الخميس: 28/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

ألم وأمل...الهيموفيليا في فلسطين

نشر بتاريخ: 13/06/2017 ( آخر تحديث: 13/06/2017 الساعة: 15:52 )
ألم وأمل...الهيموفيليا في فلسطين
بقلم: جاد الطويل
يتألمن ويبكين، كيف لا وهن يعشن ألم وبكاء المرضى، إما كامهات او كزوجات او كبنات لمرضى، ويعشن لحظة بلحظة حياة مريض الهيموفيليا و يتنقلن مع هؤلاء المرضى في اروقة المستشفيات بانتظام. حيث تبدأ مسيرة المعاناة لهم كاطفال منذ الولادة و تستمر رحلة عذابهم من الطفولة، مرورا بسن الشباب وتستمر حتى الشيخوخة، ان لم يتوفاهم الأجل مبكرا.
إنهن قريبات مرضى الهيموفيليا يتألمن مع ونيابة عن المرضى في الليل و في النهار، ينزف المرضى من انوفهم وأفواههم لفترات طويلة، ولا يستطيع المرضى المشي لتورم اقدامهم من النزف الداخلي، او لا يستطيع هؤلاء المرضى ثني اطرافهم نتيجة النزف والتورم في مفاصلهم او أنهم يعانون من النزف في امعائهم والمسالك البولية وفي حناجرهم واعضائهم الداخلية يوم بعد اخر ويصاحب ذلك النزف الالام فظيعة في المفاصل، وغالبية النزف يحدث لديهم تلقائي او حتى لأبسط الكدمات والجروح.
قد يتساؤل البعض لماذا بدأت بالكتابة عن الأمهات والزوجات والبنات في حياة مريض نزف الدم والهيموفيليا، لم لا وهن أول من يدركن ويبدأن بالشعور ويعشن تلك المعاناة أولا بأول مع المريض ويعشن حياتهن مدركات بصمت وألم هذه المعاناة مطالبات بتوفير إحتياجات المريض الجسام.
وأود أن اشارككم هنا بتجربة ةشخصية موضحا معاناة هؤلاء المرضى فلقد بدات حياتي واستمريت مع الهيموفيليا ليس كمشاهد او عابر سبيل، وانما كطفل هيموفيليا نما وتربى في مجتمع الهيموفيليا منذ نصف قرن مضى واكثر، و اصبحت متابع ومتعرف على اطفال وشباب ومسنين من المرضى اخرين مثلي، رايتهم واراهم بام عيني عشت معهم واعيش معهم، وتربينا سويا كعائلات من مرضى الهيموفيليا وبدأت تكبر معنا وتتراكم احتباجاتنا و اخذنا نكبر سويا في اروقة مستشفيات فلسطين المحتلة في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة او حتى في المستشفيات الاخرى وفي جمعية تجمع المرضى وعائلاتهم.
بينما ينظر البعض لمعاناة هذه الشريحة من مرضى الهيموفيليا المهمشة بتجرد او يخلطها بما يحيط بافراد المجتمع الفلسطيني من ظلم ومعاناة عامة، إلا انه يجب ان نعطي أهمية لهم ولمعاناتهم المستمرة ونربط معاناة هذه الفئة بخصوصية كونهم مرضى نزف الدم و هيموفيليا ، و نعرف طبيعة وكم الاعاقات الجسدية والحركية والجسدية التراكمية التي يعانون منها. ويكون هذا الادراك من خلال الحس الإنساني الفطري أو الديني او الاخلاقي وبالشعور والتعاطف مع الاخرين من البشر. فمعاناة هذه الشريحة هي الخطر الدائم على حياتهم نتيجة النزف المتكرر وعدم توفر الادوية لهم وعدم وجود وتوفر الرعاية الصحية المناسبة لهم و ما يسببه هذا الامر من اعاقات جسدية وحركية متراكمة والالام مبرحة ناتجة عن هذه الظاهرة المرضية فمن الاعاقات ما هو المخفي او الظاهر ومنها الجسدي والنفسي .
إدراكي وتفهمي ومشاعري الجياشة لهذه الاحتياجات والمعاناة نابع من تجربة شخصية مررت ولا زلت أمر بها منذ اكثر من خمسة عقود هي نموذج لالاف من الحالات في فلسطين . إلا ان مقدرة الوعي والفهم لطبيعة هذه الامراض، والتي تزيد عن ثلاث عشر نوعا والتي اكثرها شيوعا الهيموفيليا الف وباء، ياتي ليس مني فقط ،بل من كل المرضى وعائلاتهم و من المجتمع المحيط والقريب منهم وممن يعانون اثار المرض او من اناس مهنين او متطوعون يعملون مع المرضى بمهنية وباستمرار ومن خلال مهن طبية واجتماعية تدرك معنى المعاناة الحقيقية لشخص مريض الهيموفيليا يتردد على المستشفيات والاطباء باستمرار اسبوعيا وشهريا وسنويا او من الاشخاص الذين يحيطون به باستمرار وليس من خلال لحظة عابرة مع مريض او متابعة لقصة صحفية مؤلمة لمرة واحدة فقط.
كتمت الألم والمعاناة والشعور بالحزن لذاتي لسنوات طويلة ، وامتنعت عن اظهار او الطلب المباشر بالمساعدة او حتى اظهار اي رغبة بالتعاطف معي ومع المرضى الاخرين، و حاولت إخفاء خصوصية احتياجاتي الطبية والاجتماعية عن اصدقائي وزملاء الدراسة. وكنت احاول دوما اقناع نفسي اني لا اختلف عن اي انسان اخر ما دام علاجي يتوفر لي وهناك من يهتم بي صحيا واجتماعيا وهذا حال معظم المرضى وعائلاتهم حتى اللحظة..... وفي الواقع لم ولا يتوفر العلاج لمرضى نزف الدم والهيموفيليا في فلسطين كما يجب ولاتتوفر الرعاية المجتمعية اللازمة.
غادرت فلسطين المحتلة بعد طول معاناة، وعشت في الغرب وهناك رأيت بل تلقيت الخدمات الطبية والصحية المناسبة بل كانت الادوية والعلاجات تصلني للمنزل وتبقى معي على مدار الساعة وحسب البروتوكولات العلاجية، بل تم تدريبي ومتابعتي على أخذ الادوية بمهنية وعمل التمارين لمفاصلي للمحافظة عليها. الأهم من ذلك أنني عشت ممارسة تجربة العمل الانساني مع شريحة مرضى نزف الدم والهيموفيليا وفريق العلاج الطبي والاجتماعي والمتطوعين و شاركت المرضى الاخرين وعائلاتهم ومناصريهم في انشطة دورية مستمرة مطالبين بحقوقنا. وأدركت من حينها معنى الحق بالصحة الذي اقرته المواثيق الانسانية و الاتفاقيات العالمية، ودور الجهات الرسمية اساسا و ومساهمة المتطوعين غير الملزمة في توفير الرعاية تلك.
في رمضان عام 2017 من حقنا أن نقيم حالة مرضى نزف الدم في فلسطين واوضاعهم الصحية والاجتماعية ولا نضع نحمل تقصير أحد على شماعة الاحتلال أو شح الميزانيات. أستطيع القول أننا في المجتمع الفلسطيني لا زلنا نسيرببطء شديد لتوفير الحد الادنى لمرضى نزف الدم والهيموفيليا بالرغم من جهود اشخاص ومؤسسات. فقلة وسوء التشخيص واضح للعيان وعلاجات المرضى وادويتهم والتي تسمى بالعوامل المخثرة لا زالت لا تتوفر بانتظام لدى وزارة الصحة، ولا تعطى للمرضى العوامل المخثرة حسب البروتوكولات العلاجية في المستشفيات ولا يتوفر العلاج البيتي. و تغيب الرعاية الشمولية للمرضى من عيادات دورية لتخصصات مختلفة كالدم والعظام والعلاج الطبيعي والتغذية وغيرها . أما الجراحات التخصصية فلاتتوفر للمرضى كما يجب, واما الدعم النفسي والاجتماعي فان قلنا انه في الحضيض فان وصفنا له يكون اقرب للدقة.
تسعى جاهدة الجمعية الفلسطينية لأمراض نزف الدم لتوفير الخدمات والرعاية الطبية والاجتماعية للمرضى من خلال مبدأ الحق في الصحة كأساس للعمل وبوصلة للتوعية والتثقيف والحشد والمناصرة حيث بدأ هذا الجهد المنظم منذ عشرين عام، وبعيدا كل البعد ان تكون الجمعية بديلا او تطرح نفسها بديلا للوزارات المقدمة للخدمات. وبعد عقدين من العمل لا زلنا أمام تحد كبير فنحن ننتظر المتطوعين والمتبرعين ليتقدموا ويساهموا في هذا العمل الانساني و نسعى لحشد للمصادر المالية والمادية والبشرية من أجل توفير أساسيات في العلاج لمرضى نزف الدم والهيموفيليا في فلسطين للحد من الألم والمعاناة ومنع الاعاقات والموت للمرضى.

** جاد الطويل ناشط ومتطوع في القضايا المجتمعية ورئيس الهيئة الادارية للجمعية الفلسطينية لأمراض نزف الدم والتي مقرها مركز البيرة الطبي ويمكن التواصل مع الجمعية على البريد الالكتروني [email protected]