من السّجن إلى حديقة الحيوان: سيطرة إسرائيل "الإنسانيّة" على غزّة/ بقلم: داريل لي
نشر بتاريخ: 02/02/2008 ( آخر تحديث: 02/02/2008 الساعة: 16:48 )
إنّ التشبيه الاستعاريّ لقطاع غزّة، وكأنّه السّجن الأضخم في العالَم - ولسوء الحظّ - قد أكل عليه الدهر وشرب. فإسرائيل تتعامل، اليوم، مع القطاع تعاملاً هو أقرب ما يكون من التعامل مع حديقة حيوان. فإدارة سجن تعني قهر الحريّة وإخضاعها؛ أمّا في حديقة الحيوان، فتكون القضية الأساس هي كيفيّة الحفاظ على أولئك القابعين في داخلها أحياءً، وبترقب لكيفية نظرة الغرباء في الخارج إليهم. فقضية الحريّة لا تطرَح ألبتّة. هنا، تساعد أزمة الكهرَباء المتواصلة في إلقاء الضوء على هذا التحوّل، إذا صحّ التعبير.
تزوّد إسرائيل غزّة بكلّ الطاقة تقريبًا، سواء بِصورةٍ مباشَرة، عِبر شبكتها الكهرَبائيّة، حيث يتمّ الدفع لها من خلال عائدات الضرائب التي تجمعها إسرائيل نيابةً عن السّلطة الوطنيّة الفِلَسطينيّة (PNA)؛ أم بصورةٍ غير مباشَرة من خلال الوقود الذي توفّره الشركة ألإسرائيلية (دور ألون) لمحطّة توليد الكهرَباء الوحيدة في غزّة، المُموَّلة من قِبَل الاتّحاد الأوروبيّ.
تُعاني غزّة أزمة في الكهرَباء منذ حزيران 2006، عندما قصفت الطائرات المروحيّة الإسرائيليّة بصواريخها مُحوّلات المولّد الكهرَبائيّ على أثر أسر جنديّ إسرائيليّ، ما أدّى إلى تعطيلها نهائيًّا.2 ثمّ قامت إسرائيل، لاحقًا، بتقييد جهود الترميم عِبر عرقلة إدخال قطع الغيار والمعدّات اللازمة إلى القطاع. وهكذا، فإن مولّد الكهرَباء يعمل، حاليًّا، بشكل جزئيّ قياسًا بقُدرته السابقة، وهو ما يكفي لتلبية أقلّ من ثلث احتياجات غزّة للكهرَباء. وحتى قبل أن ينفد توفير الوقود للمولّد، في 20 كانون الثاني 2008، كان معظم سكّان غزّة يعانون انقطاعًا متكرّرًا ومتواصلاً للتيار الكهرَبائي يصل إلى ثماني ساعاتٍ يوميًّا.3
وزيادة في تعقيد هذه المشكلة، أعلن الطاقم الأمني الإسرائيلي المصغّر، في 19 أيلول 2007، نيّته تقليص إمدادت الكهرَباء والوقود إلى غزّة. وفي 29 تشرين الثاني، وافقت محكمة العدل العليا على أنّ الأمر جائزٌ، حيث اشترطت توزيع الطاقة المتبقية بصورة تلبي "الاحتياجات الإنسانيّة الأساسيّة" للسّكان.4 وقد سمحت المحكمة بتنفيذ قطع الوقود لكنها أرجأت الحكم على عمليّات قطع الكهرَباء التي تمّ التخطيط لها، مطالبةً الدولة، في تلك الأثناء، بتوفير معطيات شاملة بُغية مساعدتها في اتّخاذ القرار.
إنّ العلاقة بين الدولة وبين المحكمة هي علاقة وثيقة في كلّ ما يتعلق بإدارة غزة في فترة ما بعد فك الارتباط، وبعقلية الحفاظ على حديقة الحيوان. ففي عام 2006، قرّرت إسرائيل أنّ الطريقة المُثلى لمعاقبة الغزّيين على أسر أحد جنودها هي القيام بعملية متتالية هائلة من العنف، والتي من شأنها توسيع رقعة العوز5.
واليوم، تسعى لتحقيق نتائج مماثلة من خلال وسائل أشدّ وذات مدًى أبعد: منع الكهرَباء وعرقلة الحياة اليومية. وهذا التحوّل في التوجّه يماثل الفرق ما بين ضرب سجين على رأسه بُغية إخضاعه، وبين ترويض حيوان بواسطة لجمه والتحكّم في إطعامه.
إنّ هذا التحوّل في الاتجاه تطلّب فتح صفحة قانونية جديدة. ومن هنا نرى أن قرار العليامن 29 تشرين ثاني 2007 يفتقر إلى أيّة مرجعية في السوابق القانونية، المعاهدات أو النظم الأساس، ما يعكس نظرة الدولة إلى غزة ما بعد فك الارتباط كحديقة حيوان، بشكل يخلو من أيّ التزام قانوني من طرفها. إنّ القانون الدولي المتعلق بالاحتلال، والذي سبق للمحكمة تطبيقه بخصوص غزّة، نظريًّا على الأقلّ - فيما عدا حظر الاستيطان - غائب تمامًا، بما في ذلك الحظر التامّ للعقاب الجماعيّ (المادّة 33 من وثيقة جنيف الرابعة). فالقرار يشير، بشكل صريح، إلى نوع من التمرين التخميني في الحسابات النفعيّة؛ فالمحكمة تتصرّف كموظّف إداريّ أكثر من كونها قاضيًا، كشريك في ضبط وتحديد حدّة الألم الذي سوف يشعر به الغزّيون.
فبدلاً من اعتماد أيّ إطار قانوني، اقترحت الحكومة - وهو ما صدّقت عليه المحكمة - ما يبدو كما لو أنه معيار بسيط للسياسة: فورَ تلبية "الاحتياجات الإنسانية الأساسية" فإنّ جميع أشكال العوز الأخرى تصبح مباحة. وإذا تسنّى تخصيص وقود إنتاج الكهرَباء للمستشفيات وأجهزة الصرف الصحّي، فإنّ احتياجات الاقتصاد في غزّة لا تعود تلعب أيّ دور: "نحن لا نتفق مع حجّة الملتمسين بأنّه يجب السماح لـ "قوى السوق" بالقيام بدورها في غزّة، في ما يتعلّق باستهلاك الوقود"6.
يعكس هذا المنطق التحوّل الراديكالي في سياسة الحصار الإسرائيلية منذ صيف 2007: من حصار متكرّر الحدوث ومُعرقِل إلى حصار تامّ لكلّ شيء سوى "المسائل الإنسانية الأساسية". لقد انتقلت إسرائيل من محاولة معاقبة الاقتصاد الغزيّ إلى قرار مُفادُه أن الاقتصاد هو ترف غير ضروري (مع أن إسرائيل لا تزال تسمح بدخول السلع التجارية إلى غزة، حين يحتاج المنتجون الإسرائيليون إلى التخلّص من بضائع فائضة). لقد فرضت هذه السياسة إغلاق 90% من معامل الصناعة الخاصة في غزة، تجميد جميع أعمال البناء، وأدّت بالبِطالة إلى تسجيل ارتفاعات.7 فحوالي 80% من السكان باتوا يعتمدون، اليوم، على المساعدات الإغاثية، والـ 20% الآخرون يعتاشون بشكل رئيسي على مداخيل موظفي الدولة، عاملي المنظمات غير الحكومية، أو موظفي المنظمات الدولية وغيرهم، أي أشخاص يُعتبَر اعتمادُهم الاقتصادي على حسن النوايا الخارجية غير مباشَر، لكنه رغم ذلك حقيقي.
إن التمييز الدقيق والبسيط، على مستوى الممارسة، ما بين الاحتياجات الضرورية وبين الترف، عادةً ما يكون غير قابل للتطبيق. فشبكة الكهرَباء المنهَكة في غزة يمكنها توزيع الكهرَباء بالتناوب بين المناطق، وهو ما تقوم به فعلاً، لكن المستشفيات وتجهيزات الصرف الصحي تتوزّع على رقعة أوسع، ما يمكّن من تزويدها بالكهرَباء بشكل منفصل عن بقية السكان.8 ورغم التصاريح التي تسمح بتلقي العلاج الطبي خارج غزة لمن "يتهدّد الخطر سلامتهم" - وهو معيار صدّقت عليه المحكمة الإسرائيلية العليا في الصيف الأخير9- فقد تسببت بحالات وفاة، من خلال حجب التصاريح لسبب إجراءات "جودة الحياة"، فقط، بما في ذلك عمليات القلب المفتوح.10
إن مفهوم "الإنسانية الأساسية" (ومن غير الواضح ما الذي يُميّز الإنسانية "غير الأساسية") يقلّص احتياجات، طموحات، وحقوق 1.4 مليون إنسان إلى مجرّد تمرين في احتساب السّعرات الحرارية، عدد وَحدات الميغاواط، وغيرها من الوَحدات الأحادية البعد والمجرّدة التي تقيس المسافة عن الموت. إنها تصرف الانتباه عن، بل تشرعِن، تدمير مقدّرات وموارد غزة الداخلية: اقتصادها، مؤسساتها وبنيتها التحتية. وحتى لو أنها تطبَّق بنِيّة حسنة ولأفضل الأهداف، فإنها لا تبشّر بأكثر من تحويل الغزيين، أفرادًا وجماعة، إلى متسوّلين - أو بالأحرى إلى حيوانات سمينة - يعتمدون على الأموال الدولية والأوامر الإسرائيلية.
إذا كانت جهود إسرائيل السابقة في تضييق مفاهيم الحوار تشكّل أية دلالة، فإن المجتمع الدولي، الخصوم الداخليين، "القادة" الفِلَسطينيين وغيرهم، سرعان ما سيجدون أنفسهم يصرفون جلّ طاقتهم على تسوّل حاوية إضافية من الوقود هنا، أو شيء من وَحدات الميغاواط الإضافية هناك. ولكن، من الجهة الأخرى، فإن مجابهة إرساء نظام حديقة الحيوان يستدعي توجّهًا شاملاً.
بنظرة من بعيد، تبدو غزة أقلّ من حديقة حيوان وأشبه بأن تكون حظيرة حيوانات في الفِناء الخلفي لمزرعة ضخمة، أي دولة إسرائيل. إن قطاع غزة ليس عالمًا مفصولاً يقع تحت ملكية إسرائيل، بل إنه مِنطقة يسكنها ربع السكان الفِلَسطينيين الذين يعيشون تحت سيطرتها، ويُحشَرون داخل 1.5% من مساحة المِنطقة الكليّة. إن الغزيين يعيشون في أدنى درجات سلّم الإقصاء القانوني الذي يطوّق نصف سكان اسرائيل/فلسطين غير اليهود، والذي يقسّمهم إلى مواطنين في إسرائيل، سكان في القدس الشرقية، وضفّاويين (سواء أكانوا يعيشون في ظلّ حكم السلطة الوطنية الفِلَسطينية أم في ظلّ الحكم العسكري الإسرائيلي المباشر). إن مستقبل غزة مرتبط بشكل معقَّد غير قابل للحلّ بمستقبل إسرائيل، ويقدّم حاضر غزة أكبر إنذار طارئ في شأن الحاجة إلى وضع إدارة سياسية أكثر عدلاً، ووضع إطار قانونيّ بالنسبة إلى الدولة التي بسطت نفوذها فعليًّا على الأرض الممتدة بين النهر والبحر على مدى أربعة عقود.