نشر بتاريخ: 20/07/2018 ( آخر تحديث: 22/07/2018 الساعة: 09:51 )
الكاتب: الأسير كميل ابو حنيشهنا في عالم الجدران والأبواب الموصدة، والآن في الزمن الدائري للمكان، ولد انتظارنا الجميل، هنا حيث تكبر الأحلام وتتألق وتغدو ملائكة بلا أجنحة. وهنا حيث يشعرك المكان بأنّك منتهك الإرادة أمام اللاشئ وأمام كل شئ وتتسلل الآمال كأشعة الشمس إلى عتمات زنازيننا الضيقة.
سيقال عمن يتخطى عتبة الربع قرن في الانتظار (جنرالات الصبر)، ونحن نتساءل بدون أي جدوى كانت كلامية ما هو الصبر؟ نحن لم نعد نعرف له أي معنى، لم تعد لهذه المفردة أيّة دلالة أو قيمة في هذا المكان، وفي هذا الزمان الذي لا يحدّه أي حد... ففي هذه الصحراء الشاسعة من المؤبد الرمادي يتعين عليك أن تخطو. ستتراءى أمامك السرابات فتسرع الخطى وتتبعها، ولا خيار أمامك إلا أن تخطو ورائها، فلولا هذا السراب لما كانت علينا مواصلة شيء دائري، لسنا جنرالات وليس الصبر طريق لهذا الانتظار الطويل.
هنا والآن نحيا في علب أسمنتية باردة، وخلف الأبواب الزرقاء الموصدة لم نعد نشعر بالزمن، ولم نعد نحصو السنوات. تمضي السنوات مسرعة لأن أيامنا متشابهة... وثيابنا متشابهة... والحجرات والأدوات وأصناف الطعام كلها متشابهة. ونحن أيضاً بتنا متشابهين من الداخل والخارج، في الظاهر والباطن، أحلامنا وآمالنا متشابهة. نحتسي الآمال المعبقة...أحلامنا متحفزة بالانطلاق من مراقدها حينما تصير لها أجنحة. فإما الشكل المربع أو إما الاسمنت والحديد والجدران، وإما زمننا الدائري، فهنا كبرت أجسادنا ولكن لم تشخ أرواحنا ونحن نحيا حالة الانتظار الجميلة والجليلة. هنا كبرنا نحن والسجانين والسجانات كيف لم يخطر لهم بأنهم مسجونون مثلنا، وأنهم مستلبو الإرادة، وأنهم مجرد براغي في هذه الآلة الشيطانية، بعضهم أمضى عمره في هذه المهنة السافلة، كيف لهم يخطر بأنهم ضحايا مثلنا حين زجوا بهم في أتون زمننا الدائري وباتوا أسرى للقيود والمفاتيح وإحصاء ارتخاءات أجسادنا الذابلة بعد أن أشبعوهم أكاذيباً عن الأرض الموعودة وتاريخ الأجداد الأسطوري؟ وكيف لم يخطر لسجانات أنهن شوهن أنوثتهن بين القيود والأبواب وجدران الاسمنت؟، وبأنهن لا يشاهدونا سوى كائنات هلامية ومجرد غلال وأشباح بدون شكل، وكيف لم يخطر لنا أننا لا نحس بهن كائنات بل مجرد آلات أو كائنات بشرية معتوقة جرى طمس أرواحهن الإنسانية؟!
هنا في عالم الانتظار تتسع المعاني وتغدو أكثر كثافة، وهنا تصغر ألقابنا ومسمياتنا (القادة والأبطال والأساطير والجنرالات) كلها ألقاب لم نعد نحس بها ولا تدهشنا كثيراً، نحن بشر عاديون نحتفي بأسمائنا الأولى المجردة.
هنا تستيقظ أحلامنا في النهار وتعود في الليل إلى طفولتها البريئة، فنحن لم نكبر، لازلنا أطفالكم ولم تصدقوا بأننا نغدو أطفالاً كلما كبرنا، تقصر أعمارنا لأن عالمنا صغير، وحتى مرحلة الطفولة نشرع في رحلة على أجنحة الخيال لكي نوسع آفاقنا، فالخيال الواسع هو زادنا وعتادنا لكي نحلق من خلاله بعيداً عن عالمنا الضيق والصغير.
هنا ننتهك عفة الأسر عبر آمالنا، نعلل النفس بالآمال التي لا نرقبها، بل ننتظرها، لا طيبة في العيش ووسائله لدينا، بل ضيق المكان والاختناق في ضيق الوقت. أما فسحة الأمل فهي تضيق وتتسع تبنى وتنهى حسب نشرات أحوالنا وطقوسنا ونحن نتدرب على الحياة واحتمال قسوة الزمن انتظاراً لبزوغ شمس يوم الاحتفال الكريم، هنا تتجلى العلاقة بين الحرية والانتظار، ستتعدد المعاني في تعريف معنى الحرية، سيقال أن الحرية هي فن الانتظار. تدار ولادة الوقت الجديد من رحم الزمن الدائري وانتظارها ليس ترقباً لأن الترقب شكل من أشكال الابتذال.
أما الانتظار فإنه حالة من حالات العشق المكتسي بالأحلام الجميلة بإشراقة شمس الحرية في أرواحنا الحالمة. وهنا نحجم عن مواصلة الانتظار، ولن نكف عن الحلم على الإطلاق حلم الحرية، ولن نسمح لشكوك أن تساورنا في جدوى النضال، ولا بالعمر الذي نغزوه في عتمة الزنازين، ولكم أن تطمئنوا نحن لم نتكلس بعد، بعضنا شارف على اتمام 4 عقود في الأسر ولم يتكلس حلمه وإيمانه العميق بمعنى الحياة، وما برحت تنمو في أعماقنا غابات السنديان، وبساتين البرتقال تذبل أجسادنا لكن أرواحنا لا تزال خضراء تتدرج بالحياة والأفراح القادمة والأعمال المؤجلة، ولم تنطفئ شهوتنا للحياة، ولم تخبو نيران أشواقنا، ولن تتجهم أرواحنا يوماً لأن الزمن سيبتسم لنا ويخبئ لنا في غيبه أجمل اللحظات، وسنعد خطانا رويداً رويداً نحو أرض أحلامنا البكر، ولن نتعجل كي لا نصاب بسكتة قلبية مباغتة، وسنظل ندرج كما يدرج الأطفال على حواف الانتظار حتى تنكسر دائرية الزمن ويولد وقتنا الأجمل، وسيأتي يوم نزدري فيه الأبواب، وسنخسر من قيودنا التي صدأت فوق جنودنا، وسننمو كالبراعم، فانتظرونا حين نتفتح كالزهور تحت الشمس، ونغني معاً للحرية، ونسدل الستارة على فصل من فصول المرارة والألم. لن نتظاهر ببطولات خارقة ولا بقدراتنا الفذة على تحقيق المستحيل. تستقبلوننا حينما يأتي موعدنا مع الحرية كبشر عاديين أعياهم وجع الانتظار يستقبلوننا نحن القادمين من وراء الشمس نحن المشتعلون بعشق الحياة
وسنترك من خلفنا أوجاعنا وآهاتنا ومتاعبنا، لن نذرف دمعنا على أكياسنا الحجرية، ولن نقف في المكان ونبكي زمن الغارب على عادة شعراء الجاهلية لأنه لم يكن زمناً جميلاً ً كي نبكي عليه، ولا مكاناً رائعاً كي نأسف عليه وريثما تأتي لحظة انعتاقنا من بين الجدران وانبعاثنا من القبور الإسمنتية. سنتهيأ انتظاراً لهذه اللحظة وحينما تشرق شمسنا سنبدأ بتعلم الحياة من جديد ببديهياتها البسيطة والساذجة. ستضحكون من جهلنا وسذاجتنا. احتملونا لأننا سنتدرب على النسيان... نسيان ما تركته الجدران فوق أجسادنا ولسعات سياط الزمن فوق جلودنا، وسنتدرب على الحياة من جديد على نحو يتيح لنا بناء ذاكرة جديدة. لسنا يائسين ونحن نحبو على أعتاب الانتظار انتظار حصار طوفان الألم، ومع هذا سنكون منشغلون بالسجن لأنه علمنا المعنى العميق للحرية، وسنواصل الحياة بكل ما أوتينا من فرح، ولن نسمح للأسر بأن يهزم أرواحنا.
نحن الحالمون... نحن العائدون إليكم مهما تأخر الوقت، بحوزتنا الكثير مما سنرويه لكم عن رحلتنا في هذه البيداء الجافة عن أحلامنا وأوهامنا ومتاعبنا، سنأتيكم كفصل الحضور من بعد هذا الغياب الطويل، ولن نتعب من مواصلة الأحلام، ولن نعتب على الزمن، وريثما نعانقكم ونحن وإياكم في أوج الفرح والحرية... انتظرونا ونحن ننتظر معكم انتظار جميل سيتكلل بالنهايات السعيدة، فنحن حتماً عائدون. .