بالفعل بنسج شبكة من الافتراضات والرؤى وصممت الآليات لتجسيد هذه الرؤى والمواقف وفق خيار وحيد هو تجسيد وجهات النظر هذه حول الشرق طبعاً، وتعميقها وتأكيدها من خلال التغلغل في مجتمعات الشرق - الرحلات آلية لاحقاً - أو تفكيك نصوصه ونتاجه الثقافي في الاتجاه نفسه من خلال تثبيت صفات عامة للحركة الجماعية الشرقية عبر التاريخ، يقول بلفور في تجسيد واضح للعلاقة الجدلية بين المعرفة والسلطة المقترنة بضمير المتكلم، إن الأمم الغربية فور انبثاقها في التاريخ تظهر تباشير القدرة على حكم الذات، لأنها تمتلك مزايا خاصة بها، ويمكنك أن تنظر إلى تاريخ الشرقيين، لا يمكن أن تجد أثراً بحكم الذات .. كل القرون العظيمة التي مرت على الشرقيين .. انقضت في ظل الطغيان، ظل الحكم المطلق .. وكل إنجازاتهم أنجزت في ظل هذا النمط من الحكم، لكنك لا ترى أمة واحدة من هذه الأمم تؤسس بدافع من حركتها الداخلية (الذاتية) ما نسميه نحن – من وجهة نظر غربية حكم الذات.
تكشف هذه الفقرة عن الخطوط العامة التي تحرك نسيج الفعل الاستشراقي حيث الإنجاز – المعرفة – الحضارة الغربية، في مواجهة القسرية وغياب الذات وحضور الجهل والاتكالية والعجز في كل ما هو شرقي.
وتمتد الخيوط لتصل إلى عمق التشكيل الحضاري عبر التاريخ ليس في محاولة لمصادرة الحاضر وحسب وإنما في محاولة لاغتيال التاريخ.
يلاحظ هنا أن جهود بلفور ودعواته تنفي مطلقاً وجود أي جوهر مشترك، كما أنه تجاوز عملية التوصيف للثقافة العربية ليصل إلى عملية إنتاج (الشرق الآخر) في إطار مشروع هيمنة ثقافي وسياسي في آن.
إن عملية إنتاج الشرق كما افترضتها أطروحة سعيد عملية معقدة تتكثف فيها نوازع ثقافية وعرقية، وجغرافية، وتاريخية، هذا على مستوى التقسيمات الطبيعية، وهي كذلك شكل جدلي لوحدة الأنواع الأدبية أو أشكال المادة المنتجة حول الشرق فيما يعرف بالأرشيف الذي سيلتحم تلقائياً بالخطاب الاستشراقي المقترن بالمعرفة والطامح إلى السلطة، إذا دعمت هذه الفرضية، بالاستنتاج الذي ساقه سعيد نفسه، والذي مفاده أن التقدم الضخم في مؤسسات الاستشراق وفي مضمونه تواكبت تماماً مع مرحلة التوسع الأوروبي الفريد، فمنذ العام 1815، إلى العام 1914 اتسع مجال السيطرة الأوروبية المباشرة إلى حوالي 35% من سطح الأرض إلى حوالى 85%.
يفتح هذا التوازي بين الفعل السياسي المباشر وبين الجهد الثقافي المنظم والمتخذ أشكالاً عدة، يفتح الباب واسعاً لمناقشة جدوى ومصداقية التمثيل الأوروبي للشرق – من خلال نماذج وأشكال ستناقش لاحقا - الذي كان فردياً، والمقصود هنا شخصية المنتج سواء أكان باحثاً أم حاجاً، أم زعيماً سياسياً أم مبدعاً أدبياً، ومدى التغير والتحول الذي أصاب هؤلاء المستشرقين ضمن التقسيمات الزمنية التي لاحقها نقد سعيد لخطاب الاستشراق، وهو ما سيكشف عنه البحث بشكل متواتر، منذ عصر النهضة مروراً بالعصر الحديث وانتهاءً بالحاضر الذي ما زال كثير من رموزه قائماً حتى الآن، وهو ما وصفه سعيد بالاستشراق الآن.
تبدو صورة المشهد في بداياته كنشاط محتدم بين عالمين، مختلفين جغرافياً وتاريخياً، وبالتالي عقلياً، ولأن الأقوى هو الغرب في عصر النهضة كان لا بد لتوصيفات عدة أن تفرض نفسها، لتولد مجموعة من الثنائيات المتضادة، تبدأ بالمراقِب والمراقَب، والمرسِل، والمتلقي، ومن ثم، في النهاية؛ المعيار، والشريحة، وأخيراً خلق عالم من التمايز من عقلين تاريخيين، وجغرافيين وصولاً إلى الشكل الأكثر شمولية وهو المركزية الغربية.
لذلك فإن فلسفة الاستشراق "تكونت واستقامت بوصفها معطى من معطيات الممارسة العقلية الأوروبية، ثم خضعت تماما كونها كذلك إلى المركزية الغربية، التي قامت بترتيب شؤون الآخر وفق نظم وأنساق عقلية، بهدف أن تجد مكانها في منظومة تلك المركزية ... لذا انتزِع الشرق الذي هو موضوع الاستشراق أو بعبارة أخرى الشرق الاستشراقي من بنيته الثقافية وأعيد إنتاجه غربياً.
ربط سعيد هذه الفرضيات جميعاً ليصهرها في مكون واحد هو الخطاب "Discourse" الذي وجه واطر هذه الجهود المعرفية، لهدف وحيد وجدلي مع المعرفة هو السيطرة والاستحواذ، ومن ثم الإنتاج السياسي والاجتماعي وحتى العسكري فيما بعد، الذي تعرض له الشرق وهي مفاهيم استفاد منها سعيد من ميشيل فوكو في كتبه حفريات المعرفة والمراقبة والمعاقبة.
وتبعاً لهذه التصورات المفاهيمية – التي ستقرأ نماذجها لاحقاً – فان فرضية البراءة المعرفية تنفى، لتستبدل بالسلطة والإنتاج والوقوع في دائرة الفعل السياسي بما يتضمنه من سيطرة وتصنيف وجيش ومؤسسات سياسية وعسكرية، كما أن طغيان الخطاب، الذي استقرأه سعيد من خلال نماذج استشراقية سيظل الهاجس والفرضية اللذين سيفرضان نفسيهما على مدى الجهد التحليلي اللاحق في الاستشراق.
إن الخطاب في هذه الحالة بصفته حاملاً ومعايناً لفضاء وذوات محددين، جغرافياً وتاريخياً يمتلك حساسية خاصة لأنها تعاين ذاتاً جمعية من خلال ذات مقابلة، والأخطر هنا أنها نتجت عن معاينة ومعايشة، لكن هذه المعايشة والكتابة "أجازت للرحالة في القرن السادس عشر، كما للإثنولوجي في القرن العشرين، أن ينصب نفسه بمثابة الإنسانية الفيصل، أي تلك التي تمتلك سلطة تسمية الإنسانيات الأخرى، أو المجتمعات الأخرى ومنحها موضعاً ما ضمن تنوع الثقافات".
لقد بدأت هذه التوصيفات والمحاورات بشكل تصاعدي وتزامني، فكلما بالغت الحضارة الغربية، بالحديث عن ذاتها جغرافياً وتاريخياً، يحضر الشرق جدلياً ضمن هذين البعدين: الجغرافي، والتاريخي، وهما بعدان متخيلان - كمرحلة أولية للإنتاج – كانت دوائرهما البعيدة عجائبية، غريبة، تثير الفضول، فقد كان هذا الشرق ضمن العقل الجغرافي الأوروبي يتناوب ويتأرجح بين كونه عالماً قديماً يرجع إليه المرء كلما يرجع إلى عدن أو الفردوس ليؤسس هناك صورة معدولة جديده للقديم، وبين كونه مكاناً جديداً إطلاقاً، يرده المرء كما ورد كولومبوس أميركا، ليؤسس عالماً جديداً( ). في كلتا الحالتين يظل التدخل الطابع الأهم لهذا التصور على مستوى الجغرافيا العجائبية وعلى مستوى التاريخ.
فالمدخل الأوسع لفعالية التدخل على مستوى التاريخ لا يبتعد عن هذا التصور الذي بدأ يتبلور وينضج ويتمركز خلال مرحلة النهضة والتنوير الأوروبيين، وتلك الأسئلة الكبرى الشاملة التي أسست للعقلانية الغربية وتتوجت بالتاريخانية "فالاستشراق هو الوجه الآخر لفلسفة التاريخ، الوجه المكمل ولكن الضروري ضرورة إحدى اليدين للأخرى في عملية التصفيق، انه دون وضع الاستشراق في مكانه هذا من الفكر الأوروبي الحديث، ستبقى أطروحاتنا حوله ناقصه وغير مؤسسة.
لم تكن مفاهيم أو تصورات حول العجائبية والغرابة التي ظهر فيها الشرق كعتبة نحو الولوج والتجريب والمعايشة التي سيقوم بها الغرب نحو هذا الشرق التاريخي – القديم – الوحشي، البدائي، وربما الأصل، كما سيظهر لاحقا، وتبدأ الصورة بولادة المفاهيم الموازية، من أرض الاكتشاف إلى أرض المعجبة والهروب نحو الرعوية وأخيراً إلى فضاء مغامرة واستثمار وربما احتلال، وكان "الاستشراق هو الحبل السري الذي يغذي الثقافة الغربية بصورة الشرق المركبة طبقاً لشروط الاستشراق، بحيث أن المعرفة الاستشراقية أصبحت العنصر المهيمن في علاقة الشرق بالغرب.
لا بد الآن وبعد هذه المطارحات من ربط هذه المفاهيم والتحليلات بنماذج حيه للجهد الاستشراقي، وسيبدأ البحث هنا متوافقاً مع خط الاستشراق كما رسمه إدوارد سعيد، أي منذ عصر النهضة الأوروبية في اللحظة التي كانت فيها أوروبا تعيش مرحلة هجوم معاكس على كل الأصعدة في مواجهة الانحسار الإسلامي الذي أصبح رمزاً للرعب وذكرى مجموعات بربرية، ظلت تشكل هاجساً يهدد بالعودة في محاولة للتعدي على الأصل – المسيحية – التي نظرت إلى الإسلام على أنه نسخة مزورة ومزيفة عنها، وبالتالي تحولت صورة رموزه "وقياداته" إلى شخصيات يتناولها المخيال الغربي كرموز للرعب والخطر النائم.
يعتبر كتاب بارتلمي ديربيلو "المكتبة الشرقية" محطة مهمة وفاصلة على استشراق هذه المرحلة. قبل القرن التاسع عشر – الذي انتشر فيه الوعي الغربي لتكوين أرشيف من الدراسات والقراءات والتحليلات لتفسير هذه الطفرة التاريخية الإسلامية، وقد كان جهد ديربيلو الذي اشتهر بمعرفة اللغات الشرقية: العربية والفارسية، والتركية، حتى ألف قاموساً للغات الشرقية، واشتغل بتدريس التاريخ والشريعة والفنون في الشرق وظل كتابه "المكتبة" من المراجع الرئيسة السائدة في أوروبا حتى أوائل القرن التاسع عشر.
لقد قسم ديربيلو التاريخ إلى ماهيتين: مدنس، ومقدس وكان التاريخ الإسلامي طبعاً شاهداً على العصر "المدنس" الذي ألحق أضراراً بالمسيحية، يقول في تفسير هذه الرؤى مخاطباً أوروبا في تلك المرحلة: "هذا هو المنتحل المشهور ما هومت، المؤلف والمؤسس لهرطقة اتخذت لها اسم الدين، نسميها نحن الماهومتية، راجع المذهب (إسلام)، وقد نسب مفسرو القرآن وفقهاء الشريعة الإسلامية أو الماهومتية إلى هذا النبي المزيف.
إن هذه القراءة تفجر الأسئلة فيما يخص قراءة الشرق ورموزه والماهية التعليمية "الانتفامية" حول التاريخ والدين والبطولة الشرقية، فالمدنس في مقابل المقدس، الأصالة في مقابل الانتحال، النفعية في مقابل الولاء الخالص.
والهرطقة كبديل عن العقيدة الخالصة المتطهرة وإلى إشارتها للأسئلة حول ماهية الشرق، فإنها في الوقت نفسه تثير الأسئلة حول منهج المستشرق المتفقه المتعمق الجامعي، وتثيرها أخيراً حول المتلقي لهذا الاستشراق التعليمي وهو جمهور واسع من الطلبة والقراء الأوروبيين في تلك المرحلة التأسيسية "التي لا تقتصر على تحديد الشرق باعتباره إقليم المستشرق، بل إنها كذلك تفرض على القارئ الغربي المبتدئ أن يقبل تقنيات المستشرق (مثل مكتبة ديربيلو الأبجدية) باعتبارها الشرق الحقيقي، وتصبح الحقيقة باختصار وظيفة أدائية من وظائف المحاكمة المتفقهة.
إن هذه الجهود المتفقهة للشرق والإسلام وإن ظلت استشراقاً فوقياً أكاديمياً إلا أنها تحمل وتراكم ملامح محاكمات ستتراكم وتشق لها منهجاً موازياً لمنهج المعرفة، هو منهج المحاكمة والسيطرة لتجسيد المعرفة. من خلال المعرفة نفسها، فهذا التزامن في قراءة الشرق وهضم هوياته المتعددة وإعادة تشكيلها يبشر بالتسارع الرهيب الذي سيتضاعف تأثيره بشكل تلقائي، فإن المعرفة في مرحلتها الأكاديمية التأسيسية تتزامن مع بداية تأسيس شكل العلاقة مع هذا الشرق الذي كان في معظمه باستثناء الإسلام حتى القرن التاسع تحت السيطرة المباشرة ولعل الهند المستعمرة البريطانيا، وجزر الهند الشرقية المسيطر عليها برتغالياً نموذج لذلك.
يقصد بالتزامن هنا أن مرحلة الاطلاع كانت توازي أو تتزامن مع مرحلة السيطرة، لكن فيما بعد، فيما يخص الشرق العربي الإسلامي تحديداً، اكتسبت العملية تسارعاً حاداً، فلم تعد السيطرة أو التجهيز لها كما سيظهر لاحقاً عملية آلية تسبقها حالة مسح استشراقية كالتي قام بها جونز في الهند لدراسته قوانين الهندوسيين والمسلمين، والخطابة وعلم الأخلاق والقوانين – صنعته الأساسية – وليس آخرها أفضل السبل لحكم البنغاليين.
في المرحلة المقبلة، سيحتاج المشهد إلى مزيد من المراجعات التي تسبق الفعل المباشر، (حملات، زيارات) وكذلك فإن الخطوة التالية، أي بعد الحملة والسيطرة، والمعايشة لن تنتظر طويلاً لتتنقل إلى الخطوة الأخرى، على سبيل تعميق المعرفة متزامنة مع تعميق السيطرة.
*فصل مختار من كتاب "إدوارد سعيد ونقد تناسخ الاستشراق: الخطاب، الآخر، الصورة" لوليد الشرفا، صدر مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان و"مكتبة كل شيء" في حيفا ، وينشر بالتزامن مع ذكرى وفاة سعيد الثالثة عشر..