مروان كنفاني يروي سنوات الأمل: عرفات خطط لانتفاضة الأقصي قبل اندلاعها بثلاث سنوات
نشر بتاريخ: 26/12/2007 ( آخر تحديث: 26/12/2007 الساعة: 13:58 )
مهدي مصطفي- هاني بدرالدين - في منتصف شهر يونيو الماضي2007 ضاعت سنوات الأمل الفلسطيني, انقض قابيل الحمساوي علي هابيل فتح, ومعهما دخل الشعب الفلسطيني في دورة جديدة من التيه, وصقيع المنافي ودموية التصفيات والاغتيالات, في صراع علي النفوذ والسلطة, فتلاشي حلم' العودة'. في وقت تحقق فيه لـ' إسرائيل' أهم انتصار منذ اختلاق وجودها في قلب الشرق الأوسط علي الأراضي الفلسطينية.
وبدون أي خسائر. هذا المشهد الدامي لم يكن وليد اليوم, ولم يكن بفعل عدو خارجي هذه المرة, بل بفعل الإخوة في مخيمات اللاجئين, وفي المنافي وتحت الاحتلال, لقد قدموا بأيديهم وثيقة إدانة بأن تضحياتهم علي مدي عقود ذهبت سدي, وأعطت الذرائع بأنهم غير جديرين بحكم أنفسهم عندما لاحت الفرصة, والأمل في العودة.
مروان كنفاني, المستشار السياسي والمتحدث باسم الرئيس الراحل ياسر عرفات علي مدي عشرين عاما, والقريب من دوائر صنع القرار الفلسطيني يروي في كتابه' سنوات الأمل' المحنة الجديدة للشعب الفلسطيني بعد أن استعرض بتفصيل مؤثر كل ما تعرض له الشعب الفلسطيني من مؤمرات ومآس علي يد الاحتلال الإسرائيلي والقوي الدولية الداعمة له, كاشفا أن ما جري من انقلاب حركة حماس واستيلائها علي السلطة بالقوة المسلحة في غزة وطرد السلطة منها, كان حلقة من سلسلة من تاريخ الخلافات بين الأحزاب والفصائل والمنظمات الفلسطينية علي مدي عقود طويلة, فرغم النضال الطويل لاستعادة الأرض المسلوبة, والتضحيات الجسيمة, والاتفاق علي العودة إلي الوطن, فإنهم اختلفوا علي من يحكم فلسطين.
يكاد يكون كتاب' سنوات الأمل' أجرأ رواية فلسطينية خلال قرن, أي منذ إدراك العرب لخطورة احتلال العصابات الصهيونية لفلسطين, فكنفاني لا ينزع في روايته إلي تحميل الأطراف الخارجية وحدها مسئولية ما آلت إليه الأوضاع, بل يشير إلي تأثير التناقضات الداخلية الفلسطينية علي مجري النضال الفلسطيني.
يقول كنفاني في الجزء الأول من شهادته, الذي سيدور حول الانشقاق الخطير في فلسطين لـ' الأهرام العربي' لم ولن أهادن أحدا علي حساب الحقيقة.. وقد كتبت شهادتي كما عايشتها عن قرب, مشاركا في كل تفاصيلها. ورفضت أن يكتب لي أحد مقدمة كتاب' سنوات الأمل' حتي لا أحمله أي مسئولية. بما ورد فيه من كلام جارح وأكثر من جارح للفلسطينيين.. والدول العربية.
من جانبنا في' الأهرام العربي' حاورنا مروان كنفاني في ثلاث حلقات حول ما ورد في الكتاب وما بين السطور, ومناقشة ما جاء فيه من أطراف فلسطينية فاعلة علي مدي عقود طويلة, فهو لم يوفر ملاحظاته علي الأداء الفلسطيني بإيجابياته وسلبياته, ولم يتوان عن كشف صراع الأجهزة الأمنية والفصائل, وتدخل الدول العربية بفصائلها المنضوية تحت لوائها في ترتيب مسار القضية الفلسطينية لحساب سياستها هي, كما يكشف أسرار تصفية إسرائيل لقادة الحركة الوطنية الفلسطينية, وسياسة الاغتيال التي قام بها فلسطينيون لرفقاء السلاح, ثم يروي المأساة في الأردن ومعركة أيلول الأسود عام70, والحرب الأهلية اللبنانية عام1975, والحياة في تونس بعد الخروج من لبنان عام1982, وأخيرا الطريق إلي التسوية واتفاق أوسلو1993 مرورا بالاتصالات الأمريكية ـ الفلسطينية عام88 بعد مؤتمر الجزائر, ثم إعادة تكرار الصراع علي السلطة في الأراضي الفلسطينية بعد العودة في تشابه مع لأحداث الأردن ولبنان, وإن كان الصراع الأخير هو الأخطر, باعتباره يكرس الانفصال في الجزء المتبقي من فلسطين التاريخية.
أوجه التشابه ما بين عرفات وأمين الحسيني
يقول كنفاني:' إن ياسرعرفات والحاج أمين الحسيني الزعيم الفلسطيني البارز خلال فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها متشابهان في أشياء كثيرة كطهارة النضال والتصدي للمتغيرات الدولية, بل والنهاية الواحدة' في إشارة إلي وفاة الحاج أمين معزولا في لبنان, واستشهاد عرفات في باريس, وكلاهما لم يصل إلي الأمل الفلسطيني بالاستقلال.
يتذكر كنفاني أنه' في أول رحلة لي منذ عام1948, حين كانت مداركي مازالت قاصرة بعد عن فهم ما يجري, من قطاع غزة إلي مدينة أريحا برا من الشهر الخامس من عام1994 لاستقبال قوات السلطة الفلسطينية في أول دخول لها من الأردن, لم أستطع إلا أن أتساءل, وأنا أنظر من خلال نافذة السيارة ساهما في تلك الأرض الجميلة التي كانت إسرائيل قد استولت عليها قبل وأثناء وبعد حرب عام1948, عن كيف أضاع آباؤنا هذه الأرض؟ كان ذلك التساؤل قاسيا لمجرد التفكير فيه, جارحا ومهينا, وحزينا في نفس الوقت.'وأنا أكتب اليوم, ولأول مرة في حياتي, وآخرها علي أمل, روايتي في محاولة الإجابة عن ذلك السؤال, ليس للتجريح ولا الانتقاص ولا عدم العرفان والامتنان لجهود أفراد شعبنا وتضحياته وآلامه, ولا بادعاء معرفتي بالحقيقة المطلقة.
وأنا أعرف منذ الآن وفيما لو تم نشر هذا الكتاب المتواضع وأنا مازلت علي قيد الحياة, أن كلاما كثيرا سوف يقال. ولم يبق في عمري إلا فترة قصيرة, قصر ظمأ الحمار كما قالت العرب قديما, لأعجز أو أرهب أو أنتظر.'
قبل المقدمة الحزينة لـ'سنوات الأمل' يضع كنفاني يديه علي جرح بلاده' منذ ما أصبح معروفا منذ أكثر من قرن مضي, اتفق الفلسطينيون علي أشياء كثيرة; اتفقوا عبر أجيال طويلة علي حب بلادهم, والتضحية من أجل الحفاظ عليها, وأبقوها حية في قلوبهم جيلا بعد جيل, وضربوا أروع الأمثلة في البذل والعطاء بالجهد والدم. ولكن الفلسطينيين اختلفوا منذ تلك البداية أيضا, علي شيء واحد فقط, من منهم سوف يحكم فلسطين؟
كان ذلك الاختلاف الوحيد بينهم, هو أحد الأسباب الأساسية في عدم تمكنهم من تحقيق كل ما اتفقوا عليه, علي الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعه جميعهم'.
ما الذي جري في غزة؟ ولماذا حدث انشقاق السلطة والأرض؟
جذور الخلافات الفلسطينية الداخلية
الخلافات الفلسطينية الداخلية, والتي وصلت إلي حد الانقلاب العسكري الذي نفذته حماس في شهر يونيو الماضي ضد السلطة, كان أحد الموضوعات التي ركز عليها' سنوات الأمل', يقول كنفاني:' إن ما حدث في شهر يونيو الماضي في غزة من الحسم العسكري من قبل حركة حماس علي الأرض لم يكن جميلا, فعلي الرغم من قسوته وخطورته والأزمات التي ترتبت عليه, فإنه كان حلقة من سلسلة طويلة ابتدأت قبل ميلاد عرفات وقبل ميلاد الشيخ أحمد ياسين وميلاد السيد خالد مشعل.
ففي بدايات القرن الماضي, عندما انتهي الوجود التركي في بلادنا عام1917, وابتدأ الانتداب البريطاني كان الوضع الفلسطيني في ذلك الوقت, كالأوضاع في البلاد العربية الأخري, مغرقا في التفكير السياسي العثماني, الذي كان قائما علي العشائر والوجهاء والقبائل والعائلات.'بقيت الزعامة الفعلية بأيدي كبار الأسر الكبيرة كعائلات الحسيني والنشاشيبي ونسيبة وغيرها والتي كان غالبها من مدينة القدس'.
ابتدأ التنظيم السياسي في هذا المناخ, وأنشئت الأحزاب من عائلات ثرية في القدس بالذات, إلي أن برزت زعامة الحاج أمين الحسيني وعين مفتيا عاما ـ وجرت العادة أن يختار المندوب السامي واحدا من بين ثلاثة مرشحين فلسطينيين مفتيا, وتم اختيار الحسيني, وتعرض لانتقادات واتهامات من منافسيه تتساءل: لماذا يختار البريطانيون هذا الشخص بالذات؟ لكن الحسيني أثبت- بمساعدة عربية- وهنا نري حجم التدخل العربي في القضية الفلسطينية منذ زمن بعيد, أنه علي خلاف مطلق مع البريطانيين', وخلال سنوات قصيرة تمكن الحاج أمين الحسيني من قيادة تجمع وطني عريض, بمباركة عربية, تحت اسم الهيئة العربية العليا'.
كان تشكيل الهيئة العربية العليا عربيا فلسطينيا تنظيما موازيا للوكالة اليهودية, ومكونا من الأحزاب السياسية التي تقودها العشائر والعائلات والقبائل, لذلك حملت نفس التناقضات, وقد ظهرت في ثورة1936, تلك الثورة التي راح ضحيتها آلاف الفلسطينيين, وتصاعدت حدة الاتهامات بسبب نداء وجهته الهيئة العربية العليا نفسها يدعو إلي إنهاء الإضراب والتوقف عن المقاومة.
' أخبرني والدي أن التشاحن الفلسطيني الداخلي أثناء تلك الثورة قد وصل ذروته بين مؤيدي الهيئة العربية العليا وزعيمها الحاج أمين الحسيني خاصة في الريف الفلسطيني, ومعارضيه الموجودين أساسا في المدن الفلسطينية الكبري, وأنه- أي والدي- وغيره من الفلسطينيين كان يضطر لأن يحمل معه في أثناء تجواله بين المدن والقري الفلسطينية, غطاءي رأس, أحدهما تقليدي' الحطة والعقال' والآخر مما يلبسه بعض سكان المدن- فيصلية- يتناوب وضعهما علي رأسه عند الدخول أو الخروج من المدن خشية التعرض لشتائم أو تهجمات'.
وكأن الزمن الفلسطيني لا يتحرك, يقول كنفاني:'كان الحاج أمين الحسيني أيضا علي غرار رؤساء منظمة التحرير الفلسطينية التي أعقبت الهيئة العربية العليا كقيادة جديدة للعمل الفلسطيني عام1964, السيد أحمد الشقيري والرئيس ياسر عرفات,' ميالا للعمل في دائرة مغلقة من المعاونين المخلصين, ورؤساء العائلات والعشائر.. غارقا في تحجيم منافسيه والقضاء عليهم, مفرط الشك, صاغيا للوشايات والاتهامات, ضنينا في التعاون ومساعدة الأحزاب والفصائل الفلسطينية,غير التابعة مباشرة لقيادته.'
ومن هنا' دفع الحاج أمين الحسيني, والشعب الفلسطيني بكامله ـ كما فعل الرئيس عرفات بعد أكثر من أربعين عاما ـ في مواجهة وفاق دولي آخر في مكان وظروف آخري, ثمنا باهظا لتحالفه المزعوم والمبالغ فيه من الطرف الخاسر في الحرب العالمية الثانية, الأمر الذي تسبب ضمن ظروف قاهرة وخارجة عن استطاعته في النتائج الوخيمة لنتائج حرب عام48'.
ثم جاءت مرحلة أخري, شطبت فيها فلسطين من القاموس بالنكبة, ونزح السكان جماعيا إلي مناف أخري, وهنا ولدت الأحزاب السياسية الفلسطينية في المهجر بعد عام48, في حضن الأحزاب العربية, في مصر وغزة التي كانت تابعة للإخوان المسلمين, ثم في حضن حزب البعث السوري, ثم الحزب القومي الاجتماعي السوري, قبل ظهور حركة القوميين العرب, وفي كل هذه الأحزاب كان العنصر الفلسطيني بندا أساسيا, فمثلا الحزب الاجتماعي كان ينظر إلي هذا العنصر باعتباره ضمن سوريا الكبري, وكان وجود الفلسطينيين في هذه الأحزاب من أجل بقاء البعد الفلسطيني فقط'.
وكان كما يقول كنفاني:' قد تزايد الخلاف حول طبيعة الصراع, وانبثقت عن هذه الأحزاب المنظمات الفلسطينية المختلفة ما عدا فتح وحماس.. مضيفا' رفضت حركة فتح منذ بداياتها المشاركة أو الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية التي اعتبرتها دمية في أيدي بعض الأنظمة العربية, ولم تصل إلي قرار إيجابي بهذا الشأن إلا بعد أربع سنوات من إنشاء منظمة التحرير نفسها.. وبعد التأكد من الترتيبات التي تمت لتأمين السيطرة الكاملة لحركة فتح علي منظمة التحرير, في حين اتخذ مؤيدو الإخوان المسلمين, والتنظيمات ذات الصبغة الدينية الأخري, وحركة حماس بعد إنشائها, موقفا معاديا من منظمة التحرير, وامتنعوا عن الاعتراف بها, أو المشاركة فيها وتمسكوا بهذا الموقف حتي بعد مشاركتهم لأول مرة, بعد أربعين عاما, في حكومة وحدة وطنية فلسطينية نتيجة لوساطة سعودية عالية المستوي, والثمن'.
ألم يكن هناك رادع يمنع صدام يونيو بين الحركتين؟
لا.. كان يوجد, عرفات والشيخ أحمد ياسين اللذان اتصفا بالعفة عن الدم الفلسطيني, وأنا شاهدت كيف أن الصدام بين السلطة وحماس في بعض المراحل وصل علي حد استخدام السلاح, لكن الزعيمين لم يسمح أي منهما أن يصل الصدام إلي حالة مثل انقلاب حماس في يونيو الماضي, إضافة إلي أن هناك أسبابا أخري منها فوز حماس بالأغلبية في الانتخابات التشريعية في25 يناير2006, وهي لم تكن تتوقع هذا النجاح الكاسح.
ويكشف أنه كانت هناك خشية لدي عرفات من أن ينهار الوضع, خاصة أن الختيار ـ كما يحب أن يناديه الرئيس الفلسطيني الراحل ـ سمع من شباب حماس في السودان أن فلسطين وقف إسلامي وأنهم ضد منظمة التحرير, ويوضح كنفاني قائلا:' سيطر علي تفكير عرفات في تلك الفترة نتيجة لتقارير كانت تصله باستمرار وتواصل من الأراضي الفلسطينية هاجس تدفق الأسلحة.. وعلي قطاع غزة بالذات.. كان لا يزال متشككا من نيات إسرائيل تجاهه شخصيا وتجاه عملية السلام برمتها, وانتابه قلق حقيقي من مؤامرة إسرائيلية لتشجيع أو تحضير الظروف التي تسمح باقتتال فلسطيني داخلي قد يدمر التوافق الوطني والعمل الجماعي الفلسطيني كما أبدي تخوفه من دخول القفص, ومن برامج بعض الفصائل السياسية الرافضة لعملية السلام وكذلك التي تبنت في الأصل موقفا معاديا من منظمة التحرير', وهذا ما جري في يونيو2007 بعد أكثر من اثني عشر عاما.
تعني أن الصدام كان حتميا؟
لم أقل بأن الصدام كان حتميا, ولكنني أقول بأنه كانت هناك عوامل ليقع مثل هذا الصدام, وأذكر أنه في عام94 بعد أقل من ستة أشهر من عودة عرفات إلي الأراضي الفلسطينية, كان يقلقني هذا الاحتمال, وكتبت مقالا في صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية, قلت فيه: إننا لا نخشي من ديكتاتورية عرفات وإنما من تحويلنا إلي صومال أو بروندي أو حالة شبيهة بتلك الدول التي بها حروب أهلية, وهنا أجرؤ علي القول: إن الانقسام الحالي أخطر علينا من الاحتلال البريطاني والإسرائيلي لفلسطين علي مدي100 عام.
لكن لماذا لم يؤسس عرفات نظاما صارما يمنع ما جري؟
لم يوجد نظام في العالم قديما أو حديثا لم تثر فيه مسألة الفساد, والفساد يأتي من السلطة, ومن الحكومة, ولا يأتي من الأحزاب, والسلطة تميز بين الأشخاص, وهي مغرية عندما تكون مطلقة, وعرفات كان في موقفين متناقضين, فرغم قناعتي وآخرين بأنه كان قادرا علي الحسم, وكان يقول لي: أنا أستطيع ذلك بسهولة, كان عازفا عن حسم هذا الموضوع, وكان رأيه أنه لا يريد أن يدخل في تناقضات داخلية, بل كان يريد أن يركز ضد الاحتلال الإسرائيلي, ولكنه كان يتدخل عندما تمس السلطة ونفوذه, فسياسته كانت لا تصل حد التصادم, وقد أدرك مغزي هذه السياسة, أما أنا فكان موقفي لا بد من التوحيد في القرار, فعلي كثرة قراءاتي لم أسمع أن هناك حركة تحرر وطني نجحت بعدة رءوس, أو بدون برنامج سياسي مشترك, وأمامنا الجزائر وفيتنام والعراق وكل البلاد التي تحررت, فلا يمكن أن يكون هناك قائد سياسي يرغب في العنف من أجل العنف, بل يستطيع أن يستخدم هذا العنف لتحقيق هدف سياسي وقت ما يريد ويفرض التهدئة وقت ما يريد أيضا, حتي يستطيع أن يصل إلي حلول تراكمية, ولاحظ هذا التراكم المالي والعسكري والسياسي الإسرائيلي وتفوقه ليس علي الشعب الفلسطيني وحده, إنما علي الدول العربية جميعا.
ويشبه كنفاني وضع حماس الآن بوضع فتح عندما كانت في السلطة' أعتقد أن حماس ليست معنية بالتصعيد مع إسرائيل الآن, وكل إطلاق الصواريخ تقوم به منظمات أخري, تماما مثلما كانت تفعل مع السلطة الوطنية قبل وصولها إلي الحكم.. وكانت حماس تفعل ذلك عندما يكون هناك موعد للتفاوض أو انعقاد مؤتمر دولي أو لقاء قمة, تبدأ عملية ضد إسرائيل وأرجو ملاحظة ذلك, وترد إسرائيل بوحشية'.
ذكرت أن صراع الأجهزة الأمنية تسبب فيما جري؟
تصارع الأجهزة الأمنية المختلفة موجود في كل العالم, لكن هذا التصارع يتوقف مع مرور الزمن عندما يتبلور عمل هذه الأجهزة بحدود واضحة فيما بينها, لكن هذا لم يحصل في بلادنا مع الأسف, لأن معظم هذه الأجهزة شكلت من كوادر فتح وجيش التحرير العاملة في هذا المجال, في أثناء الوجود خارج فلسطين خلال مسيرة طويلة.. وهؤلاء كانوا شرفاء ويرغبون في خدمة الوطن, لكنني أحمل رؤساء هذه الأجهزة, وهم قلة, وبعض كبار ضباطها, مسئولية التدهور, لأن عملهم لم يكن أمنيا مهنيا بل سياسيا لخدمة أهداف سياسية.. وبهذه الصورة تجاوزوا اختصاصاتهم لزيادة دخولهم, وقدرتهم علي تجنيد الناس, وشراء الناس, والتجربة أثبتت أنه عند الصدام الحقيقي في يونيو الماضي لم يكن هناك أي دافع لهم للتدخل ضد حماس.
يصف كنفاني عناصر هذه الأجهزة بقوله:'كان قد انضم إلي أجهزة الأمن الفلسطينية في طور إنشائها عدد كبير من المطاردين والسجناء من حركة فتح الذين كانوا عرضة للاعتقال والتحقيق وأحكام السجن لمدد طويلة في السجون الإسرائيلية نتيجة لمشاركتهم في العمل المقاوم ضد الاحتلال, وحيث إن هؤلاء الشبان, تسلم بعضهم مسئولية التحقيق مع المعتقلين من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية, لم يتم تدريبهم علي أسس العمل الأمني والقانوني ووسائل طرق التحقيق, فقد قام بعضهم بممارسة نفس أسلوب التحقيق, ووسائله العنيفة, التي تعرضوا لها عندما كانوا يخضعون للتحقيق من قبل الإسرائيليين, الأمر الذي صاعد من الاتهامات لهم بالتعاون والتنسيق مع الجانب الإسرائيلي.وابتدأ بذلك عهد المحنة التي صبغت فصائل علاقة فصائل المعارضة, خصوصا حركة حماس بالسلطة الوطنية لفترة طويلة مقبلة, والتي استعملتها حماس في أحاديثها وأدبياتها في توافق لفظي مع تعبير المحنة الذي كان يتردد من قبل أنصار وقيادات الإخوان المسلمين في مصر قبل أكثر من ثلاثين عاما'. ويروي كنفاني حكاية طريفة ومحزنة, ويقول: بدأ بعد العودة صراع النفوذ والمصالح' في نهاية أشهر صيف1994 وبعد أقل من أربعة أشهر من وصول الرئيس عرفات, وسمعنا صدي إطلاق نار كثيف صادر من مبني السرايا الرئيسي في شارع عمر المختار وسط مدينة غزة, في مواجهة بين أفراد من جهازي المخابرات العامة والأمن الوقائي اللذين كانا مازالا يتقاسمان جزءا من ذلك المبني, أمر الرئيس عرفات بإحضار المسئولين الموجودين في السرايا من الطرفين إلي مكتبه وتم إحضار ثلاثة منهم- أصبح بعضهم قادة مرموقين في وقت لاحق- برفقة مسئول أمن الرئاسة, حيث بدأوا في نقاش وتبادل اتهامات أمام الرئيس, قام الرئيس بهدوء من خلف مكتبه واتجه نحوهم وأمرهم, بغضب واضح بإنزال أيديهم علي جانبهم وابتدأ بصفع كل منهم عدة مرات, دون أن يحرك أي منهم ساكنا'.
هؤلاء أسهموا بتسريع ما جري, ولكن هناك عاملا آخر وهو الفضائيات العربية, التي أسهمت بشكل كبير في نشر التفرقة بين الفلسطينيين, فهذا ضمن السلطة الفاسدة, المتواطئة العميلة لإسرائيل, وذاك من الحركة الجهادية المقاومة, وهذا كان تقسما مغرضا ومحرضا وخاطئا, ورأينا كثيرا هذه الفضائيات وهي تأتي باثنين يمثلان اتجاهين مختلفين, وكيف أنهما كانا يعرضان بالشعب الفلسطيني, وأستطيع القول بثقة إن هذه الفضائيات قامت بهذا التقسيم المغرض لأهداف غامضة, وبات الوضع الآن خطيرا وكلما مضي الوقت تكرس هذا الوضع.. وإسرائيل عجزت عما تمكنت منه حركتا فتح وحماس من تقسيم للشعب والأرض في كل سنواتها الاحتلالية..
وكيف تري موقف حماس الآن بعد الاستيلاء علي غزة؟
ما قامت به حماس كان خطأ سياسيا ووطنيا وأخلاقيا..وأنا أحزنني ـ كما أحزنكم جميعا ـ أن تروا شبابا فلسطينيون عرايا في ملابسهم الداخلية.. وهذا لم نتعود عليه أن يكون بين الفلسطينيين أنفسهم, ولكنا تعودناه من آخرين يختلفون معنا في الدين والقومية والجنسية, وهذا إلي جانب أنه خطأ سياسي وأخلاقي, فإنه أضر بسمعتنا الفلسطينية..ومع ذلك لا يجب أن يكون ما جري هو نقطة الحسم في شق الشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية..
هل صحيح أن أبو عمار قبل عودته إلي فلسطين أرسل إلي حماس برسالة جس نبض حول عودته ؟
عرفات كان مؤمنا طيلة حياته بالتحالفات حتي رحيله, حتي مع منظمات صغيرة,وفتح أنشئت من تنظيمات صغيرة, وعرفات تحاور مرتين مع حماس مرة في السودان, وأنا شاركت في أحد هذه الحوارات, ثم حاور الجهاد في الأردن, لكن حماس عندما أنشئت عام87 وشاركت في الانتفاضة الأولي بقوة, كانت ترفع شعارات تبرز بوضوح الكراهية لمنظمة التحرير والأحزاب العلمانية غير المؤمنة, وهذا ليس سرا, وتم توزيع في غزة والضفة أشرطة مسجلة للشيخ أحمد ياسين, ورد فيها علي لسانه أمام المحكمة الإسرائيلية:' إن حركة حماس قد أنشئت من أجل مواجهة و محاربة منظمة التحرير والشيوعيين والعلمانيين الكفرة, وأنا لا أعرف هل كان الشريط مفبركا أم لا؟ وللتاريخ فإنه في عام1992 عندما تمت المشاورات حول التسوية, لم توافق حماس الرئيس عرفات علي السير في العملية السياسية, وهذه حقيقة وأنا لست من حماس ولا أؤيد هذا الاتجاه, كما لم توافق الجهاد و الجبهة الشعبية, وفصائل أخري, ولكن بعض هذه الفصائل وافقت, ولكن أبو عمار أخذ منهم تعهدا بعدم التعرض والصدام مع السلطة الفلسطينية, وهذا ما جري في اجتماع القاهرة عام95, بل إن عرفات كان يعرض عليهم الشراكة بمنظوره هو.
كيف؟
عرض عليهم40% من السلطة لكنهم رفضوا ولم تقبل حماس بهذا الموضوع, وعندما عدنا إلي فلسطين في عام94 حصلت أول فترة مهادنة, ما عدا اليوم الأول الذي قبضت فيه أجهزة الأمن علي أحد عناصر حماس, وحاول اللواء نصر يوسف أن يستبقيه لكن أبو عمار أفرج عنه علي الفور, وكان أبوعمار يحذرنا من احتمالات الصدام, وأذكر أنه في ليلة توقيع اتفاق غزة- أريحا, أخذني الرئيس خارج الغرفة, وقال لي: ما رأيك أن ترافق العائدين؟ وقال: إن الإعلام سيكون هناك, ولا بد أن يكون هناك رجل سياسي, وكانت توجيهات أبو عمار لي تتضمن نقطتين أساسيتين; الأولي ألا تحصل مع الجانب الإسرائيلي أي علاقة تحالفية أو مهادنة وأنه يجب أن نقول في كل كلمة: إن هدفنا إقامة دولة فلسطينة والثانية عدم الصدام, وكررهما عشرين مرة وطلب بأن أتصل به إذا كانت هناك مشكلة..
لكن هناك من يري أن أبو عمار لم يتصادم مع حماس من أجل الانتفاضة؟
لا.. أبو عمار فكر في الانتفاضة عام1997 بعد مجيء نيتانياهو الذي قرر تصفية عملية السلام, وقال عن أبو عمار إنه يشكل حرسا وطنيا, وحرس شرف, ويبعث سفراء, وأنه يبني دولة, فبعد مصرع رابين كانت الأمور تأخذ منحي آخر, هنا بدأ أبو عمار في ذلك الوقت المبكر يفكر في الطريق الآخر.. حتي كان العام2000 وفشل مؤتمر كامب ديفيد في الولايات المتحدة الأمريكية, ثم كان الاحتفال الفلسطيني بأننا أفشلنا المؤامرة, وكان الإسرائيليون ينتظرون الانتفاضة لإلغاء عملية السلام, وكانوا يعرفون لحظة بلحظة ما الذي يفعله وفيما يفكر, فالرئيس في غزة أو الضفة خاضع لكل عمليات التنصت والجاسوسية.. وكانوا يأملون بأن يقوم بهذه العملية التي سميت الانتفاضة حتي يلغوا الوجود الفلسطيني بالطريقة الوحيدة التي يعرفونها أي القوة المسلحة, واستخدموها ليس مع الفلسطينيين وحدهم إنما مع الدول العربية.
وعندما تأخر الرئيس عرفات بعد عودته من كامب ديفيد في الانتفاضة, أرسلوا شارون لدفعه لبدء الانتفاضة, وصارت مجزرة الأقصي يوم الجمعة, انطلقت الانتفاضة...
في تلك الفترة كانت حماس في أضعف حالاتها, والسلطة مسيطرة سيطرة كاملة, مراقبة, معتقلة لبعض نشطاء حماس, قادرة علي تحديد مصادر أسلحتها, ولكن منذ بدء الانتفاضة قام أبو عمار بمساعدة جميع المنظمات التي شاركت في الانتفاضة ومنها حماس, ولنكن صريحين في هذا الجانب, والقريبون من الموضوع يعرفون ذلك, وبعد خمسة أشهر من الانتفاضة قامت حماس بعمليتها الأولي.
كانت الانتفاضة تشارك فيها كل الفصائل, رغم أن السلطة الوطنية خلال السنوات الثلاث الأولي تلقت الضرب الأكبر مؤسساتها الأمنية, وحتي الرئيس شخصيا, وأنا كنت مع الرئيس في بداية2001, وشاهدنا معا ونحن في شرفة مقره مروحية إسرائيلية وهي تقصف المطار بالقرب من مقره.
بعد الانتفاضة أصبح العمل العنيف والمقاوم ملكا للجميع.. واستطاعت حماس أن تكسب.' كانت قد بدأت صيف عام2001 بوادر حدوث تغير أساسي في الوضع الداخلي الفلسطيني, فقد بدأت حركة حماس, في بدايات شهر مارس2001 في تنفيذ عمليات دموية موجعة داخل إسرائيل, وكذلك فعلت الأجنحة العسكرية التابعة لأحزاب وحركات وتنظيمات فلسطينية بما فيها كتائب شهداء الأقصي التابعة لحركة فتح, وكذلك الألوية الأخري الجديدة التي بدأت بالظهور, واستفادت تلك الأجنحة في تقوية نفسها وتحالفاتها والتمتع بحرية الحركة, والاستقلالية في اتخاذ القرار, من الإنهاك الذي أصاب قوي الأمن الفلسطينية الرسمية جراء العمليات العسكرية التي مارستها إسرائيل ضدها, منذ بدء الانتفاضة والتي تصاعدت بشكل كبير بعد وصول شارون إلي سدة الحكم الأمر الذي أضعف قوتها الرادعة والتنظيمية والاستخبارية...ترك أيضا غياب الرئيس عرفات القسري عن قطاع غزة أثرا كبيرا علي قدرته علي معالجة الأمور.. أصبحت قرارات الرئيس الأمنية غير مجدية بسبب الضعف الذي أصاب قوات الأمن.. ثم تصارع الأجهزة الأمنية وعدم انصياع الأجنحة والفصائل لقرارات عرفات من منطق جهادي.. توالت نداءات عرفات بوقف إطلاق النار والصواريخ دون طائل..
وكانت فكرة تخلي السلطة عن الطريق التفاوضي ـ الذي لم يقد في رأيي إلي حل مرض للطرفين ـ تتوافق مع وجهة نظر حماس منذ البداية, وكانت تري أن هذا الحل لن تكون له نتيجة, فاستعادت حماس شعبيتها المفقودة, أضف إلي ذلك حصار الرئيس, ثم استشراء الكلام علي الفساد, ثم كان دور الفضائيات العربية في تحريض الناس, وتقسيمها الشعب الفلسطيني إلي جبهتين, رغم أنه في أول عامين كانت حركة فتح والمنظمات الأخري رائدة ليس في العمليات و المقاومة فحسب, وإنما في عدد الشهداء..
في عام96 كانت هناك رواية تقول بأنهم قبضوا علي أحد الأشخاص من حماس ومعه قائمة بقيادات فتح وفصائل منظمة التحرير, علمانية قومية يسارية تجب تصفيتهم فما صحة ذلك ؟
أنا أتكلم عن موضوع شاهدته, عن السبب في أزمة96 هو العمليات الاستشهادية التي قامت بها حماس قبيل و في أثناء الانتخابات التشريعية والرئاسية. وتأثير ذلك علي مصداقية الرئيس عرفات والتزاماته الدولية, وأمكن استيعاب ذلك.
البعض شكك في مسألة إيمان عرفات بالحل التفاوضي, وسمعنا أنه بعد الانتفاضة وعودته من كامب ديفيد أن إسرائيل تفهم أن التفاوض لن يكون طريق الدولة الفلسطينية فتقارب عرفات مع المعارضة, ولذلك دعم هذا الحل العسكري, ولذلك لم يستطع أن يتوقف أو يوقف هذا الاتجاه؟
أسمح لنفسي بالاختلاف مع هذا الرأي.. الرئيس عرفات فكر في انتفاضة الأقصي والطريق الآخرمنذ97, وكان يعمل لانتفاضة تصعيدية مسيطر عليها, وفي عام98 قبل وصول باراك للحكم أخبرني في حديث خاص ونحن نتناقش أن العالم لا يلتفت إلا إلي المناطق الساخنة, وضرب مثلا علي ذلك بيوغسلافيا, وقال: إن نصف مليون إنسان ماتوا في بروندي ولم يسأل فيهم أحد.. ولكنه كان يؤمن بالتصعيد المحسوب, فلم يتخل أبو عمار عن عملية السلام حتي اللحظة الأخيرة, ولكنه كان يعرف أن الضغط والعنف المحسوب هو جزء من التوصل إلي اتفاقيات, وهذه نظرية موجودة في كل العالم, لم تقع الانتفاضة بالمصادفة, أو أن الرئيس عرفات قررها فجأة, لا, هو كان يعد لها وكان يعرف أهمية المقاومة وليس أمام الشعب إلا المقاومة, وانا أتفق معه في ذلك تماما, ولكن خلافه عن المنظمات الآخري, أنه يريد تصعيدا محسوبا حتي يستطيع تنفيذ برنامجه السياسي, وهذا ما عرفته من العمل قريبا منه, فهو لم يكن مغامرا, الذي أفشل عملية السلام بلا جدال هي إسرائيل وليس عرفات, فهو كان موافقا علي توقيع اتفاق كامب ديفيد إذا كان اتفاقا مرحليا, لكن الإسرائيليين والأمريكيين كانوا يرغبون في توقيع اتفاق نهائي يسقط أي مطالبة مستقبلية..
هناك روايات تقول أن حماس تتفاوض سرا مع جهات غربية فهل كان الصراع بينها وبين فتح علي السلطة؟
أتفق معكما لقد اتصلت حماس بجهات أوروبية وأمريكية, وهو عمل سياسي ضروري ومورس من قبل العالم أجمع, والتقوا حتي في غزة, وفي مدن عربية أخري. وهذا لا ينتقص من وطنيتهم وإصرارهم علي تنفيذ برنامجهم السياسي, فبرنامج حماس يقوم علي المقاومة, سواء كانت تمارس هذه المقاومة أم لا, وأعتقد أنه لا توجد مقاومة الآن, أما برنامج منظمة التحرير فقائم علي المقاومة والحلول والعمل السياسي. قبل نجاح حماس في الانتخابات التشريعية كانت الشرعية الفلسطينية تتمثل في شخص الرئيس عرفات الممثل للحركة الذي يتبني برنامجا يقوم علي المقاومة وعلي الحلول السلمية معا, ثم وزارة من فتح تتبني نفس المنهج الذي تأخذ عليه موافقة المجلس التشريعي, لكن الوضع اختلف تماما في عام..2006, فأصبحت شرعية الرئاسة برئاسة الرئيس محمود عباس التي لديها برنامج فتح القائم علي المفاوضات و احترام الاتفاقيات المسبقة, وطبعا المقاومة.. وبين برنامج وزارة شرعية أيضا يقوم علي المقاومة وعدم الاعتراف بالمفاوضات, وهنا وقعت المتناقضات في موقف الشرعيتين الوحيدتين في الوطن الفلسطيني..
وأجرؤ أن أقول الآن: إنه في فلسطين الآن توجد شرعية متمثلة في الرئيس محمود عباس الذي فاز في انتخابات عامة بنسبة أكثر مما فازت حركة حماس, وشرعية الحكومة متمثلة في حركة حماس, لقد كسبت انتخابات نزيهة بشكل واسع وحاسم وصارم..
لكن اختلاف الشرعيتين هو الذي أوصل الأمور إلي هذه الحالة, وأنا أتهم الشرعيتين.. فتح بمحاولة عرقلة عمل حكومة حماس, وموقف حماس غير الواقعي في الأمور الداخلية, والعلاقات الإقليمية التي تسببت في هذا الموقف الصعب الذي نقفه الآن..
وماذا عن الضغط الذي مارسته أمريكا علي أبو مازن لإجراء الانتخابات وكانت تعرف أن حماس ستفوز؟
السبب الحقيقي لإجراء الانتخابات حركة حماس وليس الضغط الدولي.. عندما اجتمعنا في القاهرة بدعوة من الوزير عمر سليمان في مارس2005, بعد أن كنا في لجنة المتابعة العليا الوطنية والإسلامية قد توصلنا إلي أرضية يمكن الاتفاق حولها, برغم أن الاختلاف كان قائما, فإن مشعل كان يفكر في الانتخابات, ويعرف مدي قوة حماس علي الأرض, وبذكاء كامن ألزم الرئيس عباس بالانتخابات في2005 وتأجلت لأسباب عديدة, لكن عباس كان خاضعا لضغوط ليس من دول أجنبية وإنما من داخل فتح, ولكن مشعل ألزمه بالانتخابات ورأي أبومازن أن إجراءها قد يهديء الوضع, لأنه يكون في مصلحة حماس القيام بعمليات, بينما مشعل كان يفكر في الاستيلاء علي السلطة شرعيا وينتهز الفرصة للوصول إلي الانتخابات, وكان واضحا أن لحماس تأييدأ شعبيا عارما منذ سنوات..
ويكشف كنفاني سرا ويقول: لو كان الرئيس عرفات قد بقي في الحكم لم يكن ليقبل إجراء الانتخابات, وقد وضع سببا مقنعا لعدد كبير من الناس, وهو لا انتخابات في ظل الاحتلال, وأذكر أنني كنت من أنصار الانتخابات حيث كنت رئيس اللجنة السياسية التي وضعت مشروع قانون الانتخابات الذي تم تعديله وفي حديث بيني وبين عرفات- الذي لم يكن سعيدا بموقفي المؤيد للانتخابات- قبل وفاته في2004 أعاد التأكيد بأنه لن تجري انتخابات في ظل الاحتلال, لكنه لم يقل إنه لا يريد الانتخابات, لأننا لن نستطيع أن نجري انتخابات بحرية ونزاهة ولكل الفلسطينيين, بعد إصراري الشديد علي ضرورة الانتخابات قال لي يا مروان' لو أجريت الانتخابات اليوم من سيفوز؟ فأجبته لا أعرف لكن حماس ستأخذ مركزا متقدما. قال إذا كنت أنت تعرف هذه الحقيقة فهل الولايات المتحدة لا تعرف هذه الحقيقة؟ وهل إسرائيل لا تعرف هذه الحقيقة؟ فلماذا يضغطون علينا لإجراء الانتخابات؟ وضرب أمثلة علي بلاد عربية أخري لا أريد أن أذكرها.'
ومع كل ما جري أقول: إذا ظل الوضع كما هو وتم التوصل إلي تسوية ناتجة من رحم أنابوليس وهو أمر أشك فيه, ولكنه احتمال فإن الوضع الفلسطيني في ظل الانقسام سيكون في غاية الصعوبة.. لأن نصف الشعب الفلسطيني في حالة سلام مع إسرائيل ونصفه الآخر في حالة حرب معها وذلك قد يكون مبررا لإسرائيل, لتفعل ما تشاء مع مواطني غزة..
وماذا عن حماس الداخل والخارج؟
مشعل هو القائد الحقيقي لحماس, وفي الداخل اختلفوا علي تصريح قاله مشعل, لكن حماس الداخل نفت, وأمكن تجاوز تلك الأزمة, ومشعل اعترف بأنه أسيء فهم ماقال, وهنا لا أريد أن أربط عودة الشعب والأرض بأي أشخاص بل بالشرعية, من أنصار أن تتم محاكمة عادلة للأشخاص الذين قاموا بأعمال دموية ضد الشعب الفلسطيني, أو ضد أي طرف من الأطراف وفي أي وقت من الأوقات, وهذا لا يستثني بعض قادة الأجهزة الأمنية حتي أكون واضحا, وأطالب بعودة الشرعية..وهي عباس- هنية, وليس بشكل منفرد لأنها نابعة عن انتخابات شرعية للشعب الفلسطيني الذي يدفع فيه ثمن الخلاف علي السلطة..
لكن هذا الطرح سترفضه واشنطن باعتبار حماس مصنفة لديها كحركة' إرهابية'؟
فتح لم تعترف بإسرائيل إلي الآن, وأنا ضد من يطالب حماس بالاعتراف بإسرائيل وأنا مع أن تقوم الحكومة باحترام الحكومة السابقة, وأكرر ليس موضوع أشخاص, مروان كنفاني أو غيره أربطها بالشرعية التي لاتزال ممكنة, ولا يعني التخلي عن الاعتقاد, اتفاق سياسي علي برنامج سياسي تتغير الموازين يتغير الوضع.
ويحذر كنفاني: أن الوضع الآن أخطر علي الفلسطينيين مما قد يفرض عليهم من عقوبات بتوسيع العقوبات المفروضة علي حماس فيعاني منها كل الشعب الفلسطيني, هذا ليس في استطاعة إسرائيل أو غيرها, والشعب الفلسطيني الموحد سيكون قادرا علي مواجهة هذا المخطط بالدعم العربي والإسلامي, لكن أن يفرض حظر علي نصف الشعب ولا يفرض علي النصف الآخر هو الذي سيجعل هناك تناقضا يتنامي مع الزمن ويشكل قطيعة تامة..
هناك من يعارض هذه الأفكار في فتح؟
الذين يعارضون هذه الأفكار هم الناس الذين ولغوا في الدم والعرض الفلسطيني..ويعود مروان كنفاني ويحكي عن الذين تجرأوا علي الدم الفلسطيني ويقول بمرارة' تم اغتيال قائد وحدة التدخل السريع في الشرطة حيث تبع ذلك في نفس الليلة رد واضح بقتل عنصرين تابعين لحركة حماس في ميدان فلسطين, وتم اغتيال مدير مكتب المخابرات العامة, وبعض الصحفيين التابعين لحركة فتح, وتعرض نائب رئيس جهاز المخابرات لمحاولتي اغتيال' ثم اغتيال رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية القوي وأحد أقرباء الرئيس عرفات في منزله المجاور لمنزل الرئيس عباس نفسه. وتتم الاجتماعات بهدف التوصل إلي وحدة وتترد شعارات حرمة الدم الفلسطيني, وكم يبدو مؤلما اليوم أن عدد الفلسطينيين الذين وقعوا ضحايا الاقتتال الفلسطيني الداخلي خلال الأعوام السابقة قد فاق عدد الضحايا الفلسطينيين,من المقاتلين والمدنيين,الذين سقطوا نتيجة للصراع مع جيش الاحتلال الإسرائيلي'.
حصار عرفات
يروي كنفاني:' كان الرئيس عرفات في حينها يعرف مكان وأمكنة اختباء أحمد سعادات, الأمين العام للجبهة الشعبية' وقد أرسل له واستلم منه, في ثلاث مناسبات علي الأقل, رسائل شفهية من خلال لقاءات مباشرة بين سعادات ونائب رئيس جهاز المخابرات الفلسطيني في الضفة الغربية العميد توفيق الطيراوي أو أحد معاونيه نتيجة التضارب والتنافس بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية, وفي15-12-2001 وبينما كان الرفيق سعادات مازال مختفيا في شقة صغيرة بأحد أحياء المدينة, والرئيس عرفات يعيد التأكيد للمبعوثين الأمريكيين والأوروبيين, بأن البحث يجري بجدية للوصول إليه, اتصل مسئول جهاز أمني فلسطيني آخر بالرئيس عرفات, علي الهاتف الذي يعرف أنه خاضع للتنصت والمراقبة من قبل أطراف عدة بينها إسرائيل, وأخبره بقصد أو غير قصد بمكان وجود سعادات تفصيليا, وأجاب الرئيس عرفات الذي فوجيء بالمكالمة وأدرك أن أطرافا أخري تستمع لها, بجملة واحدة قوموا بعملكم وأغلق سماعة الهاتف'.
ولكن هذه الأجهزة أو بعضها لم ترتكب هذه الحماقة إذا كانت بريئة, أو الجريمة والخيانة إذا كانت مقصودة, يقول مروان كنفاني':'نظر لي بتجهم وسألني إذا كنت قد سمعت الأخبار أو ما حصل. كنت بالطبع قد اطلعت علي الأخبار اليومية التي لم يكن فيها في ذلك اليوم ما يتعلق بشكل مباشر مع موضوع سعادات.فيما عدا تزايد التوقعات عن قرب غزو إسرائيلي لمدينة رام الله. ولما أجبته بالإيجاب وتساءلت عن علاقة الأخبار في موضوع الأخبار في موضوع الإفراج عن سعادات, سحب ورقة من علي مكتبه وأعطاني إياها, كانت الورقة تتضمن صورة عن بيان, مذيل باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين, يتضمن هجوما قاسيا وجارحا علي جهاز المخابرات الفلسطينية,ومليء بالشتائم والاتهامات... لكن العميد توفيق الطيراوي مسئول جهاز المخابرات اتصل بي من غزة وقال: إن هذا البيان من عمل جهاز أمني آخر'..
هذا الصراع وغيره هو نفسه الذي بين حركتي فتح وحماس من جانب آخر, ويصل مروان كنفاني إلي ذروة الدراما عندما يقول:'أشعر بالحزن والأسي حين تقودني قراءتي للواقع وتوقعاتي, التي أرجو ألا تتحقق, أن السلطة الفلسطينية, لن تتمكن- في المدي المنظور- ولا حركة فتح, ولا الرئيس عباس أو أي رئيس فلسطيني آخر من خارج حركة حماس من استعادة السيطرة أو الوجود في قطاع غزة, كما لن تتمكن حركة حماس أو رئيس الوزراء هنية أو أي رئيس وزراء آخر من حركة حماس من إيجاد موطيء قدم له في الضفة الغربية.لقد تكرس الانفصال الجغرافي والسياسي والنفسي بين الضفة وقطاع غزة, ولسوف يحتاج الأمر لمعجزة لإيجاد صيغة جديدة لعلاقة سليمة بين هذين الجزءين المتبقيين للفلسطينيين'.
لكن كنفاني يخشي في سنوات الأمل من أن يكون الأمر أبعد من استيلاء حماس علي السلطة, وتواطؤ فتح علي تكريس التقسيم, ويكتب:'قد يكون في الأدراج المغلقة في عواصم متعددة, مخططات تتجاوز قدرة كل من القيادتين الفلسطينيتين علي مقاومتها أو إفشالها. مخططات علي غرار تلك التي تم التحضير لها, وتجربتها, في بداية تسعينيات القرن, عندما توصلت الدول الكبري إلي تفاهم مع الرئيس عرفات علي عودته إلي الأراضي الفلسطينية, في ظل حكم ذاتي قابل للتطور, في عملية سلام تدريجية مع الجانب الإسرائيلي. ولقد بقي أقل من عام ونصف العام علي ولاية عباس وإجراء انتخابات رئاسية جديدة يمكن التوصل قبلها نظريا علي الأقل, من نفس تلك الدول, إلي اتفاق مع مشعل للعودة إلي الأراضي الفلسطينية وخوض الانتخابات الرئاسية وفق تفاهم يؤدي إلي تجدد عملية سلام أخري تنزع تخوفات إسرائيل, وتلك الدول الكبري من استلام حركة حماس لمقادير الأمور في دولة فلسطينية موحدة. أو ربما يحتوي أحد الأدراج المغلقة علي مخطط سبق تجربته قبل ثمانية وخمسين عاما,عندما اختارت الضفة الغربية, بمبادرة من زعمائها, ووجهائها الانضمام إلي المملكة الأردنية الهاشمية.. بأحد أشكال الفيدرالية أو الاتحاد'.
العدد المقبل
أيلول الأسود وبيروت وتونس والعالم العربي