نشر بتاريخ: 05/12/2016 ( آخر تحديث: 05/12/2016 الساعة: 20:32 )
كتب: سعيد أبو معلا
لن تتوقع مخرجة فيلم "صيف حار جدا" أريج أبو عيد من قطاع غزة أن يكون بين من حضروا عرض فيلمها الوثائقي (16 دقيقة) في الجامعة العربية الأمريكية في مدينة جنين طالبة تدرس الإعلام وتحمل نفس اسمها وتريد أن تصبح مخرجة أيضا.
سنكتشف خلال النقاش الذي تلا عرض الفيلم ان هناك فرق بائن زمنيا بين معاناة أريج صباغ من مخيم جنين عام 2001 حيث فقدت والدها "جمال" خلال اقتحام المخيم وبين معاناة أريج أبو عيد المخرجة التي فقدت أختها "عائشة" خلال الحرب على غزة عام 2014، لكن المعاناة واحدة، ومن وجهة نظر ابنة مخيم جنين فإن ما جرى لها ولعائلتها لا يمكن تجاوزه أبدا.
تلك المفارقة، من وجهة نظرنا، تعتبر مدخلا للاقتراب من فيلم "صيف حار جدا"، فابنة المخيم ما زالت تبكي على مصابها ولم تتجاوز مطلقا تجربة الحرب والموت، ورغم كر السنين إلا أن التجربة ما زالت طازجة في قلبها وجوارحها، فهل أريج المخرجة وعبر تقديم حكايتها وبوحها الشخصي بما يشبه يوميات الحرب استطاعت التغلب على تلك الوقائع وتجاوزت الموت وتجربة الحرب وفتحت صفحة جديدة معهما؟
ليس سهلا الاجابة على هذا السؤال في ظل الموضوع ذاته وتعقيداته، لكن ما نحن متيقنون منه انه ليس سهلا على مخرجة شابة ان تقدم عملا سينمائيا معتبرا بالحديث عن وجع شخصي من هذا النوع، فالفيلم محاولة لتجاوز الحرب كتجربة مليئة بالمرارة، ورغم كونها ارتبطت، بالنسبة لأريج، بفقدانها لاختها، بمعنى أخر اننا نتجاوز عندما نكون قادرين على سرد القصة، أو كتابتها أو حتى تصويرها، إنه فعل فيه نوع من التصالح مع القصة التي تخرج عن إطارنا الخاص ليتشاركها الجمهور، إنه ذروة الفعل الإبداعي عندما ترتقي الحكاية الذاتية لتكون موضوعا عاما للنقاش والحوار.
تحدي الصورة
يستحق فيلم أريج هذه المداخلة ويستحق احتفاء كبيرا لأسباب كثيرة من بينها التجربة السينمائية الناضجة فنيا والتي تشي بإننا امام مخرجة أصبحت متمكنة من ادواتها وكيف تكيف هذه الادوات لتقدم قصتها وقصة من يتشابهون معها في المعاناة.
ففيلم أبو عيد مختلف عما اعتاد الجمهور مشاهدته على الفضائيات العربية أو رأوه في نشرات الأخبار عن قطاع غزة، فالعمل متميز كموضوع وكأسلوب طرح، حيث اعتمدت المخرجة خيار فنيا تحدت الصورة بهدف تقديم المشاعر التي نكتبها على الورق، عادة، لتظهر بصورة تحمل ما هو أعمق من المكتوب. وهو خيار فني موفق تطلب جهدا وتفكيرا طويلين.
أما محاولة المخرجة تقديم قصتها على شكل فيلم فهي دليل على أمل أصيل بالحياة ورغبة بتجاوز معاناتها المرتبطة الموت. وهو أمر بالغ الصعوبة (أي أن تحكي وجعك الشخصي). وعبر تقديمها حكايتها البصرية قدمت صورة أشمل للوجع العام في غزة خلال الحرب عام 2014 وما تلاها يقوم على كشف الوجه الإنساني لعموم الناس الذين لا تظهرهم نشرات الأخبار أو تتعامل معهم على أنهم أرقام، هؤلاء الضحايا الفعليون للحروب، ورغم كون الحرب أقوى منهم ومدمرة لحياتهم إلا أنهم لا يجعلون اليأس يتسلل إليهم، بل بالعكس نرى أحلامهم البسيطة ورغبتهم بالحياة ومواصلتها فعلا أقوى من الحرب المتوحشة.
حيرة إيجابية
سيحتار جمهور الفيلم من عمل سينمائي يحكي قصة عائلة من دون ان تظهر هذه العائلة كشخوص، لكنهم سيسمعوا القليل عنها من خلال التعليق الصوتي الذي هو صوت أريج المخرجة الذي يؤثث بصورة خاصة أغلبها لقطات قريبة وقريبة جدا، مستمدة من حياتها خلال الحرب لتكون أشبه بقصيدة بصرية تمنح المشاهدين أحاسيس ومشاعر الخوف الغضب والأمل والانتظار والموت...الخ من مفردات مرتبطة بالحرب وظروفها.
تلك المشاهد المنتقاة بعناية فائقة تتمم الصوت، فيما حركة الكاميرا تعكس انقلاب الحياة وتلاشي معناها وعدم السيطرة عليها وضبابيتها.
قصة أريج تعكس تبدل معنى الحياة، وانعدام خياراتها بفعل قوة عسكرية باطشة، حتى الحاجات البسيطة التي يفعلها أي إنسان حاولت المخرجة التأكيد عليها، وإبراز ذلك المدى الذي يصر الانسان أن يكون إنسانا أمام كل القوى التي تحاول سحق إنسانيته. فيجود الفيلم بالحديث عن الحرب وأثارها من ناحية الخوف الكامن في الصدور (ان تموت عاريا مثلا) كانت تعبيرا بليغا عن كيف يفكر الناس في الحرب وكيف تؤثر على تفصيل بسيط من حياتهم وهو الاستحمام في ظل عدم وجود المياة. والحرب في الفيلم مدمرة، تقتل الأجساد وتدمير نفسيات الضحايا الخائفة وتغير جزئيا في الأدوار المرتبطة بتفاصيل الحياة ذاتها.
عمر جديد
يطرح الفيلم إجابة عن سؤال: كيف يتعامل الفلسطيني مع الموت؟، فالمخرجة كإنسان مفجوع بموت شقيقتها صنعت من هذا الرحيل ما يجعلها أقوى، فأرخت لعيد ميلادها بعيد ميلاد اختها الراحلة "عائشة" (التي تمنت أن تتوقف الحرب في عيد مولدها) فرأت حياتها استمرارا لحياة اختها الراحلة، رافضة فكرة الموت ومقدسة الحياة والرغبة بالاستمرار فيها بكل ما أوتيت من قوة وفي عز لحظات الموت الأكثر قسوة.
فرأت المخرجة حياتها استمرارا لحياة أختها الراحلة، إنها "حيلة" وطريقة للتلاعب بالموت وتحديدا عندما نكون في مكان لا تكون نهاية الحرب فيه نهاية حقيقة، بل يعيش الناس منتظرين حربا أخرى قادمة لا محالة، إنه المستقبل الغامض والمفتوح على احتمالات أغلبها ليس لنا قرار فيها.
تغيير الغد
من المؤكد أن الأفلام لا توقف الحرب، ولا تضع حدا لنهاية المعاناة التي سببتها لكنها، وهنا دور المخرجة، تحاول أن تجعلنا نفهم انفسنا جيدا أثناء الحرب وبعدها، فالفيلم كان منبرا مهما لتقديم تجربة حقيقية مرة عن بشاعة الحرب وانعدام الخيارات أمام الضحايا في لحظاتها الدموية، والمخرجة وعبر انخرطها في العمل الفني أصبحت فاعل حقيقي في المجتمع بدلا من كتم ذكرياتها ووجعها، وهذا أمر يجعلها أكثر قدرة على محاولة التغيير ورسم صورة أفضل للمستقبل.
الفيلم يؤكد أن المرأة جزء أساسي من التغيير، ربما هي في سياقنا الشرقي وفي لحظات الحرب الأكثر ضعفا لكنها كانت في "صيف حار جدا" الأكثر قدرة على تقديم عمل فني غني بالتفاصيل المؤثرة، فالصور الطافحة بالتفاصيل وعمق الدلالات البصرية هو دليل على فرادة التجربة وعمق الوعي بها، وهو الأمر الذي اغنى الحديث عن الحرب وحفر عميقا في فضحها من دون شعارات أو خطب، وعلى لسان من اكتوى بنارها.
فيلم أريج يبحث في الحرب ودلالاتها وأثرها على حياتنا، إنه انخراط حقيقي في فضح الحرب التي هي موضوع الفيلم، وهو مؤشر على محاولة التغيير من خلال تقديم انعكاس الحرب على حياتنا في لحظاتها الاشد قتامة، ومنها يخرج الامل بالحياة، والرغبة بالاستمرار فيها مهما كانت الخسارات، ومهما كان المستقبل غامضا بالنسبة إلى أبطالها العاديين.