نشر بتاريخ: 19/11/2017 ( آخر تحديث: 19/11/2017 الساعة: 13:39 )
عن كتاب " أيام خارج الزمن"
بقلم: معن البياريكتابٌ ذو مذاقٍ حار، لا تخرج من قراءته كما كنت قبلها، يبقى كثيرٌ منه فيك. لك أن تحسبه في السيرة الشخصية، وهو كذلك، غير أنه يتفلّت من سمْته هذا، فتقبض في صفحاتٍ وفيرةٍ فيه على مطالعاتٍ في الفكر والثقافة والأدب، تعبُر من الذاتيّ الخاص إلى العام العريض. صحيحٌ أنه نصٌّ في السرد المنسرح الحر، والذي يجري مسرى القصّ والرواية في مطارح وفيرة فيه، غير أنه يزاول مع قارئه مناورةً تستأنس بالشعر الصريح، أحيانا، وباللغة ذات الشحنات الشعرية العالية. وفي أحيانٍ ثالثة، يحكي ويحكي بنثريةٍ تتباسط معك، أنت القارئ الصديق.
إنه كتاب الشاعر والنقابي والباحث والأستاذ الجامعي الفلسطيني، الدكتور المتوكل طه، "أيام خارج الزمن.. سيرة كاتب.. نصف قرن من الدم والحبر" (دار فضاءات، عمّان، 2017). والذي استحق، أخيرا، نيْله جائزة إحسان عباس للإبداع الثقافي التي ينظمها ملتقى فلسطين الثقافي، مناصفةً مع كتاب إلياس نصرالله "شهادات على القرن الفلسطيني الأول" (دار الفارابي، بيروت، 2016). وسيُحتفى بالكتابيْن وصاحبيْهما الأسبوع المقبل في حفل الجائزة في رام الله.
وفيما تنوّعت مشاغل المتوكل بين الشعر والرواية وأدب الرحلة والمقالة، فضلا عن الدراسات والأبحاث النقدية، فإنه، في مؤلّفه هذا، يجدّد لياقته العالية في إبداع نص السيرة المفتوح، بعد كتابيْن سابقيْن عن تجربة اعتقاله في سجون المحتل الإسرائيلي، وهو الذي وازى، في مساره مثقفا فلسطينيا، بين الميدان والإنجاز الإبداعي والبحثي والدرس النقدي (45 كتابا)، فاشتبك في الحالة الفلسطينية المناضلة في الأرض المحتلة، قبل دراسته في جامعة بير زيت أواخر السبعينيات، وبعدها. وإلى نشاطه النقابي اللافت، وتأسيسه تجمعات ثقافية فلسطينية، ومشاركته في مؤسسات أهلية كثيرة، ومن ذلك انتخابه رئيسا لاتحاد الكتاب الفلسطينيين، ثم أمينا عاما له، ثمّة عمله في المؤسسة الفلسطينية الرسمية، وكيلا لوزارة الإعلام، ثم سفيرا في ليبيا، وكان طيبا لو أن الكتاب اشتمل على شيء من هذه التجربة، في هذا البلد بعد خلع معمر القذافي.
لك أن تعدّ الكتاب المكرّم بالجائزة الرصينة كتابا في حب فلسطين أولا. وإذ يلحُّ صاحبُه المتوكل طه، في مقدمته، على أهمية موقع نصوص السيرة التي أنجزها كتابٌ ومفكرون فلسطينيون كثيرون في المدوّنة الفلسطينية العريضة، فإنه في "أيام خارج الزمن" يضيف في هذه المدونة، الشاسعة والشائقة، إسهاما طيّبا. ولا أستطيع أن أمنع نفسي هنا من التقدير الخاص للمتوكل طه على اللغة الطافحة بالحب عن أصدقاء وأساتذة ورفاق له عديدين. بدا حريصا على احترام الجميع، وتقدير ما أنجزوا وأعطوا وكتبوا. إنه يسمّي أساتذته في جامعة اليرموك في الماجستير (بعضهم أساتذتي) آباءه الجليلين العظيمين. ويحتفي بالراحل عبد اللطيف عقل (له مطرحٌ عميقٌ في وجداني)، ويسمّيه "شاعرنا المذهل المظلوم، .. والمفكر الصديق المعلم". أما علي الخليلي فهو "قائدنا الروحي"، وحسين البرغوثي كان "شيخي وكنت مريدَه المخلص"، فيما فدوى طوقان أمرها ثقيل عند المتوكل طه، وهذا معلوم لمن يعرفهما، غير أن بين دفتي "أيام خارج الزمن.." ما يضيء أكثر وأكثر على الشاعرة الباقية، صاحبة الموقع البهي في الزمن الفلسطيني كله، بل ويضيء أيضا على الروح الرهيفة للمتوكل نفسه، طالب علمٍ دائما، وممتلئا بفلسطين أبدا.
لم يتتابع الزمن تماما في استعاداتٍ من الذاكرة في هذه السيرة، وإنما تقاطعت انتقالاتٌ من مطارح فيه إلى أخرى، منذ مفتتحه الفاتن والعذب عن فلسطين جنّةً، وعن ناسها، ثم الفصل التالي عن بيتٍ وسيعٍ في قلقيلية، على نسبٍ مع الشجر، ولد فيه المتوكل طه الذي صار يجلس خلف أمه بين النساء في ليالي الحنّاء للأعراس، ويسمعهن يقهقهن، ويتحدثّن، "ويبذلن النكات الناتئة المكشوفة، ويقلن ما لم يقل من أسرار حميميةٍ لاهية سافرة".. بمثل هذا التداعي الطلق، الحر، المزنّر بالعفوية وحب الناس ومناهضة العدو الإسرائيلي، وغير ذلك من تفاصيل وقضايا، عن الانتفاضتين، عن الكتابة الضرورة، عن الدراسة في بير زيت "إجباريا"، ضدا على رغبة الشاب الذي كانه الكاتب بدراسة التمثيل في القاهرة، وعن مسائل عديدة أخرى (الربيع العربي مثلا)... بمثل ذاك التداعي، انكتب نصٌّ فلسطيني حاذق، نابه، يُؤالف بين المؤانسة والإفادة، ويترك قارئه ليس على حاله بعد أن ينتهي منه.. ولن ينتهي.