الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

نسيم الشوق: أحبها لكنها من دين مختلف

نشر بتاريخ: 20/04/2018 ( آخر تحديث: 20/04/2018 الساعة: 14:27 )
نسيم الشوق: أحبها لكنها من دين مختلف
الكاتب: سامي قرّة

لا تقل الحرية من المعتقدات والتقاليد الاجتماعية أهمية عن الحرية من الظلم والاحتلال. هذه هي في نظري الرسالة التي ينقلها لنا الأديب المقدسي جميل السلحوت في روايته الجديدة نسيم الشوق الصادرة عن مكتبة كل شيء الحيفاوية عام 2018، ويحمل غلافها الأول لوحة للفنان التشكيلي محمد نصرالله. فإطلاق سراح سهيل الشخصية الرئيسية في الرواية من سجن شطّة هو إشارة رمزية للحرية الاجتماعية والفردية التي يسعى سهيل إلى تحقيقها في حياته. وكما أن "السجن قتلٌ لإنسانية الإنسان" (ص 38)، في كثير من الأحيان وخاصة في مجتمعنا العربي تكون الموروثات الثقافية والاجتماعية والدينية قتلا للحرية الفردية ولحرية المعتقد ولحرية اتخاذ القرار.
تتطرق رواية نسيم الشوق إلى مواضيع عدة هامة، لكنني في هذه المقالة سأتحدث عن ثلاثة مواضيع رئيسية هي الهوية الدينية، والزواج المختلط أو الزواج بين أتباع الديانات المختلفة، وانعدام المساواة بين الجنسين.

الهوية الدينية
لا أحد يختار دينه، فالدين الذي نؤمن به هو أحد الموروثات الثقافية التي تلد معنا لحظة ولادتنا. فعندما نعرّف أنفسنا كوننا مسلمين أو مسيحيين فنحن نجاهر بمعتقد فُرض علينا، ولم نختره بحرية الإرادة. غير أنه من وجهة نظري الإيمان بدين معيّن أو أي معتقد آخر ينبغي أن يكون نتيجة تجارب حياتية يخوضها الإنسان في محاولة منه إعطاء معنى لحياته، واكتشاف حقيقة وجوده. وهذا ما تدعو إليه شخصية سامي متري الذي اتخذ خطوة جريئة وقرّر أن يعتنق الإسلام على الرغم من أنه وُلد مسيحيا وورث المسيحية عن أبيه وأمه. ولم يُعلن سامي إسلامه شكليا أو لتحقيق مصلحة شخصية بل أعلنه "مقتنعا بذلك، وبعد تفكير طويل" (214). إضافة إلى ذلك، يعتبر سامي أن إيمانه بالإسلام قضية شخصية، ولا يحق لأحد التدخل فيها. عندما يسأله القاضي الشرعي ما إذا كان والداه يعلمان بقراره ووافقا عليه، يجيب سامي بكل ثقة: "هذه قضية إيمانية تخصني وحدي، وكلّ شاة بعرقوبها معلقة" (214). وبالطبع سامي شاب مسؤول وهو على استعداد تام لتحمل نتائج فعلته. يسأله القاضي: "هل تعرف ما يترتب عليك إذا أعلنت إسلامك؟" يجيب سامي:
"نعم، فقد اطلعت على مبادئ الإسلام، قرأت القرآن الكريم، درست التاريخ الإسلامي، السيرة النبوية، تأثرت بمسلكيات وأخلاقيات بعض زملائي وأصدقائي المسلمين" ص 215.
إذن هوية الفرد الدينية قد تتغير، هي هوية ديناميكية وينبغي أن تكون كذلك لأن الإنسان يولد حرّا وله حرية الاختيار. وحرية الاختيار هذه هي المضاد الحيوي للقضاء على فيروس التعصب والصراع الديني. ما علينا إلا أن نقرأ كتاب أمين معلوف حول الهوية كي ندرك مدى حدّة الصراع الذي يمكن أن يؤججه التمسك الأعمى بالهوية الدينية. أليس جميلا أن نرى في نهاية الرواية قلبين متحابين يرتبطان معا وإلى الأبد في قصة حب جميلة بدل فراقهما بسبب الاختلاف الديني لكل منهما؟ أليس جميلا أيضا أن نرى عائلة سامي وعائلة مديحة يتقبلان بكل سعادة سامي زوجا لمديحة على الرغم من تغييره لهويته الدينية؟
خطر على بالي وأنا أقرأ نسيم الشوق شخصية ندى في رواية الدكتورة خولة حمدي في قلبي أنثى عبرية. نرى في الرواية أن ندى تذهب في نفس الاتجاه الذي يذهب إليه سامي حيث تقرر بملء إرادتها التحوّل من اليهودية إلى الإسلام والارتباط بأحمد. سامي وندى خير برهان على أننا لسنا مسيّرين في هويتنا الدينية، وهذا جليّ فيما تقوله شيماء لصديقتها مديحة عندما تفقد الأخيرة الأمل في الزواج من سامي لأنهما "من أتباع ديانة اخرى" (195): "من يعتقد أننا مسيّرون، يلغي العقل الذي هو جوهرة الإنسان ... وتصرفاتنا بفعل إرادتنا وليست قضاء وقدرا" ص 196.

الزواج بين أتباع الديانات المختلفة
من المواضيع التي تعالجها الرواية معضلة الزواج المختلط أو الزواج بين أتباع الديانات المختلفة. وتبرز في الرواية حبكتان رئيسيتان هما:أولا: العلاقة بين سامي ومديحة من جهة والعلاقة بين سهيل وناريمان من جهة أخرى. سامي شاب مسيحي يقع في غرام مديحة وهي شابة مسلمة ويريد أن يرتبط بها، وسهيل شاب مسلم يقع في حب ناريمان وهي شابة مسيحية ويريد أن يتزوجها. لكن الأمور تتعقد لأن الزواج بين أتباع الديانات المختلفة غير مقبول في مجتمعنا. يقول الراوي: "لكن الزواج المختلط بين المسلمين والمسيحيين العرب في بلادنا، يواجه مشاكل كثيرة، قد تصل إلى القتل أحيانا، وأنا أقصد هنا زواج المسلم بمسيحية، أمّا زواج المسيحي من مسلمة فهذا حرام" (172). وبعد أن تقع مديحة في غرام سامي تدرك أن علاقتهما غير مجدية، وقد تسبب لهما مشاكل كثيرة لأن: "الإسلام يحرّم زواج المسلمة من غير مسلم" (174). وتلعن مديحة الساعة التي تعرّفت فيها على سامي وتشكو إلى صديقتها شيماء حائرة: "تبا لذلك اليوم الذي شارفت فيه على الغرق ... وقادنا إلى الحديث عن وهم لا نعرف أين سيصل" (174). وتقرر أن تقطع علاقتها بسامي نهائيا.

لكن ما الذي يمنع الزواج بين أتباع الديانات المختلفة؟ هو الدين نفسه والتعاليم الدينية التي ورثناها عن أجدادنا، إضافة إلى التقاليد التي تحكم علاقات الأفراد والجماعات بعضهم ببعض. في حين أن من واجب الأديان أن تقرّب الناس من بعضهم، لكننا نراها تبعّد الناس وتقف عائقا أمام علاقات الحب الإنسانية، وقد تؤدي بهم إلى القتل. بالفعل كما تقول أمّ حاتم "إحنا الله ساخطنا" (ص 186). نسمع ناريمان تحكي لمديحة: "الزواج المختلط له أبعاده الخطيرة في بلداننا العربية، فالمسيحي إذا تزوج مسلمة قد يتعرضان للقتل، إذا لم يعتنق المسيحي الإسلام قبل الزواج، والمسيحية إذا تزوجت مسلما، ربما تتعرض للقتل هي الأخرى" (ص 183)، وتضيف لاحقا: "المشكلة في مجتمعنا هي الأديان" ص 202.

تتحدث الرواية عن أربعة عائلات، عائلتان مسيحيتان وهما عائلة سامي وعائلة ناريمان، وعائلتان مسلمتان هما عائلة مديحة وعائلة سهيل. والأربع عائلات هذه تمثل جيلين مختلفين، الجيل الأول جيل الآباء والأمهات والجيل الثاني جيل الأبناء والبنات. وهنالك نوع من الصراع بين الجيلين، إذ نرى أن الجيل الأول وهو جيل الكبار خاصة النساء منهم يتمسك بشدة بالقيم الدينية، في حين أن الجيل الثاني وهو جيل الأبناء والبنات يُبدي انفتاحا أكبر فيما يتعلق بالتنوع الديني، وما يمكن أن نسميه بالتلاقح الديني. ويتناقض موقف كل من الجيلين تجاه موضوع الزواج بين أتباع الديانات المختلفة، مما يخلق صراعا فكريا بينهما. توصي أمّ سامي ابنها بعدم التفكير بالزواج من مسلمة وأن يبعد عن الشر ويغني له، لكنه يردّ عليها: "كل عقدة ولها حلال، وإذا أعلنت إسلامي لن تكون هناك مشاكل" (ص 206).وبعد سماع ذلك تنتفض الأمّ كمن لدغتها عقرب وتقول منزعجة موبّخة ابنها: "ماذا قلت يا ولد؟ لا أريد سماع هذه الكلمة منك مرّة ثانية، هل تريد أن تغير ديانتك من أجل امرأة؟ ... أحذرك من مغبة هكذا تفكير، وإن فعلتها سنتبرأ منك" (ص 206). وعندما يصبح سامي مسلما ترفض أمّه حضور فرحه وتقول له غاضبة: "من يترك دينه من أجل امرأة ليس ابني ولا أعرفه" (ص 267). وكذلك الأمر بالنسبة لوالدة ناريمان، فعندما تكتشف أن ابنتها تريد الزواج من مسلم "استشاطت غضبا وكادت أن تضربني، أمسكت بشعري بيدها اليمنى وهزتني بقوة" (ص 224). أمّا أمّ حنا التي كان يسكن عندها سهيل فقد طلبت منه مغادرة المنزل؛ لأنها لا تريد سهيل المسلم أن يتزوج بنت أختها المسيحية. حادثت أمّ حنا سهيل وكأنها تعظه: "الزواج ليس حراما ولا عيبا يا ولدي، لكن الزواج بين الديانات إن لم يكن حراما فهو غير مقبول، وبإمكانك الزواج من بنات دينك، لذا أرجوك أن ترحل من بيتي بهدوء"ص 226.

على عكس النساء من الجيل الأول في الرواية، نجد أن الرجال يُظهرون تفهمًا أكبر للعلاقة التي تجمع أبناءهم وبناتهم، بل يساعدونهم على التغلب على المعضلات التي يواجهونها. كان سهيل على يقين بأنه إذا استمر في سعيه للزواج من ناريمان فإنه سيحصل على مراده، ولذلك يلجأ إلى حمدان اليافاوي المسلم زوج عمة ناريمان المسيحية لمساعدته. ويرحب حمدان بطلب سهيل، وبالفعل يذهب حمدان ذات مساء لزيارة خالد جريس والد ناريمان الذي يتفاجأ ويمتعض من طلب حمدان يد ناريمان لسهيل. فخالد يؤمن بأن الزواج المختلط يخلق مشاكل كثيرة خاصة أن عائلته ما تزال تعاني من زواج حمدان لابتسام عمة ناريمان. يطلب من حمدان منحه بعض الوقت للتفكير، لكنه في النهاية يرضى أن يكسر العادات والتقاليد ويسمح لابنته الزواج من سهيل رغم أنف والدتها. ومن ناحيته لا يضع أبو حاتم والد سهيل العراقيل أمام ابنه سهيل كي يتزوج ناريمان ويقول بكل بساطة: "إذا البنت وأهلها موافقين، هذا ما أتمناه، وربنا يجيب اللي فيه الخير" ص 242.

يمثل الجيل الجديد فكرا جديدا يجسّد المعنى الحقيقي للتعايش والتسامح وقبول الآخر، ويتخذ من الدين وسيلة للعيش المشترك والتلاحم الاجتماعي. فالزواج بين أتباع الديانات المختلفة في رواية نسيم الشوق هو إعلان طلاق بين حرية المعتقد والتعصب الأعمى. ففي نهاية الأمر أعتقد أنه في المجتمع الواحد المتكامل ينبغي أن يكون الزواج المختلط زواجا قانونيا معترفا به. وهذا ليس مشكلة لأن الأفراد يتزوجون وليس الأديان.

انعدام المساواة بين الجنسين
تتكرر في الرواية مسألة أعتقد أنها هامة لأنها تمس بشدّة حرية المرأة في اختيار شريك حياتها وتقرير مصيرها، وهي أن "الدين الإسلامي يحرّم زواج المسلمة من غير المسلم" (ص 164). ونقرأ أيضا أن "زواج المسلم من مسيحية لا تعترضه عراقيل كبيرة مثل زواج المسلمة من مسيحي" (181). وقد أدرك سامي هذه الحقيقة وقرّر أن يصبح مسلما؛ كي يستطيع أن يتزوج المرأة المسلمة التي يحبها. لكن من واجبنا أن نسأل أيضا: إذا الإسلام يسمح للرجل المسلم أن يتزوج من مسيحية، فلماذا لا يعطي نفس الحق للمرأة المسلمة ويمكّنها من الزواج من رجل مسيحي؟ لا أريد الخوض في تفاصيل هذه المسألة، لكن ما أرغب في قوله هنا أنه مهما تكون التفاسير الفقهية وغير الفقهية التي تعطي حقا للرجل وتسلبه من المرأة، فممّا لا شك فيه أن في ذلك إجحافا لحقوق المرأة الأساسية.

خلاصة
نسيم الشوق رواية جميلة تتميز ببساطة اللغة والأسلوب، وهي تعالج قضية جدلية تمس صميم مجتمعنا العربي، وتحثنا على التفكير والنقد. هي رواية جريئة تستفز القارئ، وتُحدث في داخله زلزالا عقائديا يزعزع استقراره الفكري. نسيم الشوق مثل النسيم العليل الذي يهب وينشر بذور المحبة والأخوة والتعايش والتسامح والتصالح مع الذات ومع الآخرين.