قراءة في رواية "ثلاثة وجوه وإله"
نشر بتاريخ: 19/10/2017 ( آخر تحديث: 19/10/2017 الساعة: 12:34 )
قراءة في رواية "ثلاثة وجوه وإله" للكاتب الدكتور سعيد عياد
الكاتب: نسرين جرادات
لعبة الإنسان ... لعبة الموت
حلم متكسر ... وواقع مؤلم
إنما المسافر كما يصادف في سيره منازل، ولكل منزل شرائط تخصه، تطرق الأبواب بقوة حتى يسمع صهيل ما بداخلها ، وحدها في المكان تصارع حلما متكسرا وواقعا مؤلما ، ليوقظ في قلبها شعورا قويا بالحياة مرة ، واحساسا شديدا بالفناء مرة اخرى .
هي متحررة من كل الفرائض إلا من أمومتها ، لم تستطع أن تتجرد منها ، صرخت حتى يسمع أنين وجعها في كل بقاع الارض ، حلم يكبر يقرع مآذن المساجد ، وأجراس الكنائس وزوايا المعابد تناجي هناك في خلوتها مع الله أن يتحقق لها احتياجا وحلما كاد ان يموت . عندما تستوطننا فكرة نؤمن بها ، ونموت لأجلها ، هكذا نحن النساء تغلبنا عواطفنا تاخذنا الى اماكن ومتاهات الضيق البعيدة ، التي لم نفكر بها قط ، تحملنا من النقيض إلى النقيض حتى نلبي نداء شعورا طبيعيا ، ويا لقساوته إن لم يحدث ذلك .
كيف لامرأة أن تستوعب فكرة انها غير قادرة على الإنجاب كشرط طبيعي لوجودها ، مشاعر أمومة يستدعي معها صراعا نفسيا لا يقل عن صراع الأنثى مع شياطين بعض القوانين الاجتماعية والثقافية التي نصبت نفسها عرافا لتحدد مآربها الإنسانية ، هكذا بدأت معالم الرواية متعددة فيها المجادلات النفسية ، لتتسائل هل هي قصة أم لم تتذوق احتفالية إنجاب طفل يملأ حياتها صخبا وفرحا ، لم تتذوق جنائزية بكاء وهلع وقلق لا يهدأ ، أم قصة وطن ضائع مسلوب بين حضارات العالم حيث حدوده المشوهة ..
إيمان، القدر يجرها إلى عالم متخيل، هناك حيث تعانق أمومتها لتحتضن أجنة بلاد أخرى تزرعها في بلادها ، كم تحمل سطور هذه الرواية أحداثا أشبه بحكاية حرب الجواسيس ، وقراءتها ما هي الا شريط سينمائي جاهز تراه على حقيقته واقعيا، ترى جنود تتأهب في كل مكان ، تحاصر الطير إذا اقترب منها ، تداهم العقول ، تتربص بالقلوب قتل ، مداهمات ،خوف ، قلق ، صراع ، حيث يشكلون معالم الانسان كيفما يريدون وفق مخططات تهويدية صهيونية .
في طيات رواية " ثلاثة وجوه وإله " ، يبدأ الكاتب بلغة سردية سهلة مشوقة ، تتبع للأحداث بسلاسة، تمدها بجسور الأمل والإرادة لتحقيق الحلم مليئة بالصور الجمالية ذات الطابع الإنساني ، بلغة إنسانية سلمية ، نقل الحقائق والواقع بصورة أدبية مميزة ذات مغزى وبعد إنساني ، حيث المقامات المتعددة التي تشكل المنظومة القيمية الإنسانية وهنا سلط الضوء الكاتب عليها وهي المقام الديني والسياسي والانساني والعاطفي والوطني معا ، حيث ينتقل الكاتب بين المشاهد الدراماتيكية والسيكولوجية والتراجيدية من أحداث خيالية إلى وقائع حقيقة . لعله لا يستقيم عقلا ولا قلبا بأن تفكر كيف لمسلمة ان تجرؤ على احتضان أبناء من ديانات أخرى في بيت واحد ، ويجتمعوا على مائدة واحدة في ظل الصراع القائم بين البشرية وفقا لمعتقدات مختلفة ، الفكرة متخيلة من وجهة نظر الكاتب لكن تفاصيلها حقيقية ، ربما قصد الكاتب بتعبير مجازي أن البيت الفلسطيني الكبير قادر على احتضان مختلف الطوائف والديانات وإن كانت متناقضة .
الارهاب لا دين له ...
" لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي " سورة البقرة
" ابحث عن الحقيقة ، وستقوم الحقيقة بتحريرك " الانجيل المقدس
ثلاثة وجوه ، ثلاثة حقائق مردها في الأصل إلى الله ، لكن اختلاف هذه الحقائق يجعلها في دوامة صراع لا تنتهي ، الشيخ ، الراهب والحاخام ، حينما يقلدون أنفسهم مناصب ظل الإله على الأرض ، ويحولون السلم إلى حرب ، والأمن الى خوف ، بتفكير متطرف بعيد وجائر على إنسانية نادت بها كل الأديان ، ربما نشوء كل دين في بيئة ثقافية معينة ، ولد هذا الاختلاف بين البشرية ، لتطل أشباح الظلام لتفسد عليك انسانيتك وتحفر لها قبرها حيث صهوة الموت تلاحقها .
" قل يا أيها الذين هادوا أن زعمتم انكم اولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت ان كنتم صادقين " صدق الله العظيم .
إيمان ، المؤمنة وبطلة الفكرة تقف كالعلم أمام كل المعيقات وتبرهن لهم أن قضيتها إنسانية أخلاقية ، وقضيتهم لاهوتية دينية ، حينما يتحول الإنسان إلى لعبة متطرفة تختل جميع الموازين ...
لعبة الإنسان ... لعبة الموت ، حينما يتلاعبون بقدر الإنسان ، معتبرين أن العمل الإنساني عبثا يرسمون حدود بلا قوانين ، يلاحقونه ، يتربصون به ، فلكل دين تشريعات وضعت من أجل تحقيق إنسانية الإنسان ، فالاعتداء على حياته هي اعتداء على مجتمع بأكمله. جيسكا المسيحية ، وديفيد الطفل اليهودي اللذان عاشا في كنف الثقافة الفلسطينية ، وترعرع وفق نظام امن وحصانة لا حدود لها وحفاظا على إنسانية كل منهما ليحيوا حياة كريمة ، ولكن الموت يلاحقهم ويتربص بهم من أعداء الإنسانية ، في الشريعة اليهودية كل من يحاول أن يعمل لصالح الإنسانية يدمروه ، والإيجاز بقتل الانسان الذي لا يخدم مصالحهم التهويدية الصهيونية ، وإن كان ابن ملتهم ...
الحفاظ على حياة الإنسان هي ضرورة للارتقاء به إلى مدارج الكرامة ، وهذه الضرورات تتوقف عليها حياة الانسان الدينية والدنيوية ، ونجاة للوجود الإنساني ، لطالما جميع الشرائع السماوية تنادي بها لطالما كان الإنسان محور هذه الأديان السماوية والتي مصدر أصولها واحد ، ولكن الفكر الإنساني المتطرف الذي شكلته العنصرية والكهانة غيرت بمباديء الانسانية التي جاءت من أجلها الأديان لتحقيقها ، وهذا ما وضحه الكاتب بين سطور الرواية ..
ظل الحكاية لم ينته ...
خطوط هذه الرواية تضعك أمام العديد من التساؤلات وكثير من المنعطفات ، فالكتابة التي تحفر في ذهن القارئء والناقد معا ولعا لإثارة التساؤل والتحديق بالمقامات المختلفة التي ترتيبها يساعدنا في بناء وتشكيل المنظومة القيمية الانسانية ، تستحق التأمل وأخذها بعين الاعتبار .
لنتساءل من هو ظل الله على الارض ؟ وما هي هيئته ؟
من هو الإرهابي ؟ من يحفر للإنسانية قبرها أم من يحييها ؟ من يميت الفكرة أم من يحييها ؟ لطالما كانت صورة الفلسطيني مشوهة في بقاع الأرض ، كم واحد منا يجب أن يموت من أجل أن يحيا الاخرون ؟
متى بدأت الحكاية ومتى ستنتهي ؟ هنا يتوضح بالنص " عندما جاء الجندي الإسرائيلي قائلا لزوج إيمان : حكايتنا بدأت معكم من الآن ". ليتبين أن الصراع الحقيقي مع اليهود هو صراع الإنسان للإنسان ، صراع الحق والباطل ..
هذه الخطوط تأخذك إلى قضية أعمق من إشباع دافع أمومة باردة ، لتصل إلى الإنسان في عمقه اللامتناهي ، هنا عندما يصبح الإنسان قضية وطن ، قضية ثقافة ، لتكتشف في نهاية المطاف أن قضية الإنسان ما إلا هي قضية أم مصغرة عن القضية العادلة " فلسطين الفكرة والثورة " ، على امتداد جغرافيتها وحدودها الإنسانية في أعمق أعماق العالم واحتضانها مختلف الأديان وحفاظا على حياة كل منها عندما يتربص الموت بهم ...
كما يسلط الكاتب الضوء على ظواهر الثقافة الإنسانية البارزة لمواجهة التحديات والعراقيل بوعي ونضج عميق ،تحدي واصرار ، هذا الوجه الثقافي الذي تجسد في صورة المرأة المثقفة المؤمنة بالفكرة ، التي تمكنت من إدارة الحوار والإقناع بشكل فني إنساني ، والمقاربة بين النصوص القرآنية والتوراتية والإنجيلية التي تخاطب الإنسان عقلا وقلبا ، وحمايته ليسمع صوت ثقافتها ويصدح في قلب كل من الشيخ ، والراهب والحاخام ، فكان صوت الحق عاليا وإن كان ثمنه باهظا ...
إن الخوف يتأهب في قلب كل ما يقام على باطل ، والأمن امتداد القوة في قلب كل ما يقام على حق ، " لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى " وهذه المفارقة اختصار ل " التقوى أقوى " ، لذلك نحن أقوياء بإنسانيتنا وبإرثنا الثقافي اللذان ينتصران وسينتصران على الدوام ... خطوط الرواية عريضة ، ولكن تفاصيلها دقيقة جدا ...