اصدار جديد "الحرب الأهلية الأوروبية"
نشر بتاريخ: 28/10/2017 ( آخر تحديث: 28/10/2017 الساعة: 10:01 )
إعداد د.خليل نزال – وارسو/ بولندا
في السادس من تشرين أول/أكتوبر 2017 صدرت الترجمة البولندية لكتاب أستاذة العلوم السياسية الألمانية Ulrike Gu rotالذي صدرت طبعته الأصلية باللغة الألمانية في الرابع من أيار/ مايو 2017 بعنوان Der neue B rgerkrieg أي "الحرب الأهلية الجديدة". الطبعة البولندية صدرت بعنوان: الحرب الأهلية الأوروبية.
تُخضع المؤلفة في كتابها الوضع في أوروبا للتحليل وتضع تشخيصا للأزمات التي تعصف بها وما تشكله من أخطار ستؤدي إن لم يتم التعامل معها بالجدية الكافية إلى تعريض المشروع الأوروبي برمته إلى الخطر. ومن بين تلك الأزمات تبرز مشكلة اللأجئين كدليل على الترابط بين الوضع في أوروبا وبين الكوارث التي تعصف بالوطن العربي بحث يبدو جليا أن تأثير ما تتعرض له الدول العربية من موجات التدمير المتتالية وما نشهده من تفكك لبعضها وإغراق بعضها الآخر في حروب داخلية لا نهاية لها، هذا التأثير لا ينحصر في دول المنطقة وشعوبها فقط، وإنما يمتد ليشمل أوروبا القريبة جغرافيا من منطقتنا المضطربة.
يحتوي الكتاب على تحليل دقيق للوضع الراهن في أوروبا ويضع توقعات لما قد يؤول اليه هذا الوضع في المستقبل القريب.
تبدأ المؤلفة وفي الصفحات الأولى بتشخيص سوداوي للوضع بطريقة تشكل مفاجأة لكل من يتابع تفاصيل الحياة السياسية الأوروبية: على الرغم من كون عصر الحروب التقليدية بين الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي قد ولّى وإلى غير رجعة، إلا أن كل دولة من هذه الدول تشهد ما يمكن وصفه دون تردد بالحرب الأهلية الهادئة والتي تقف وراءها وتغذيها الاحزاب اليمينية القومية المتطرفة التي يزداد نفوذها في العديد من دول الاتحاد الاوروبي من فرنسا وألمانيا مرورا بالنمسا ووصولا إلى معظم دول أوروبا الشرقية وبعض الدول الإسكندنافية، تلك القوى التي ترفع الشعارات القومية الرافضة لتعميق الإندماج بين دول الإتحاد الأوروبي، وتمارس كل ما من شأنه رفع وتيرة العداء للاجئين الهاربين من بؤر الصراع في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
هذه القوى اليمينية التي يزداد نفوذها في عدد كبير من دول الإتحاد تجمعها صفات مشتركة وتستخدم نفس الأساليب في تأليب الرأي العام في بلدانها ضد الإتحاد الأوروبي ومؤسساته وضد اللاجئين، وهو ما يضمن لها شعبية متزايدة من جهة، ومن جهة أخرى يفاقم من حالة الإستقطاب الداخلي في كل دولة من تلك الدول مما يجعل الوضع يقترب من لحظة الأنفجار.
وتُرجِع المؤلفة نشأة هذه الأحزاب والنمو المتسارع لتأثيرها إلى مسألتين:
1. الأزمة المالية التي انفجرت سنة 2008 والتي كانت نتيجة طبيعية للتصخم الذي أصاب القطاع المصرفي وما تبعه من أزمة تعرضت لها العملة الأوروبية الموحدة "اليورو". لقد كانت الحلول التي وضعتها المؤسسات الأوروبية "الليبرالية" لهذه الأزمة سبباً مباشراً لتنامي حالة التذمر في كل دول الإتحاد، إذ أن إنقاذ المصارف التي أصابها الإفلاس قد تم بواسطة ضخ كميات هائلة من الأموال من موازنة الإتحاد الأوروبي ومن موازنات كل الدول بشكل منفرد، أي أن انقاذ النظام المصرفي والمالي قد تم على حساب المواطنين العاديين ومن الضرائب التي يقومون بدفعها. وفي المقابل تم فرض سياسات للتقشف والحد من دور الدول في تقديم العون للفئات الفقيرة في الدول الأوروبية. لقد أدت أزمة اليورو والطريقة التي تم التعامل بها مع تبعات تلك الأزمة إلى إحداث شرخ في بنية الإتحاد الأوروبي بين دول الشمال الغني ودول الجنوب (اليونان وايطاليا واسبانيا والبرتغال) التي كانت بحاجة الى مئات مليارات اليوروهات لإنقاذها من أزمة تسببت بها المؤسسات المصرفية المملوكة بغالبيتها لدول الشمال الأكثر غنى.
2. أزمة اللاجئين التي غرقت فيها أوروبا والتي كانت بنظر المؤلفة نتيجة طبيعية للسياسات الغربية في منطقة الشرق الأوسط وللممارسات الإستعمارية التي استمرت عشرات السنين في دول شمال إفريقيا تحديدا، وهي سياسات أدت الى نشر الفوضى والحروب الأهلية وأدت إلى تفكك دول باكملها. لقد شكلت أزمة اللاجئين وقوداً لحملة القوى اليمينية الداعية الى الحفاظ على الهوية القومية في كل دولة من دول الاتحاد، وهو ما أدى الى ظهور شرخ آخر في بنية الأتحاد الأوروبي هذه المرة بين دول أوروبا الشرقية المعادية بالمطلق لاستيعاب اللاجئين مهما كان عددهم ودول أوروبا الغربية التي فتحت أبوابها لمئات الآلاف منهم. وقد أدى تفشي ظاهرة الإرهاب في أوروبا إلى تنامي قوة اليمين المتطرف الذي يربط بين الإرهاب واللاجئين عموما، والمسلمين منهم على وجه الخصوص. وهذا بدوره يؤدي الى ازياد مضطرد في حجم العداء الشعبي لظاهرة اللجوء وما يرافق هذا العداء من ممارسات عنصرية يتعرض لها المهاجرون.
وفي تحليلها لما وصلت اليه الأوضاع في أوروبا تضع المؤلفة اللوم على النخبة "الليبرالية" التي نجحت في حماية الثقافة الديمقراطية وحافظت على مكاسب الحرية وعززتها، لكنها أهملت عاملاً أساسيا ضروريا لضمان السلم المجتمعي وهو المساواة والعدل في توزيع الثروات والخيرات التي يتم انتاجها، وهو ما أدى إلى ما نشهده الآن من حالة الإستقطاب بين تيارين متناقضين: دعاة العولمة مقابل المتضررين منها، أنصار الدولة الأوروبية الواحدة مقابل المتعصبين للدولة القومية، الأغنياء في مواجهة الفقراء، الشباب الذين لا يعترفون بالحدود مقابل كبار السن، دعاة التسامح والتعايش وتقبّل الآخر مقابل المتعصبين والعنصريين الرافضين لقبول اللاجئين والمعادين للأقليات بغضّ النظر عن طبيعتها.
"الحرب الأهلية الأوروبية" من منظور المؤلفة ليست حرباً كالتي تعودنا عليها حتى الآن، فالقوى القومية اليمينية المتطرفة لا تستخدم السلاح - حتى الآن على الأقل- لتحقيق أهدافها، لكنها تخاطب غريزة أنصارها متخلية عن قواعد العملية الديمقراطية. كل هذا جعل الوضع في غالبية الدول الأوروبية يشبه حالة "ما قبل الثورة"، وهو وضع يفقد الدولة المركزية هيبتها، وهذا بدوره يشجع الحركات والنزعات الإنفصالية على الظهور إلى العلن كما يحدث في إسبانيا وايطاليا.
الأزمة التي تعصف بالإتحاد الأوروبي جعلت منه حسب رأي المؤلفة قوة غير فاعلة على المستوى الدولي وأصبحت روسيا بوتين قادرة على إملاء شروطها في تعاملها مع أوروبا، مستغلة إحتكارها لموارد الطاقة الي تشكل عصب الإقتصاد الأوروبي، خاصة مع تنامي النزعة الإنعزالية التي تتصف بها السياسة الأمريكية في ظل إدارة الرئيس ترامب، مما ترك أوروبا وحيدة أمام الدب الروسي.
في المقابل ترى المؤلفة أن القوى الليبرالية الداعمة لمسيرة الإندماج داخل الإتحاد الأوروبي بدأت تتلمس المخاطر التي يمثلها اليمين المتطرف، ولكنها بحاجة الى توحيد صفوفها والانتقال الى التنسيق والتعاون العابر للحدود لأن الخصم اليميني له صفة أوروبية شاملة رغم أنه يحصر نشاطه في حدود كل دولة على حدة. وقد برزت بعض نتائج "الصحوة" في عمل القوى الليبرالية من خلال الفشل الذي تعرضت له قوى اليمين المتطرف في فرنسا وهولندا مما يبشر بإمكانية وضع حد لتفاقم تأثير هذه القوى.
تخلص المؤلفة إلى نتيجة أن البديل الوحيد للحرب الأهلية الأوروبية هو انتصار القوى الليبرالية وترسيخ فكرة الاتحاد الاوربي كفيدرالية تضم دولاً تتنازل طوعاً عن كثير من مقومات سيادتها الوطنية لصالح الإتحاد الفيدرالي القادر على منافسة مراكز القوى الدولية. ومن المفارقات أن القوى الليبرالية يمكنها في سعيها لتحقيق هذا الهدف أن تستفيد من القوى اليمينية المتطرفة، إذ تتوقع المؤلفة أن الحروب الاهلية التي تسعى لها هذه القوى ستكون نتيجتها الحتمية هي تفكك الدول القومية التقليدية، وهو ما سوف يسهّل مهمة بناء الإتحاد الأوروبي الجديد كدولة فيدرالية قوية.