نشر بتاريخ: 02/12/2016 ( آخر تحديث: 02/12/2016 الساعة: 10:04 )
غزة- معا- لا يبدو للوهلة الأولى عندما تقابله أنه من فئة الصم، يصطحب معه ابتسامة لا تفارقه، فهو كأي حالة تحاول الانخراط في المجتمع بشكل سلس، ولكن ما إن تمضي بضع دقائق من الحديث معه مستعيناً بمترجم لغة الإشارة، حتى يتّضح لك أنه ليس شخصًا عاديًا من ذوي الإعاقة السمعية، فيتحدّث بشكل طلق وواقعي، ويبحر في الحديث السياسي وواقع الشباب، وأيضًا الديني والمجتمعي، إضافةً لاهتماماته بمجال التدريب الشبابي، وتطوير القدرات.
محمود أبو ناموس، شاب يبلغ من العمر 28 عامًا، لم يحظَ برعاية خاصة في بداية حياته، تراعي ظرفه كأي شخص من فئة الاحتياجات الخاصّة، أصابته حمى شوكية حين كان يبلغ من العمر ستة أشهر، وبسبب خطأ طبي، تلقى حقنة تسببت في صممه، ولم يُكتشف إلا في عامه السادس، من طرف صديقة والدته، بعدما انتبهت إلى حركاته التي كان يقوم بها ليعبر عما يقول، فقد كان أهله يظنون أنها تصرّفات انطوائية.
ولد محمود في أسرة كبيرة، يبلغ عددها (12) فردًا، مع والدته ووالده، كانت حياته عادية إلى أن أصبح شابًا له دور في المجتمع المدني، من خلال التدريب والمشاركة في عدّة فعاليات مجتمعية، ويقول محمود عبر مترجم الإشارة سعيد رجب: "رغم كل الظروف التي مررت بها في صغري، إلا أنني كنت أؤمن أن علي الانخراط في المجتمع، والحصول على منصب كبقية الشباب".
بعد اكتشاف حالة محمود، توجّه للدراسة في سن العاشرة بمدرسة الصم في مرحلتيها الإبتدائية والإعدادية، وكان قبلها على مدار الأربع سنوات يلتقط الإشارات التي يعتمد عليها الصم عبر صديقة والدته "معلمة رياضيات لفئة الصم"، وبعد خمس أعوام من مرحلته الإبتدائية لاحظت عائلته تفوّقه في الدراسة وتميّزه، فقد حصد المراتب الأولى في صفه في المراحل التعليمية التي مرّ بها.
اتفقت إدارة "مدرسة أطفالنا" للصمّ، على منح محمود تزكية للمرحلة الثانوية، بعد اجتياز مرحلتين دراسيتين نظرًا لتفوّقه وإبداعاته، وانتقل بعدها لمدرسة الرفاعي الثانوية للصم، يقول محمود:" في تلك الفترة كان زملائي يرسبون في كثير من المواد نظرًا لعدم تأقلمهم مع المواد الدراسية وأيضًا عدم فهمهم لها بسبب عزلتهم عن المجتمع"، واستمر محمود في المرحلة الثانوية إلى أن حصل على شهادة الثانوية للصم بمعدل (71.4%)، وكان معه (10) طلاب فقط من الناجحين.
العدوان الأخير على غزة، كان له تأثير كبير على حياته كباقي العائلات الغزية، فقد دمرت طائرات الاحتلال منزل عائلته المكوّن من أربعة طوابق بالكامل، وكان محمود يملك شقة بهذا البيت، ويحلم أن يكوّن أسرة تساعده على مواجهة المصاعب.
ولا يزال محمود يستذكر ذلك اليوم مع جميع من يقابله، قائلا: "في يومها استيقظت من نومي على هزّات أمي الساعة الخامسة، وخرجت إلى الشارع لأرى الخوف على وجوه عائلتي وجيراني"، لكنه لا يسمع ماذا يقولون، لكن خوفهم وضعه في صورة أنه سيشاهد منزله يدمر أمام عينيه كما كان يحصل مع مئات الأسر وقتها، وبالفعل، بعد دقائق قليلة دمّرت طائرات الاحتلال منزلهم بالكامل، وكان جسده يهتزّ من جرّاء القصف، لكنه لم يكن يسمع شيئًا.
بعد أن تشردت عائلة محمود خلال العدوان الأخير على القطاع، أقامت عائلة محمود في منزل للإيجار، حالمةً ببناء منزلها، يقول محمود :" دَمرت أحلامي وأنا أشاهد منزلي يدمّر، لكن تمسكت بحلمي، وبعد العدوان سجّلت في الجامعة الإسلامية تخصّص الإبداع الحاسوبي، وتدربت أكثر في مجالات مختلفة، وزادت دوراتي التي نظمتها الجامعة لعدد من الطلاب الصم".
وبعد انقضاء عامين في الدراسة، أصبح محمود يدرّب عددًا من الفئات، منهم: مهنيين في مؤسّسات المجتمع المدني، وطلاب جامعات، وأعضاء جمعية المستقبل للصم الكبار، وأيضًا في نادي الإعلام الجديد الفلسطيني، وجمعية الوداد للتأهيل المجتمعي، ويشغل منصبًّا قريبًا من الجسم الدراسي في جمعية المستقبل للصم الكبار.
عمل محمود قبل التحاقه في الدراسة الجامعية في مذبح للدواجن مع والده، لكنه انتقل للعمل مع مؤسسات وجمعيات خيرية لتحقيق ما يطمح له، وعمل لمدة عام في النجارة يصمم "الأنتيكة" ويصنع "البراويز" و"التحف الخشبية" والأثاث.
لا يفوّت محمود أيّاً من المؤتمرات الهامة لحقوق الإنسان، خصوصًا للفئات المهمشة، وشؤون تخصّ فئة الصم، وتلقى مشاركاته تفاعلًا من الحاضرين والقائمين، ولا يتردّد لانتقاد الساسة أو القائمين على المشاريع، وفي كثير من ورش العمل والمؤتمرات انتقد الأسلوب التقليدي القائم على المشاريع الخاصّة بفئته، وعدم الوصول الجدّي لهم، لكنه يعلّق على ذلك "سأصّر على الوصول والتحدّث عن معاناتنا ليتفهم الجميع أخطائه، ويغير تعامله معنا".
ويطمح محمود الاستمرار في عمله في مجال التدريب، ودعم فئات الصم للانخراط في العمل، حاملاً شعار "العمل بدون علم لا يطعم الخبز"، ويسعى من خلال الاندماج في عدد من المؤسسات لأن يُعلّم أكبر عدد ممكن لغة الإشارة، ليصبح المجتمع قادرًا على التعامل مع فئة الصم، وإعطائهم الثقة ليخرجوا من عزلتهم، وأن يتقلّد منصبًا كبيرًا يمثل خلاله هذه الفئة ويحمل رسالتهم للعالم.