عائلة حرب إكتوت بنار "حرب" أفجعت البشر والحجر
نشر بتاريخ: 07/12/2007 ( آخر تحديث: 07/12/2007 الساعة: 13:51 )
رفح- معا- من هاجر حرب- التاسع من حزيران الماضي، السابع والعشرين من تشرين ثاني نوفمبر من العام 2007، تاريخان أرخا مأساة عائلة فلسطينية ذاقت مرارة اللجوء في الشتات تارة، وقسوة وظلم الاحتلال وعنف آلة الحرب الإسرائيلية والعيش فوق الركام، وفقدان الزوج والأخ والابن وفوق ذلك المال تارة أخرى.
المرة الأولى كانت صبيحة التاسع من حزيران حين أقدمت آلة الحرب الإسرائيلية على اقتحام منزلنا بعد أن أمعنت في توغلها له ولم تبق من طابقين كاملين سوى غرفتين أو ربما ركام كي نعيش على أطلاله, ولن ندخل في تفاصيل أكثر من تلك حول الحادثة الأولى، لان ما خفي كان أعظم.
اعتقدنا في تلك المرة أنها نهاية العالم وان ما فقدناه من مال كان المأساة الحقيقة بالنسبة لنا، ولكن حقا "لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع".
جاءت الفاجعة، ووقع ما كنا نخشاه دائما، ولكن ما حدث كان متوقعا، ولماذا لا؟! ونحن نعيش في المنطقة الشرقية من مدينة رفح وتحديدا في حي النهضة, وهو ذاته الشريط الحدودي الذي وقعت فيه عملية "الوهم المتبدد" التي أسرت خلالها فصائل المقاومة الفلسطينية الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في صيف عام 2005، ليتحول الشريط الحدودي الفاصل مع الخط الخضر وأراضي 48 في أعقاب تلك الحادثة إلي جحيم اسود يسقط بوابله على سكان المناطق الحدودية وكان من بينها عائلتي المتواضعة.
الحكاية وربما الكارثة التي ترويها لكم واحدة من سبع نساء قبعن مع أطفالهن أسيرات لزوايا الغرفة المتبقية من آثار الحادثة الأولى, بتن لا يجد لهن معيلاً ولا سنداً في هذه الدنيا سوي الخالق, بعد أن فقدن الأب الحان، والأخ الغالي، والزوج الحبيب، بفعل حادثة لا تنطق إلا عن همجية ووحشية لا مثيل لها تنتهجها دولة الاحتلال يوميا بحق الفلسطينيين.
الساعة الثانية بعد منتصف الليل، السابع والعشرين من الشهر الماضي، بدأت العملية العسكرية الإسرائيلية كعادتها في المنطقة مصحوبة بغطاء مروحي من الطائرات الحربية الإسرائيلية، وسط أطلاق نار كثيف وعشوائي حاصرت خلالها منازل المواطنين، وأرعبت الأطفال والنساء والشيوخ وحتى الرجال، الذين فروا هذه المرة من منازلهم ليكونوا بمأمن من شر عدو لا تعرف نواياه، الفارق بين الحادثتين يكمن في التوقيت اولاً، وفي أداة الجريمة ثانيا، وفي العواقب الكارثية للحادثة ثالثاً.
الفارق الأول أن حادثة الهدم والتهجير جاءت في وضح النهار ولكن دون أن تقل عن الثانية في قوتها، في حين كانت الأخيرة في ساعات الفجر الأولى وسط ظلام دامس، وبلا شك فإن الهدف من وراء اختيار التوقيت كان مدروسا لدى قيادة الجيش المحتل.
أما الفارق الثاني فكان أداة الجريمة، فعلاوة على استخدام آلة الحرب والجنود المدججين بأعتى الأسلحة أنتشر على الأرض جنود من نوع أخر "أو ما يعرف بالقوات الخاصة الإسرائيلية" وهم لمن لا يعرفهم " أفراد من الجيش الإسرائيلي، ينتشرون بكثافة في المناطق الحدودية تحديدا، يتنكرون بالزي المدني وربما يرتدون الثياب الشعبية الفلسطينية، يجيدون اللغة العربية، وهم على دراية كافية بالعادات والتقاليد الفلسطينية، يتعاملون بشكل أساسي مع المتعاونين مع دولة الاحتلال من العرب ( العملاء) كي يكن لهم أعين راصده في كل مكان حتى لا تخفى عليهم خافية".
هذه المرة في الفارق الثاني كان الجنود يتنكرون بزي رجال المقاومة الفلسطينية، تساندهم الدبابات ولكن بمكان ليس ببعيد، حاولت أن تخفض صوت جنزيرها الذي يخرج كصوت المطحنة من قوته, اختبأوا في حفرة تبلغ عدة أمتار كانوا يصبغون وجوههم باللون الأسود وبمجرد وصول رمزي احد أبطال الحادثة وقع المحظور والمتوقع. باغته احد الجنود بعد أن انقض عليه وقام بتكميم فمه وأمره بالسكوت بعد أن أشار إليه بجهاز ليزر كان يحمله في يده. ودار بينهما الحوار التالي الذي افتعله رمزي ليعطي إشارة تنبيه لمن تبعه من أشقائه وأبناء الجيران بأن جنودا على الأرض وان من يقترب سوف يذهب إلي دون عودة.
الجندي بعد أن شتمه "شيكت.. شيكت" بصوت عالي.
رمزي: "مازي" ما هذا "شيكت" اسكت"؟؟ حاول أن ينطق بكلمات عبرية تخللها لفظ انتوا يهود يهود، بالطبع كانت بصوت مرتفع ليوصل رسالته.
ولكن القدر كان اقوي من صرخاته حين تبعة شقيقة سعيد وصديقه علي الصوفي، لعلكم تذكرونه ذلك الفتي الذي استشهد في ذات اليوم وأعلنت عنه وسائل الأعلام، وهو الذي كان وأخي بطلين إضافيين لقصة العذاب. ثوان معدودة بعد وصولهما ووقعهما كفريسة بين براثين الاحتلال كان علي في عداد الموتى بعد أن أطلقت عليه الدبابة الإسرائيلية رصاصة فارق على إثرها الحياة، تاركا خلفه صديقا عاهده دوما على البقاء لا يفرق بينهما سوى الموت، ولكن سعيد الذي لم يبلغ عقده الثاني بعد ألم به الألم ليترك مدرجا بدمائه بعد أن أصابه عيار ناري في وجهه أدى إلى تهتك الفك من الجهة اليسرى.
كل هذا ورمزي لا يزال رابضا تحت نير الاحتلال يرى مشاهد الإعدام ولا يقوى على فعل شئ، لكن سعيد وبكلمات أراد أن يذكر رفيق دربة بنطق الشهادة قال" قولوا لا إلا الله تفلحوا " ونطق الشهادتين خشية أن تكون اصابته سببا في وفاته إذا ما بقيت دماؤة نازفة.
لم يرتكب سعيد وعلي ذنباًَ, سوى أنهما من حملة الهوية الفلسطينية وحملة الشهادات الجامعية دفعهما الخوف على مستقبل جهلوه للفرار حاملين حقائبهم الجامعية حين تحولت دفاترهم إلى شاهد أزلي بعد أن خطت بدمائهم الحمراء سطور عذابهم. لأنهم باختصار يدفعون ثمن فلسطينيتهم.
ثوان معدودة كانت الفارق الزمني بين وقوع علي وسعيد فريسة في قبضة المحتل وبين قدوم الضحية الرابعة لهذه الرواية، إبراهيم الشقيق الثالث لسعيد ورمزي، لم يحرك ساكنا ولم يرى ما حدث لان الاحتلال عمد إلى إخفاء جثة علي في تلك الحفرة سالفة الذكر، وكذلك البطلين الآخرين، ولكن اعتراض الجنود لطريق إبراهيم وسط ظلام دامس دفعه للاعتقاد بأن من اعترض طريقة أناس عاديين من بني جلدته، ما أثار غضبة، ولكن رصاصة احدى المجندات كانت أسرع من ذلك الغضب فأصابته في قدمه اليسرى بعد أن قالت "طول عمري بأتمنى أن أطلق النار على مواطن فلسطيني".
لم يرحم الاحتلال إبراهيم حين تركه ينزف بعد أن أمره بالوقوف مسندا ظهره إلى سياج شائك كنوع أخر من العذاب، كل هذا بعد أن جردوا جميعهم بمن فيهم الشهيد من ثيابهم وسط برد قارس.
ولكن الحدث الأبرز في هذا، ما تعرض له محمد حرب والدهم البالغ من العمر "48" عاما بعد أن هرول مسرعا لإنقاذ حياة أبنائه الثلاثة بعد أن ألهمه الله بأن صوت الرصاص الذي سمع كان مستهدفا لفلذات كبدك، وبمجرد وصوله أطلق جيش الاحتلال النار عليه بشكل عشوائي وعلى مسافة قريبة جدا ما أدى إلى إصابته برصاصة في البطن وأخرى في القدم وهو يصرخ من شدة الألم ويقول لهم " جئت لأحمي أبنائي" ، إصابته الخطيرة والتي كانت ستودي بحياته لولا تدخل العناية الإلهية، دفعت احد ضباط الجيش إلي إرسال رسالة لقيادة الجيش المتمركزة في معبر كرم أبو سالم والمشرفة على أي عملية عسكرية إسرائيلية يقوم بها الجيش في المناطق الحدودية من مدينة رفح بأن يرسل طائرة على وجه السرعة ليتم نقل الأب إلى مستشفى سووركا في بئر السبع ليتلقى العلاج اللازم، ليس حرصا على حياته وإنما خشية من أن يلقى حتفه دون أن يتلقى جرعات العذاب البطئ على أيدي جنود الاحتلال أثناء فترة التحقيق.
كانت الساعة قد وصلت إلى الخامسة فجرا من صبيحة يوم الأربعاء الثامن والعشرين من نوفمبر، انتهت العملية ولكن قبل أن يسدل الستار على حادثة القتل والاختطاف والتعذيب، نقل المعتقلون الثلاثة عبر مجنزرة إسرائيلية إلى معسكر الجيش دون أن تعرف عنهم أي تفاصيل. أضف إلى قيام الجيش بسحب جثة علي التي باتت كغربال من كثرة ما أطلق عليها من رصاص إلى مكان بعيدا جدا عن مكان الحادث، لا نعلم ما الهدف ولكن هذا ما وقع حقا.
خرج نور الشمس علينا وكنا كغيرنا من الفلسطينيين العاديين، نستمع إلى نشرة الأخبار لنتلقى يوميا خبر استشهاد احد المواطنين، فتناقلت وسائل الأعلام نبأ استشهاد علي الصوفي ولكنها أخطأت في تقدير عمره ما دفعنا لاستبعاد أن يكون صديق أخي سعيد هو المستهدف، دقائق وإذا بعويل النساء يجوب أصداء المنطقة خرجنا مفزوعين إلى الشارع، وإذا بأمه الثكلى تهرول لا تدري من أي تذهب وماذا يجب أن تفعل بعد أن فقدت أغلى ما تملك.
وبمجرد سماع النبأ تيقنا بأن سعيد مصيره كصديقة، وبدأت الأنباء تتوارد إلينا عن اعتقال ثلاثة أشقاء فتيقنا بأنهم أشقائي "سعيد ، رمزي ، إبراهيم "، ولكن بقي مصير الأب مجهولا، حاولنا البحث عنه في الأراضي الزراعية المجاورة لمنطقة الحدث لكن دون جدوى، استعنا بالصليب الأحمر الدولي عله بطريقته الخاصة يستطيع أن يطمئن قلوبنا على الأب الحنون. غير أن الجيش نفى وجوده لديهم. وبعد يومين جاءنا نبأ اصابته ووجوده في مستشفى سوروكا. وتحويل الأشقاء رغم إصابتهم الحرجة إلى سجن المجدل للتحقيق معهم دون توجيه تهمة لهم.
ومنذ تلك اللحظة وسبع نساء يقطن في منزل واحد لا يحيمهن إلا الله. يتساءلن إلى متى سنبقى على هذا الحال ؟؟ وهل سيأتي يوم نقر به اعيننا برؤيتهم ؟؟؟ ربما الله والقدر اعلم منا واقدر على الإجابة عن تلك الأسئلة.