باغتها حبا..فأمطرته شغفا...النرجسية في قصائد ريتا عودة
نشر بتاريخ: 08/08/2017 ( آخر تحديث: 08/08/2017 الساعة: 13:38 )
نزهة الرملاوي
عن دار الرّصيف للنّشر والاعلام في رام الله عام 2016، صدر ديوان "مباغتا جاء حبّك" للشّاعرة الفلسطينيّة ريتا عودة، يقع الدّيوان الذي يحمل غلافه لوحة للفنّان العراقيّ مهند محمد في 155 صفحة من الحجم المتوسّط.
ريتا شاعرة العشق..فيلسوفة الأنا، لا حب عندها أو عاطفة أقوى من عاطفة متحدية للآخر، لتكون الأنا واضحة وصريحة، تبادل الحبيب العشق وتقاسمه الروح، الكلمات والإراده...تدلل نفسها، ولا تحب أن تدلل أحدا أكثر من نفسها، فهي ترى نفسها شاعرة استثنائية، تتقن فن الكتابة الابداعية وتتحدى كل من قرأ قصيدة لها أن لا يعشقها كشاعرة، أو ما كتبت قائلة:
"أَتَحَدَّاكَ
أَتَحَدَّاكَ ألاَّ تَعشَقَنِي
فأنا شاعرة استثنائيّة
تُتقِنُ صَيدَ غُزلانِ الأبجديَّة"
في تشبيهاتها الكثيرة الجميلة شبهت الشاعرة حروف العربية بالغزلان، واعتبرت نفسها صيادة ماهرة؛ لأنها تتقن اختيار الكلمات الموحية لفكرتها، بتحقيق عنصري الزمان والمكان الصحيحين في المسار الكتابي الشعري.
وتوضح الشاعرة لنا وبكل ثقة تحقق نبوءة الشعراء فيها، وتعلو رغبة الفخر بذاتها، فتبدو النرجسية واضحة في معظم قصائدها، لتقول أنها القصيدة ذاتها، ومن وجهة نظرها، فهي ترى نفسها سفيرة الشعر الملهم الاستثنائي، المفقود من العالم المحيط بها، لذا ستكون المذهلة التي تشبع الأحاسيس والوجدان من دفء كلماتها وحرارة شعرها الذي لا يقاوم، وتشبه هذه الحالة بالفقر ( الافتقار للشعر الجيد الملهم عند الآخرين..ومن وجهة نظرها، لن يكون هناك شعر ولا شعراء إلا في كينونتها الذاتية لتشبع شغف الآخرين بالشاعر والقصيدة فيصيبهم الذهول ) فتقول في ذلك:
"وأنا نبوءة الشعراء
سَفيرَةُ الفُقَرَاء
وأَنا القصيدةُ
حينَ على جَبَلٍ عَالٍ تَتَجَلَّى
لتُشبِعَ إلى قمحِ الذُهولِ
هذا الجوع"
فتختار لنفسها عشق الذات، إلى حد الهيام، وربما يكون بعضا من الغرور، وأمام هذا التعالي والنرجسية في شعر ريتا نجدها تقحم اسمها في قصائدها، وتدلل نفسها..ريتاي...ريتاك! وتلوذ فارة بعد أن تضع بصمة قوية متحدية للقراء، من سلاسة الكلمات والكم الكبير من المفردات التي بنتها من مخزون ثقافي ولغوي واسع، أضف إلى ذلك أن الصورة الشعرية عندها واضحة المعالم، قلما نجد فيها الرمزية، لذا نجد فيها ألوانا من العشق والمشاعر المتدفقة الصادقة، فهي تتحدى الحبيب أو القارئ أن لا يعشقها، أو يعشق شعرها، لأنها تتقن فنون الشعر، وتعرف كيف تختار التعابير القوية والمفردات الملائمة، فتدلي بذلك قائلة:
"أَتَحَدَّاكَ ألاّ تَعتَنِقَ حُلُمِي
حينَ تعقِدُ قرانَ حُرُوفِكَ
على حُروفي
الثملة مِن نَبيذِ الدُّمُوع "
وهنا نجد الأنا واضحة، وأن يكون يكون شمع معبدها، في المقابل ستصير أغنيته، بعد أن تطلعه وبكل ثقة على معرفتها القوية بمداخل الشعر، لذا هي تتحدى القارئ أن لا يعشق شعرها فقط، بل سيعشق طموحها..وهي للشعر بمثابة فرس جموح:
"لطُمُوحِي لا حُدُود
حَوْلَ جُمُوحِي الشِعْرِيِّ
.. لا سُدُودَ..لا قُيودْ"
نعم، تنطلق بلا قيود، ولا يوقفها أي شيء، فهي لا ترى غيرها شاعرا، واثقه غير متأزمة ولا مهزومة، كما ترى في شعراء آخرين ذلك التأزم والانهزام، ويعلو حب الأنا في القصيدة ويصل درجة عالية من الثقة والاقتدار، حين تنصب ريتا نفسها ملكة مملكتها تذهل الآخرين، لأنهم لن يجدوا في شعرها الأفول، فكم من شاعر تنبأ بشاعريتها، وبعد ذلك أصبحت (حسب اعتقادها) سفيرة الشعراء، لأنها تميزت عنهم واحتلت بتراكيب جملها ومفرداتها قلوب القراء فأصابهم الذهول فقالت:
"وأنا نبوءة الشعراء
سَفِيرَةَ الشعراء
أنــــَا. .مملكتي..مِن ذُهُول
مُفرَدَاتي ... لا يَعتَريهَا أُفُول"
وأضافت في قصيدة أخرى:
"لقـَصَائِدهَا.
لا تـَخـْشـَى بَرْقـًا وَلا رَعْدَا،
فـَقـَصْرُهَا مُؤَسَّسٌ عَلى .. الأَلـَقْ.
يَقـُوُمُ قـُرَّاؤُهَا .. وَيُطـَوِّبُونـَهَا،
النـُّـقـَادُ .. فـَيـَمْدَحُونـَهَا.
وجهت الشاعرة الضربة القاضية لشاعرات أخريات قائلة:
"كـَثيرَاتٌ ..
حَاوَلـْنَ اللـُّغـَةَ
نـَثـْرًا وَشِعْرَا
أَمـَّا أنــَا..
العَارفة ُسِرَّ
رَحِيــِق ِ الزَّهْرَة
فـَفــُـقــْـتهُن
جَمِيعًا"
وتضيف إلى تحدياتها تحد آخر تجبر الآخر باعتناق حلمها، مما يعني الخوض في مبدأ الاندماج والتوحد، ليصبح شريكها في صنع الحلم وتحقيق الكائن الشعري المميز، الذي سيولد من ذلك الانصهار والتداخل الفكري، الكتابي، حين تطلق روح التحدي، وأن ثمنها أغلى من اللآلئ لثقة قرائها بشعرها، فتقول في قصيدة "شاعِرَة ٌ مَاكِرَة ٌ مَنْ يَجدُهَا..؟"
"شاعِرَة ٌ
مَاهِرَة ٌ، مَاكِرَة ٌ
مَنْ يَجدُهَا..؟
ثمَنُهَا يَفـُوُقُ اللآلِئِ
كـُلـَّهَا.
بـِهَا يَثِقُ قلبُ قارئِهَا.
لـَهُ .. لا تصْنـَعُ إلاّ
الدَّهْشَة َوالبَهْجَة."
ريتا ترى في نفسها التميز حتى في علاقاتها مع الحبيب، فهي تأخذ مسارا آخر لتلك العلاقة، لأنها نصبت نفسها سيدة للمفردات، لذا هي لن تتنازل عن ذلك الشموخ والتعالي حين يأتي، فتذكره إذا ما فكر بالقدوم إليها، أن يتريث ويخترع كلمات تليق بها، وعبرت عن ذلك قائلة:
"فی طریقِكَ
.....إلیَّ
لا بُدَّ لكَ أن تخترعَ
..لـُغَهً أُخرَى
تَليقُ ب: سَيِّدَةِالمُفرَدَات
تناولت الشاعرة موضوع الشعر الوجداني، فكان له نصيب الأسد من القصائد، وذكرت في بعض قصائدها الوطن ومعاناة اللجوء والمنفى، ورثت الشاعر محمود درويش، استحضرت فيها مناقبه بلغة شعرية راقية، وكتبت بعض القصائد باللهجة العامية.
وفي قصيدة للعشق أنبياء، استصغرت رجلا دنا من سور عشقها، فأخذت بأنانية واضحة تعنفه، لأنها سيدة النساء، والعشق لا يكون له إلا لفئة محددة من البشر..(كيف يا ريتاي تقهرين العشق في قلب مشاغب تسلل إلى خيالك، فتجاهلت مشاعره تجاهك، وهل يكون العشق عندك فقط لأشخاص حددها قانونك السلطوي؛ لأنك سيدة النساء؟
"العِشقُ يا صَغِيري
لا يعتنقهُ إلاّ الأنقياء
الأتقياء
الأنبياء
وأنتَ جُندِيٌّ
مُشَاغِبٌ
جاءَ يَستَعمِرُ خَيَالَ
سيِّدَةَ النِّسَاء."
مع أن الشاعرة أرادت للنساء أن يكن كما يردن أن يكن، إلا أنها لم تتنازل عن حبها لذاتها، وكم من المرات في قصائدها أشارت إلى اسمها التي تعشقه "ريتاي"
"کُونِی
کَمَا تَشَاءُ لَكِ الفَرَاشَاتُ
کُونِی ریتای
کُونِی حَنِینِی
کُونِی جُنُونِی
ایَّاكِ ألاَّ تكوني"
تعددت بالقصائد الصورة والحركة، وبدت عواطفها متدفقة جياشة، فنجد فيها اللوعة والحزن والشوق والحنين والتمني.
استخدمت الكاتبة مفردات البحر، الجبل، الكرمل، الموج، السفن والقبطان..وغير ذلك، وقد وفقت في ذلك لأن الشاعر والكاتب يستخدم من المفردات ما يوحي لبيئته ومحيطه، ويكون هنا أقرب للواقعية، كذلك أشارت للمفردات الدينية، كالكنيسة والشموع والمعمدان، أضف إلى ذلك وصفها للأشياء المخضبة بالجمال والشاعرية المتدفقة.
أمتعتنا الشاعرة بخيالها السابح في بحر الكلمات، وفيض أحاسيسها وصورها الشاعرية الجميلة، وتشبيهاتها الراقية في التنوع والانتقاء، وقد تمعت المشاعر بالشفافية والجمال.
فهي كاللآلئ الخارجة من محارة بحرية، تطرقت الشاعرة إلى نقطة جوهرية تدور حول المرأة وعشقها وقضاياها، فهي لا تريد أن تكون مهمشة في مجتمع الذكور، وتطرقت إلى الحب الذي تتمناه من قلب رجل تتخيل أن يفصح لها عن مشاعره، مطلقا لأنثاه العنان؛ لتعمل ما تريد دون قيود، مفسحا لها المجال للتعبير والاختيار...وقد عبرت عن ذلك قائلة:
"کُونِی
غَجَریَّهً یَنحَنِی الکَرمِلُ
لِرُوحِكِ
یَا عُیونِی
کُونِی البَحرَ
کُونِی الرِّیحَ
کُونِی حُلُمَ المَسحُوقِین
کُونِی رَغِیفَ الجَوعَی
دَمعَهَ المُهَمَّشِین"
طغت روح الأنا والفوقية عند الشاعرة..فقد تبين أنها تريد من حبيبها أن لا يشبه أي رجل..تريده مختلفا عن الكائنات...رجل يشبهها، فهي مختلفة في عواطفها، وكلماتها ونظرتها للآخر.. كُنْ رَفـِـيــِـقي،
آهٍ كَم أشتَهِي
يا صديقي
رَجُلاً يُشبِهُنِـي..
لا يُشَوِّهُنِـي !
يُدَلِلُّني …
عَلَيـــَّا يَدُلُنـي"
إذن هي تريد من الآخر أن يغمرها بوابل من أنقى الكلام، تريد أن ترى نفسها من خلاله، ولن تحبه إلا إن كان ذاتها التي تعشقها بلا منافس.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ريتا عودة التي لا تخفى النرجسية في شعرها واصطيادها للكلمات الثمينات، كفل لها صدق المشاعر فكانت حقيقة واضحة أدلت دلوها في حب الذات وعشق الأنا،..فبعثت في شعرها الحياة والجمال؟
أم تخيلها وتصويرها لذاتها الفوقية أظهر الاختلاف والتميز في قصائدها التي صورتها شعرا، ونقلتها أحاسيس، فكانت كما أرادت محلقة كفراشة وسننوة وبحرا وغجرية وعاشقة أبت لنفسها إلا أن تكون؟