صانع الورد والإبتسامة في مستشفى"المُطَّلع"
نشر بتاريخ: 30/04/2018 ( آخر تحديث: 30/04/2018 الساعة: 22:45 )
القدس- معا- ينطبق عليه المثل القائل: "سبع صنايع والبخت ضايع" ، فرغم ابتسامته التي لا تفارق وجهه ، وروحه التي تبعث الأمل في نفوس محبيه ومن يعرفه، إلا أنه لم يشعر بالراحة والسكينة يوما ، حيث له حكاية طويلة وقصة فريدة من نوعها ، في تنقله من عمل إلى آخر حتى وقوعه أرضا مصابا بالفشل الكلوي .
خليل سعادة رجل من سكان مدينة القدس، عاش طفولته بين جنبات البلدة القديمة ، كانت أحلامه وألعابه بسيطة، ويلعب مع رفقاه في ساحات مدارس القدس العتيقة، درس في مدرسة الفرير حتى وصل للصف السادس فقط، وحصل ما لم يكن في حسبانه حيث قال : "كنت آنذاك طفلا شقيا ورجلا كبر قبل أوانه، وكانت لدي عزة نفس وكبرياء، وفي يوم من الأيام، وجه لي أحد الطلاب كلمات بذيئة ، فما كان بوسعي إلا ضربه وتبريحه، فرآني الأستاذ حينها، وقام بمعاقبتي بالحبس في غرفة العزل، لكني لم أهدأ وقمت بتكسير قفل الباب، فطردني من المدرسة وطلب مني أن أعود ومعي والدي، لكني رفضت العودة إلى المدرسة بشكل نهائي.
ويضيف: من هنا بدأت رحلة العمل الطويلة، وتنقلت بين عمل وآخر علني أجد مهنة غير شاقة ولا متعبة ، ففي البداية عملت مع والدي في الخراطة، فلم يعجبني العمل فيها، وانتقلت للعمل في صياغة الذهب فوجدتها أكثر ارهاقا، ثم عملت في تركيب المواسير والسخانات الشمسية وكان الأمر صعبا للغاية، وأيضا عملت في الكهرباء وتركيب الإمدادات وفي صناعة الأحزمة والحقائب من الجلد الطبيعي لكني لم أحب العمل فيها بتاتا، فعدت للعمل مع والدي، لكن ضريبة الدخل الإسرائيلية أغلقت المحال بسبب الديون المتراكمة ، فأخذت أبحث مجددا عن عمل.
تحديات
وبين عمل وآخر، بدأ خليل يفكر بالعمل في المصانع الإسرائيلية، يستذكر قائلا : "كنت شابا مفعما بالطاقة والنشاط حينذاك، فلم يكن لدي مانع في العمل بأي مهنة خاصة بعد ضياع مصدر رزقنا ، فعملت في مصنع للدهان في عطروت، ورغم أن العمل كان شاقا، إلا انني استمررت فيه ، وفي يوم من الايام كنا نحمل براميل الدهان؛ وكان يزن البرميل الواحد (50) كيلو تقريبا، فأخذت أحمل البراميل الواحد تلو الآخر، وأضعهم في الطابق الثاني من المصنع ، وكنت أمرعبر درج حديدي ضخم ، أذكر حينها صعدت الدرج ذاك أكثر من (15) مرة، لكن أخذ صاحب المصنع يصرخ بوجهي طالبا مني العمل بسرعة أكبر، فإذ بي أسقط أرضا بعد أن ضربت رجلي بحافة الدرج، ورغم صراخي من شدة الألم لم يقم بمساعدتي؛ بل استمر بالصراخ في وجهي، فوقفت على رجلي الملطخة بالدماء لأضربه، إلا ان العاملين في المصنع من الشباب العرب منعوني من ذلك، خوفا علي من التعرض للاعتقال، فتركت المصنع وقدمت استقالتي .
ويستطرد قائلا: أخذت أبحث عن عمل من جديد ، فوجدت منجرة في تلبيوت تريد عمالا للعمل فيها، فتقدمت للعمل وتم قبولي، وأثبتت حينها قدراتي، واستطعت أن أحصل على أجار شهري قدره (6000) ليرة، وفي أحد الأيام، وصل لمديري في المنجرة خريطة عمل ألمانية لصناعة "آلة طباعة" ، وسلمني مهمتها، وحين قلت له بأني أستطيع انجازها خلال شهر، قال لي سأعطيك زيادة على كل يوم عمل (500) ليرة ، فرحت جدا وعملت بكل جهد واخلاص، ونجحت في صناعة أول مطبعة ألمانية ، فطلبوا منا أن نصنع غيرها، ونجحنا ، وحين وصلنا لنهاية الشهر لم يعطني ما وعدني من زيادة ، فتركت العمل غاضبا منه، ورغم محاولاته المتكررة بأن أعود إلا أنني رفضت العودة، وعدت للبحث عن عمل، وحينها التقيت بصديق للعائلة يعمل في نحت التماثيل وطلب مني العمل في مشغله ، فوافقت وكنت سعيدا جدا بذلك، كان يثق بي كثيرا في العمل فقد كنت اعمل بكل طاقة وإخلاص دون كلل أو ملل حتى أصبحت يده اليمين، حتى توفي ، فطلب مني عمه أن أتولى شؤون العمل كافة في المشغل، واستمريت بالعمل في نحت التماثيل حتى سقطت أرضا من كثرة التعب، كنت حينها في الخمسينيات من عمري.
ويستطرد خليل قائلا : "نُقلت إلى المستشفى، وبحسب التقرير الطبي تبين بأني أعاني من جفاف في الكلى وفشل كلوي، وذلك بسبب العمل الشاق وعدم شربي للماء بكثرة، وأيضا بسبب تعرضي لحرارة الفرن العالية أثناء عملي في نحت التماثيل والذي كانت حرارته تصل إلى 1400 درجة مئوية.
رحلة العلاج
منذ حوالي (15) عاما، بدأ خليل يخضع للعلاج، ويقول حول ذلك : لم أعد أقوى على العمل كما كنت في السابق وخضعت للعلاج في عدة مستشفيات، وكانت الضربة التي قسمت ظهر البعير بأن سافرت أنا وزوجتي إلى سوريا؛ وفي طريق عودتنا أصبت بهبوط حاد تم نقلي إلى المستشفى على الفور، وأوصوا الأطباء بضرورة أن أخضع لغسيل الكلى ، وبدأت الغسيل منذ حوالي (12) عاما ، وكلما شعرت بأني تحسنت، أتعرض لوعكة صحية تعيدني إلى الصفر، ففي أحد الأيام وأثناء عودتي إلى بيتنا الكائن في بيت حنينا صعدت إلى الطابق الثالث، واختل توازني وتزحلقت عن الدرج وسقطت أرضا من أعلى إلى أسفل، فأصبت بكسور كبيرة في مختلف أنحاء جسدي.
مستشفى المُطَّلع
يضيف قائلا: ويا ليتني تعلمت ، فأنا لا أحب الجلوس في البيت أبدا ، فبعد أن تعافيت ظننت بأني أصبحت أقوى ، فقررت أن أخرج وأنزل إلى البلدة القديمة من القدس، وأنا استقل الحافلة فإذ بهبوط حاد يصيبني آنذاك، فعلقت يدي بحافة الباص، وسقطت أرضا، وغبت عن الوعي ، فاتصل بعض الشباب من هاتفي على زوجتى وابني اللذين بدورهما نقلاني إلى المستشفى للعلاج ، فكانت يدي مكسورة والحوض أصيب بشعر ، وتنقلت بين ثلاث مستشفيات اسرائيلية للعلاج ، ثم تم تحويلي منذ حوالي العامين إلى المُطلع لتلقي العلاج في المركز التخصصي للرعاية التمريضية طويلة الأمد ، من خلال الدكتور أشرف الحسيني أخصائي أمراض باطنية عامة ، لأخضع للعلاج الدائم فيه ، لم أتقبل الأمر في البداية، وكنت شديد العصبية ، ولم يتوقف الأمر عند ذلك فقد أقر الأطباء بضرورة إجراء عملية قلب مفتوح لي، وحينها خضعت للأمر الواقع حيث أني لم أعد قادرا على القيام بأبسط الأمور، فكنت أجلس على سرير الشفاء لأيام طويلة ولا أخرج بتاتا من غرفتي.
صانع الورد
خليل صانع الورد في مستشفى المُطّلع ، هكذا يُطلق عليه ، وقد جاءته الفكرة كما يقول : من خلال برنامج تلفزيوني كان يُعرض على إحدى القنوات، فأحببت الأمر كثيرا وبدأت برسم الورد على ورق ثم صنعها، سعدت كثيرا في هذا العمل، ودعمني الكادر الطبي في المستشفى، حيث وفروا لي جميع المستلزمات، فأصبحت أصنع لهم الورد في المناسبات وأهديها لإدارة المستشفى والعاملين فيه، والأطفال المرضى.
شكر وعرفان
اختتم سعادة حديثه بالشكر قائلا : أشكر الله دائما وأبدا ومن ثم أشكر كل العاملين في " المُطَّلع" إدارة وموظفين على حجم الرعاية الطبية والدعم النفسي ، والاجتماعي ، فقد زرعتم الأمل والحياة بداخلي بعد أن فقدته نتيجة المرض.