الجمعة: 27/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

كتاب ـ خرافة الدولة العظمى انتهت الحرب الباردة واختفى الخصم السوفييتي فارتبكت واشنطن!!!تأليف :نانسي سودربرغ

نشر بتاريخ: 11/02/2008 ( آخر تحديث: 11/02/2008 الساعة: 16:41 )
تنتقل المؤلفة عند هذا المنعطف من كتابها إلى رصد حركة الدبلوماسية الأميركية في محاولتها تحقيق السلام في البلقان،فتشير إلى أن الرئيس كلينتون كان يطمح إلى طرح مبدأ سياسي يدخل به سجل التاريخ الأميركي وأن إدراك صانعي السياسات الأميركيين لخطورة الصراعات في البلقان.

والنتائج التي يمكن أن تترتب عليها بالنسبة لأوروبا بكاملها أدى إلى جمع واشنطن بين الدبلوماسية وبين اللجوء إلى القوة ورفض أي تدخل يذكر من جانب حلفائها في أوروبا في إدارتها لكيفية حسم الأمور في البلقان. وهي تشير إلى أنه خلال سنوات رئاسة كلينتون الثماني كانت الصعوبة الكبرى تكمن في أن أميركا أصبحت بحاجة ماسة لسياسة جديدة تماما في مجال العلاقات الدولية تختلف عما اعتادته عبر عقود طويلة.كأنما يراهنون باستمرار على تدهور نوعية الحياة بين صفوف الفلسطينيين. إننا نلاحظ بين ثنايا سطور هذا الكتاب كيف كان أهل السياسة وصانعو القرار في أميركا وحلفائها في إسرائيل.. يربطون بين عمليات التفاوض حول التسوية وبين معاناة أبناء الشعب الفلسطيني الصامد في المجتمعات والصابر تحت نير الاحتلال..

هكذا ترصد مؤلفة الكتاب (ص64 وما بعدها) تدهور مستوى المعيشة في الأراضي المحتلة وتضيف قائلة:منذ أن بدأت الانتفاضة الثانية في سبتمبر من عام 2001 ساءت أحوال الفلسطينيين وانحسرت في الوقت ذاته أوجه مساندة التفاوض في إسرائيل. وحين جاء عام 2003 بلغ معدل البطالة بين صفوفهم 50 في المئة حيث تقرر الحيلولة دون وصول 900 ألف فلسطيني وبين العمل بسبب انتشار الحواجز الإسرائيلية بدعوى إجراءات الأمن.. وهكذا أصبح 60 في المئة من سكان الضفة الغربية وغزة يعيشون تحت خط الفقر الذي يعتمده البنك الدولي (دولاران يوميا).

كذلك جاءت الخسائر في الأرواح باهظة وفادحة في ضوء مصرع أكثر من 3200 فلسطين وأكثر من 980 إسرائيلي فضلا عن جرحى الجانبين (27 ألف و6500 على التوالي). وسط هذه الظروف المحزنة يشير الكتاب إلى نمو المنظمات المتشددة (تسميها - ولا عجب - بالإرهابية) وهي المنظمات التي جهدت في ملء الفراغ وتقديم الخدمات اليومية لمئات الآلاف من السكان الفلسطينيين المعوزين.. الأمر الذي جعل شعبيتها تتنامى بين صفوف هؤلاء السكان.

كامب ديفيد الثانية

على خلفية هذه الأحوال، بكل ما شهدته من توترات وتناقضات دارت مفاوضات كامب ديفيد الثانية بين عرفات وباراك وبمشاركة عن قرب من جانب الرئيس الأميركي كلينتون. كانت محادثات مضنية ولكنها كانت فعاليات اللحظات الأخيرة، دعا إلى عقدها كلينتون، لا من منطلق رغبة نبيلة ولا خيرية لصنع السلام، ولكن كانت تحدوه رغبة في تبييض الصفحات الختامية من حقبته الرئاسية التي سوّدتها كما كان معروفا - فضيحته الأخلاقية مع المتدّربة مونيكا لوينسكي، خاصة وقد كان يرزح هو وإدارته ومعاونوه وأسرته وأركان حزبه الديمقراطي تحت ضغوط بلغت حد التشويه والتشهير.. إلى درجة الابتزاز من جانب الحزب الجمهوري المنافس المتلمظ وقتها إلى صولجان الحكم في البيت الأبيض.

في غمار تلك الظروف اندلعت صراعات البلقان. ومن مصادفات القدر أن تبدأ شرارة الحرب العظمى في عام 1914 بمدينة سراييفو من إقليم البوسنة البلقاني. فور اغتيال ولي عهد الإمبراطورية النمساوية في 28 يونيه من ذلك العام، وأن يوشك التاريخ البشري على تكرار مآسيه فإذا بنفس المنطقة تشهد دعوة زعيم عنصري فاشستي اسمه ميلوسييتش إلى ما وصفه بأنه حلم «صربيا الكبرى» حيث شنّ المذكور حملة تسامعت بفظاعتها دوائر الشرق والغرب وقامت على أساس التطهير العرقي (بحق مسلمي المنطقة على وجه الخصوص). وكان هذا التيار من الفاشية المسلحة والعنصرية المقيتة جديرا بأن ينتشر.. فتنتقل شراراته إلى بقية أنحاء أوروبا لو وجد من يغضّ الطرف عنه أو من يحجم عن الوقوف في وجهه، وإذا بمأساة حرب شاملة وطاحنة تكاد تعصف بعالم السنوات الأخيرة من القرن العشرين، وشتّان بين مثيلتها التي أصابت العالم مع السنوات الأولى من القرن المذكور حيث لم يكن العالم قد عرف سلاح الطيران ناهيك عن الطاقة الذرية والأسلحة النووية المدمرة الماحقة..

وكانت قصاراه في حرب 1914 أن يصاب جنود بأمراض الاختباء في الخنادق مزودين بأسلحة الزحف البري ولكن ها هو العالم على أعتاب القرن الحادي والعشرين وقد أصبح حاشدا بكل ما لم تسمع عنه البشرية عبر تاريخها الطويل من أسلحة الفتك وآلات الهلاك.


الخوف من صراع محتدم

أكثر من هذا توضح مؤلفة كتابنا مدى القلق العميق الذي ساور كبار الساسة المشغولين بأمر العالم وأمن أميركا على السواء.. كان الجو مشحونا بألف ألف احتمال عند اندلاع الصراع في البلقان مع انتصاف عقد التسعينات..

ثم توضح السفيرة المؤلفة تلك العوامل على الوجه التالي: كان أمام الرئيس كلينتون ومعاونيه خطورة احتمال أن تمتد الصراعات من البلقان إلى سائر أنحاء أوروبا على أساس خطوط فاصلة بين مسيحيين ومسلمين أو بين إسلام ومسيحية.. وأن تشيع أجواء من الفوضى التي تتيح بحكم التعريف تدفقات غير مشروعة من المخدرات والأسلحة والموجات البشرية في جنوب شرقي أوروبا بما يؤدي إليه ذلك من نتائج غير مرغوب بها طبعا تتمثل في كوارث اقتصادية ناجمة عن الصراعات المسلحة وعن زعزعة الاستقرار في قلب القارة الأوروبية نفسها ومن ثم تمتد إلى غرب القارة الذي يشكل - كما هو معروف - الجناح الأيمن من أمن واستقرار المحالفة الأطلسية التي تكمل أميركا جناحها الأيسر.

من هنا ارتأت الإدارة الأميركية في عام 1995 أن الوقوف على خطوط الحياد أو على هوامش الصراع البلقاني المحتدم ودعاوى التوسع العنصري الإقليمي المرفوعة على أسنّة حراب العصر، أمور من شأنها تدمير مكانة الولايات المتحدة وتقويض النفوذ الذي بدأت تحظى به بعد انتصارها في الحرب الباردة وتحويل خصمها الشيوعي ـ السوفييتي إلى ذكريات في متاحف التاريخ..

الفاشيون في البوسنة

إلى هذه العوامل تضيف المؤلفة أيضا ظاهرة العولمة التي بدأت تنظر إلى الظواهر والتفاعلات السياسية من منظور كوكبي مترابط يقوم على أساس التفاعل والاعتماد والتأثر المتبادل.

وفي هذا السياق تعلق بالعبارات التالية: وقتها كان الجميع يتطلعون إلى القوة العظمى التي أصبحت واحدة وكانوا يتوقعون منها أن تتصرف، تتحرك لمواجهة ذلك العجز الذي ثبت من جانب أوروبا من أجل وقف المذابح الدامية التي استبيحت على ساحتها دماء المدنيين الأبرياء من أبناء القارة الأوروبية رغم ما شهده ماضي القارة في تاريخ قريب من التعهد الذي جسده شعار «لن يحدث هذا ثانية» وقد رفعته القارة وحلفاؤها بعد تصديها للفاشية والنازية في الحرب العالمية الثانية منذ زمن لا يتجاوز خمسين عاما.

في ضوء هذه العوامل منفردة ومجتمعة جاء قرار البيت الأبيض الأميركي بالتدخل الدبلوماسي المسنود والمعزز عسكريا في صراع البلقان: صربيا وكوسوفو على وجه الخصوص.. لكن القرار كان على صعيد التنفيذ من أصعب ومن أعقد ما يكون. كان من الميسور فهم العوامل والضرورات التي أملت اتخاذ القرار، ويكفي أن جاء في مقدمتها ـ كما أسلفنا ـ مقتضيات المصالح القومية للولايات المتحدة.. وقد ترجم القوم تلك المقتضيات بأن شرارة البلقان يمكن أن تشعل صراعا كونيا رهيبا يندلع على خلفية إسلام ـ مسيحية ويفضي إلى حرب عالمية ثالثة لا تملك ولن تملك أميركا سوى أن تشارك في خوض غمارها.. بموجب مقاليد الزعامة التي آلت إليها بعد انتهاء عالم ثنائية القطبين.. وبروز عالم القطب الواحد، وهو قطب أميركي بكل المقاييس..

فيتنام وصراع الحضارات

وقد نضيف نحن من منظور تحليلنا لهذه الأوضاع أننا نلمح ونرصد في هذا السياق عاملين اثنين من العوامل المهمة التي واكبت اتخاذ قرار التدخل الأميركي الدبلوماسي ـ المسلح في جنوب أوروبا على نحو ما أشارت إليه مؤلفة الكتاب: العامل الأول هو أن الحديث عن الحرب، أي حرب بمعنى أي صراع مسلح تتعامل معه أميركا، كفيل دوما بتقليب المواجع المرتبطة بذكريات حرب فيتنام وإعادة الآلام الموجعة إلى الجروح والندوب التي لم تندمل بعد في الوجدان الأميركي من جراء خسائر تلك الحرب، سواء من حيث الهيبة أو الموارد أو الأرواح.

العامل الثاني هو تلك الدراسة التي لم يكن قد مضى على نشرها وذيوعها أكثر من سنتين منذ أن نشرتها مجلة الشؤون الخارجية (فورين أفيرز) في صيف عام 2003 في مقالة مطولة ضافية حملت عنوانا صادما هو: «صِدام الحضارات». في المقالة المذكورة، وقد تم فيما بعد تطويرها وإغنائها لتصدر في كتاب مستقل.. عرض كاتبها «صمويل هنتنغتون» أستاذ علم السياسة بجامعة هارفارد لنظريته في أن العالم مقبل على نمط جديد من المواجهات المنذرة بخطر محدق وجسيم.

وهذا النمط ـ حسب نظريته ـ هو الصدام الصراعي، والعدائي بالضرورة بين الأنساق الحضارية - الثقافية والمعرفية في عالم القرن الموشك الجديد.. وفي القلب من هذه المصادمات المنذرة والمتوقعة يقوم عالما الإسلام والمسيحية على وجه الخصوص.
من جانبها تعلق المؤلفة قائلة: مع هذا كله فإن العمل على تهيئة هذا المزج بين الدبلوماسية والقوة المسلحة كان من الصعوبة بمكان، سواء بالنسبة لأميركا أو بالنسبة لحلفائها الأوروبيين رغم أن مصالح هؤلاء الحلفاء كانت تواجه الخطر المباشر بل الداهم في هذا الإطار.

وعلى مستوى الداخل بدرت مقاومة من جانب الحزبين: الديمقراطي (الحاكم أيامها) والجمهوري (المعارض) فضلا عن الجمهور الأميركي بشكل عام ضد قرارات ممارسة الدبلوماسية مدعومة بالقوة العسكرية. لقد بدا الجمهور في أميركا في حالة أقرب إلى الحيرة والارتباك حتى لا نقول الصراع بين رفضه الشديد لتلك المشاهد التي كانت تنقلها قنوات التليفزيون وفيها مصارع المدنيين العزّل والسكان الآمنين على يد فاشية الصرب بالذات وبين التخوف التاريخي المعهود إزاء التزام من جانب واشنطون بدفع قواتها العسكرية إلى خارج الحدود. قبل ذلك كانت أميركا تتخذ دوما كل استعداداتها لخوض الحرب ضد الاتحاد السوفييتي، خصمها القديم طيلة حقبة الحرب الباردة.

وكان الخصم محددا.. لكن منطقة البلقان كانت تحوي خصوما أقرب إلى الأشباح الهائمة ـ حيث تحوي المنطقة كيانات متداخلة إلى حد التقاطع بل التشابك بين الأعراق والثقافات والديانات والمذاهب والعقائد والخلفيات التاريخية والتضاريس الجغرافية والأجندات السياسية.

الأمر الذي كان يهدد القوة العظمى وقتها (1995) بأن تعود إلى الغرق في حمأة مستنقع جديد يحل فيه اسم الجبال والسهول الأوروبية في البلقان محل المستنقع الأقدم في جنوب شرقي آسيا الذي كان يعرف باسم فيتنام.

الدبلوماسية والقوة العسكرية

هنالك طالب الجمهور وطالب ممثلوه ونوابه وقياداته بأن يقتصر الأمر على بذل جهود دبلوماسية لتحقيق السلام في البلقان.. ولم يكن هذا بالأمر الفعّال ولا الكافي لتحقيق الهدف المنشود.. تواصل المؤلفة الحديث.. تقول: في البوسنة، كما الحال في الصومال وفي هايتي ـ كانت الولايات المتحدة تواجه خصما لا يمكن كسر إرادته إلا باستعمال القوة.. وفي نهاية المطاف أدى استعمال هذه القوة (العسكرية)
فيما أفضت المفوضات التي قادتها الولايات المتحدة إلى وضع نهاية لحروب البوسنة بعد أربع سنوات طوال. وجاءت هذه النهاية - الإيجابية بمثابة تمهيد لمسرح الأحداث الذي أتاح لكل الأطراف المعنية أن تتفهم جيدا مكانة أميركا ودورها القيادي المستجد على مستوى العالم كله.

في سياق هذه المقولات.. نكاد نلمح (ص81) خطأ مستجدا بدوره من خطوط السياسة الأميركية. إن مؤلفة الكتاب تحدثنا تحت عنوان «الفصل الختامي أو لعبة النهاية» عن اتخاذ الاستعدادات العسكرية للمشاركة الأميركية على مسرح البلقان فتوضح للقارئ أن مستشاري الأمن القومي الأميركي اعتمدوا نهجا طرحوه على حلفائهم الأوروبيين تحت العنوان التالي سياسة الإبلاغ وعدم طرح التساؤلات.

وتشرح هذا النهج (نفس الصفحة) قائلة: لقد أوضح مستشارو الرئيس كلينتون لحلفاء أميركا (الأوروبيين) أن ليس من حقهم إبداء أي اعتراض (فيتو) على نهجنا وأننا سوف نتصرف بهم أو بدونهم.. وجاء هذا النهج مواكبا لأسلوب الجزرة والعصا.. الترغيب والترهيب إزاء جميع الأطراف التي كانت تتقاتل في حلبة البلقان.

في إطار هذا كله كان كلينتون مقتنعا بتعزيز مكانة أميركا ودورها كقوة عظمى في العالم كأمر يستوجب استخدام القوة العسكرية.. ولكنه احتاط في هذا الأمر ليركز على استخدام سلاح الطيران.. مع الاستعداد إن لزم الأمر بدفع ما يصل مقداره إلى 25 ألفا من القوات البرية وفي هذا الصدد تنقل المؤلفة عن الرئيس الأميركي قوله الموجّه إلى مستشاريه:الأمر بحاجة إلى قوة جوية، حازمة. ولن تعود أميركا لتصبح ملطشة في هذا العالم مرة أخرى.

بعدها اعتمد رئيس الدولة الخطة السياسية ومعها ذلك النهج الذي ألمحنا إليه وهو نهج التصرف بالتعاون مع الآخرين أو بدونهم.. ذلك الأسلوب الذي ما لبثت أن ازدادت خطورته بعد التوسع في اتباعه في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وكان أن استمرأه صقور المحافظين الجدد في إدارة بوش الراهنة لحمل أركان هذه الإدارة ومسؤوليها على اتخاذ قرارات مصيرية من جانب واحد.

استخدام القوة الجوية

المهم أن جاءت موافقة البنتاغون لتعزز السياسة التي اعتمدها مستشارو كلينتون في البيت الأبيض. وعليه، ولأول مرة منذ أيام حرب فيتنام، عمدت أميركا إلى استخدام قوة سلاح الطيران لتحقيق أهداف سياسية. ورغم أن أطرافا من حلفاء أوروبا لم ترق لها سياسة أميركا في الانفراد بالقرار، إلا أن جهود أوروبا في التعامل مع قضية البوسنة منذ اندلاعها عام 1992 لم تفلح في إنهاء ذلك الكابوس الدموي في البلقان. ومن هنا فبعد التدخل الأميركي وما أسفر عنه من هزيمة الصرب في كارايينا والإهانات التي تعرضت لها قوات الأمم المتحدة الدولية المرابطة هناك، والعزم الذي أبدته واشنطون على إنهاء الصراع الدموي..

كل هذا تولدت معه العوامل التي جسدت الدعم المطلوب للسياسة التي رسمها مستشارو الأمن القومي والاستراتيجية السياسية في البيت الأبيض، ومنهم بالطبع مؤلفة هذا الكتاب.. وهنا أصبح من حق أنتوني ليك كبير مستشاري الرئيس بوش أن يطلق تصريحا يستند إلى القيم المعتمدة في ثقافة الغرب من إعزاز كلابهم المدللة.
ليقول:أخيرا لقد نبح الكلب الكبير وكان يقصد بالطبع بلده الأميركي: ويعني أنه ما إن أعلنت أميركا بوضوح عن موقفها إزاء صراع البلقان حتى تبعها الأوروبيون، وأصبح الطريق ممهدا لوضع نهاية لذلك الصراع، وربما لأن أنتوني (توني) ليك نفسه هو أول من دعا إلى إضافة دعوة الديمقراطية ضمن حركة القطب العالمي الأوحد.. ولكن دعوته هذه لم تكد تلقى قبولا واسعا حتى داخل إدارة كلينتون نفسها..

لقد كان رئيس هذه الإدارة حريصا ـ شأن كل رئيس أميركي ـ على أن يرتبط اسمه بنظرية في الأمن القومي.. في العلاقات الدولية، وفي مضمار السياسة الخارجية.. وتحمل عادة في أدبيات علم السياسة وصف «مذهب فلان». أو «مبدأ فلان».

وقد يرجع هذا التقليد من أعراف السياسة الأميركية إلى العقود الأولى من إنشاء دولة الولايات المتحدة ذاتها حيث اشتهر مذهب ـ مونرو الذي طرحه الرئيس الأسبق جيمس مونرو عام 1823 ويقضي بتنبيه ـ أو بالأدق ـ تحذير العالم من التدخل في نصف الكرة الغربي ـ غربي المحيط الأطلسي الذي رأته دولة الولايات المتحدة الفتية ـ العفيّة وقتها مجالها الحيوي الخالص.

هناك أيضا «مبدأ ترومان» الصادر مع إرهاصات الحرب الباردة في أواخر أربعينات القرن الماضي وينص على سياسة «احتواء» المد الشيوعي والنفوذ السوفييتي في أنحاء العالم كله، وهي السياسة التي ما برحت ترتبط باسم السفير الأميركي الراحل «جورج كينان» باعتباره المهندس الدبلوماسي الذي طرحها وكتب عنها.

هناك كذلك «مبدأ ريجان» وهو «الجد» المباشر كما قد نصفه لفصائل المحافظين الجدد في إدارة بوش ـ الابن ويقضي بتصعيد المواجهة الساخنة ضد الخصم السوفييتي على مدار عقد الثمانينيات من خلال دعم أميركا للقوى المعادية للشيوعية، تلك القوى التي عمد ريجان إلى وصفها بأنها «المحاربون من أجل الحرية» في كل أنحاء العالم. لهذا كله كان كلينتون يطمح بدوره إلى أن يكون هناك مبدأ كلينتون.. لعل وعسى.

في هذا السياق تعلق مؤلفة الكتاب قائلة:خلال سنوات رئاسته الثماني، ظلت إدارة كلينتون تحاول جاهدة تعريف أهداف سياستها الخارجية أمام جماهير ومثقفي الشعب الأميركي.

كانت الصعوبة تكمن في أن أميركا أصبحت بحاجة لسياسة جديدة في مجال العلاقات الدولية: طالما تعودت جماهيرها على ادراك أن عدو بلادها هو دولة واحدة اسمها الاتحاد السوفييتي وأيديولوجية واحدة اسمها المذهب الشيوعي.

وكان الهدف منذ أيام ترومان ـ على نحو ما أسلفنا ـ هو العمل ليل نهار وبوسائل شتى..ظاهرة وباطنة على «احتواء» الاتحاد السوفييتي.. ولم تحقق محاولات مستشار الأمن القومي توني بليك في إضفاء مسحة الدعوة الديمقراطية على سياسة واشنطون خارج الحدود. وعندما تربعت مادلين أولبرايت على قمة الدبلوماسية الأميركية طرحت من جانبها شعارا تجسده العبارة التالية: التعددية المؤكدة.

وسواء كانت هذه التعددية مؤكدة أو مفروضة فلم يقدر لهذا الشعار أن ينتشر أو يروج أو يحوز القبول.. سواء بحكم تعقيده وسوء صياغته أو ارتباك مدلوله.. أو لأنه، كما تلاحظ مؤلفة كتابنا، كان شعارا يولي مزيدا من التركيز إلى منظمة الأمم المتحدة (بوصفها المؤسسة ـ الرمز لتعددية الأطراف).

الانسحاب من الأمم المتحدة

الحق أن كلينتون لم يكن وحده المشغول بمحاولات تعريف أميركا ودورها على المسرح العالمي: لقد جاء الانهيار المفاجئ للكيان السوفييتي أمرا أبعد ما يكون عن توقعات صانعي السياسة في أميركا مهما بلغت واقعية أو صحة هذه التوقعات. تماما كما جاء انهيار جدار برلين الشهير في عام 1989.

يومها شهدت الساحة الفكرية ـ الأكاديمية بالولايات المتحدة ـ وربما في الغرب وفي العالم بشكل عام ـ محاولات ودراسات وبحوثا واجتهادات تحاول التنظير لحقبة ما بعد الحرب الباردة في أواخر التسعينات: كان الأمر قريبا من حقبة التنظير لما بعد الحرب العالمية الثانية في أواخر الأربعينات، ولكن كان أكثر صعوبة وأعمق غورا. لماذا؟ لأن انتهاء الحرب الكونية الثانية أسلم إلى انقسام العالم بشكل يكاد يكون رياضيا أو هندسيا إلى معسكرين: شرقي اشتراكي وغربي رأسمالي ولذلك كانت الأمور واضحة والانقسامات قاطعة والإيديولوجيات السياسية محددة المعالم والتعريف.ومن ثم كانت وسائل التعامل في السياسة والدعاية أمرا ميسورا ولو بصورة نسبية وهو ما استطاع مبدأ ترومان في احتواء الخصم السوفييتي أن يبلوره ويدعو إليه.

على النقيض كان الأمر بالغ الصعوبة بعد زوال تحدي الخصم السوفييتي ـ الشيوعي، وأصبح على أميركا بعد الحرب الباردة أن تعيد تعريف الأمور جميعا. وفي سياق اجتهادات تلك المرحلة طرح فوكوياما كتابه بعنوان «نهاية التاريخ» وطرح هنتنغتون ـ كما أسلفنا ـ نظريته حول «تصادم الحضارات ـ أو تصارع الثقافات» ومنها طبعا العقائد والأديان. ومن الكونغرس ارتفعت أصوات كثيرة من أعضائه البارزين حيث يقول قائلهم: أيها السادة الآن وبعد زوال الخصم السوفييتي، نظن أن قد آن الأوان لانسحاب أميركي من التعاطي مع الشؤون الدولية.

وكان أعلى الأصوات في هذا الصدد هو السناتور جيسي هيلمز الذي كان يردد دائما أن على أميركا الانسحاب فورا من منظمة الأمم المتحدة (وبالتالي من الشؤون الدولية). ومن المفارقات أن السناتور هيلمز المذكور أعلاه كان يتولى منصبا برلمانيا غاية في الأهمية وهو: رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بالولايات المتحدة