استقبال الإسرائيليين: التطبيع الثقافي العَاري
نشر بتاريخ: 27/10/2018 ( آخر تحديث: 27/10/2018 الساعة: 23:26 )
كتب السفير المتوكل طه
أياً يكن تعرّي التطبيع السياسي أو الثقافي .. فهو في حقيقة الأمر يكون على الوجوه التالية : إما التكيّف أو التعايش مع المحتلّ المجرم بسبب الخضوع له ولمصالحه ولواقعه الذي يفرضه، أو بسبب عدم القدرة على ردّ المحتل أو كسره أو طرده أو فضحه أو مقاومته، ومن هنا يكون التطبيع أسوأ حتى من الاستسلام، لان في التطبيع نوعاً من النشاط باتجاه المحتل، بحيث يشعر هذا أن المطبّع يقوم بدورٍ ما من تحسين أو تجميل المحتل ، في اللحظة التي ينقل الأمريكان سفارتهم إلى القدس ، ويحاول أن يفرض علينا صفقة القرن الخائبة ، فيما تتسارع خطوات الاحتلال نحو هضم الأرض وأسْرلة القدس وتغيير معالمها بعمقٍ وقسوة ، ويدير ظهره لكلّ القيم والقوانين والمعاهدات ، بل ويفرض قانون القومية العنصري على أصحاب البلاد الأصليين !
إن التكيّف أو التعايش مع المحتل يفترض في المُطبّع أيضاً أن يغيّر أو يعدّل من رؤيته للمحتل أو أن يبرر له أو يفسّر مواقفه. إن التكيّف أو التعايش مع المحتل يعني عملياً العيش مع الحق المنقوص والإرادة المنقوصة، ويترجم هذا المضمار من أنواع التطبيع في الاتفاقات السياسية العرجاء والمشوّهة أو التي تنقص من الحقوق ومن الثوابت، كما يترجم هذا النوع من التطبيع من خلال المواقف الدولية والاقليمية حيث نرى المطبعين لا يتّخذون المواقف التي يجب أن تنسجم مع مصالح الشعوب، وأسوأ أنواع هذا التطبيع هو ما يحاك في الظلام من اتفاقات وتكتلات محاور سريّة، يكون فيها المحتل مركز هذا الاتفاق وهو المستفيد الوحيد منه. إن التكيف والتعايش مع الاحتلال هو شكل صاعق من أشكال الأزمة ومن أشكال الهزيمة أيضاً. وبالعودة الى الحروب الصليبية ، فإن فكرة مصانعة الفرنجة التي استمرت عدة عقود أدت فيما أدت إليه إلى أن تتفتت الدولة الإسلامية إلى دويلات صغيرة بائسة تتقاتل فيما بينها، إلى درجة أن الإفرنجي كان في بعض الأحيان يلعب دوراً في توحيدها، وهو أمر يتكرر على أيامنا، وهو أمر وإن كان يبعث في النفوس المرارة إلا أنه أيضا يبعث في النفوس الأمل، ذلك أن التعايش والتكيف مع العدو عادة ما ينكسر وينتهي، لان المحتل لا يقبل أن يتعايش مع أحد أطلاقاً. فالمحتل الإسرائيلي بالذات له من العقد النفسية المؤسسة على عقدة الاضطهاد وعقدة الضحية وعقدة التميّز والعِرق الخاص، ما يحوّله إلى كيان لا يمكن أن يرى إلا نفسه، وأن يعبد نفسه، وهو لهذه الأسباب لا يستطيع أن يتعايش أو يتكيّف مع أي طرف مهما خضع هذا الطرف أو أعطى أو أظهر أيمانه وإخلاصه. إن عُقد المحتل النفسية تجعله يقبل قتل الآخرين واستغلالهم والنظر إليهم باحتقار شديد. إن هناك أطرافاً في المنطقة على علاقة ما بالمحتل منذ أكثر من ستين عاماً وثلاثين عاماً وعشرة أعوام، ولكن المحتل يهدد هذه الأطراف ويبتزّها ويستغلّها ويخوّنها أمام جماهيرها، فمرّة بمنعها من الوصول إلى الكونغرس، ومرة يخوّفها بالأقليات الدينية والاثنية، ومرّة يهددها بالأمن الاقتصادي، ومرّة يهدّدها بالجواسيس والتخريب الصناعي، ومرّة يهدّدها بخلخلة الأمن الاجتماعي والصحي ، والمحتل في ذلك يعتقد أن على الطرف العربي أن يقدّم حُسن النيّة وأن تكون العلاقة كلّها على حسابه ! وجزء من هذه النظرة نراه فيما يقال عن الشرق الأوسط الجديد الذي تكون فيه إسرائيل صاحبة الخبرة والتكنولوجيا والتخطيط ويكون فيه العرب أصحاب المال والأيدي العاملة والأسواق، وهذه فكرة تطبيعية سمجة بامتياز، فإسرائيل فيها تعرض خدماتها دون أن تتخلّى عن احتلالها أو عن رؤيتها الكلية للمنطقة وشعوبها، وهي تعرض خدماتها من أجل أن تكون جزءاً من المنطقة بقوة المال وقوة السلاح، ومن الغريب أن مَن يعرض السلام الاقتصادي في التسعينيات رجل يدّعي أنه من اليسار الصهيوني، وأن مَنْ يعرض ذات السلام بعد عشرين عاماً رجل يدعي انه من اليمين المتطرف. لنلاحظ أن لا فرق اطلاقاً في التيار العام الصهيوني، فهو تيار لا يرى في المنطقة وشعوبها سوى أدوات لبلوغ أهدافها ليس إلا.
وإذا كان التكيف والتعايش مع المحتل سببه قوة المحتل ومَنْ يدعمه، فإن الاستسلام لهذه الفكرة تأتي من النخب ، أو تروّج لها النخب أو مبادرات الشعوب وقواها وقاعها المجهول ، فإن مسألة هذا التكيف وهذا التعايش لا تجد صدى ولا ترجمة أبداً. والشارع المصري وغيره من الشوارع العربية.. خير مثال على ذلك، فهذا الشارع بفلاحيه وعماله ومثقفيه ونقاباته قال كلمته وانتهى الأمر. ومن عجائب الشعوب أنها قادرة على أن تحتفظ بصورتها عن نفسها دائماً وان تدافع عن تلك الصورة دائماً، ومن عجب أيضا أن صورة الشعوب عن نفسها عادة ما تكون ساطعة ومثالية، ولهذا فإن الشعوب لا تذوب، حتى تلك الأقليات والجماعات الإثنية الصغيرة التي بقيت رغم انهيار الحضارات الكبرى . هناك ما لا يزول، هناك ما يبقى رغم كل شيء. ان جماعة اليهود ،أو جماعات اليهود إن شئت ، هي مثال ضمن أمثلة عديدة ومختلفة على قوّة صورة الجماعة عن ذاتها، ولهذا فإن التطبيع، بمعنى التعايش والتكيف قد يستمر لفترة ولكنه بالتأكيد سينتهي، لأنه ضد رؤيتنا لأنفسنا وحقوقنا ومشروعنا من جهة، ولأنه ضد البنية النفسية للمحتل ذاته الذي لا يطيق أحداً ولا يتعايش مع أحد. المحتل، أكان في فلسطين أو غيرها، ورغم كل شعاراته ودعاويه، فهو يعمل من أجل أمرين اثنين لا ثالث لهما: مصالحه اولاً، ورغبته في تقليل خسائر هذا الاحتلال ثانياً، وما عدا ذلك فكلها أكاذيب تصلح للفضائيات ليس إلا.
وجه آخر من وجوه التطبيع يتمثل في تلك المنظومات الفكرية والاجتماعية التي تحملها وتروّج لها عادة طواقم الكمبردور الثقافي المموّلين جيداً، وفي الحقيقة فليس هناك مسافات أو فجوات بين هذا الكمبردور الثقافي وبين الرؤية السياسية الكليّة للمُمَوَّل، ولكن هذا الكمبردور الذي سرعان ما يمتلك أو يؤسس منظمة غير حكومية يكون لها أذرع إعلامية وتأثيرات سياسية ولمعان صحفي وإعلامي، سرعان ما يبدأ بأطلاق تلك المنظومات الفكرية والاجتماعية، فمدينة القدس مدينة تعايش، وهي مدينة لله فقط ، وهي بدلاً من أن تكون محتلة فهي تمتلئ بالنساء المعنّفات أو متعاطي المخدرات، تماماً، كتلك الحملة التي وزعت الكتب على حواجز الاحتلال في الضفة، مع احترامنا للنوايا طبعاً.
( والثقافة هنا تعني : السياسة والاقتصاد والتعليم والرياضة والفنون .. الخ )
هذا الكمبردور الثقافي المُمَوَّل عادةً ما يستند إلى القول إن استدراج الإنساني في العدو هو أمر صحيح، وإن محاولة الالتقاء بالمحتل في منتصف الطريق هو الحل، وإن التشارك أو الجدل أو الحوار سيؤدي إلى نتائج مرجوة . إنها ذات الأفكار التي طرحت في الهند وجنوب أفريقيا وفي أنغولا وفي الجزائر. المشكلة أن هذه الأفكار محوّلة من الغرب ذاته، مع احترامنا وتقديرنا للنوايا والرؤى الحسنة. المشكلة هنا أن هذه الأفكار تأتي عن ضعف وعن قلة ثقة بالشعوب وقدرتها على الفعل والإبداع . أكثر من ذلك، هذا الكمبردور الثقافي – ومهما حاولنا أن نجمّله – فانه يعمل في اتجاه آخر خطير، إنه يقوم بمهمة التثبيط واستدخال اليأس والتفكيك والخلخلة الفكرية والاجتماعية وحتى السياسية، ولا نبالغ في ذلك أبداً، ومع أخذنا بعين الاعتبار أن سيادة الدول قد تم انتقاصها والمسّ بها من خلال ميلاد هيئات دولية عالية وقوانين عالمية تفرض على الدول الإيمان بها والعمل بها مثل حقوق الإنسان والبيئة والجندر وما إلى ذلك، فإن الكمبردور الثقافي والسياسي يلعب دوراً في عملية إنقاص سيادة الدول بذات الطريقة.
التطبيع هنا يتخذ اسم مؤسسة قد تُعنى بأمر بعيد عن الثقافة أو الفن، ولكنها جزء من تلك المنظومة الخطيرة الهادفة إلى أن تكون الرقيب والعين والأداة القادرة على أن تمسّ أو أن تصيب، ولا نقول هنا شيئاً يفهم منه أننا ضد مؤسسات المجتمع المدني، على الإطلاق من ذلك، إن مؤسسات المجتمع المدني هي مؤسسات تقوم على المبادرة والتمويل الذاتي، والأهم، تقوم على الرغبة الحقيقية في خدمة المجتمع إلى جوار الدولة، لا أن تكون مماحكة للدولة أو رديفاً لها أو بديلاً لها في اللحظة المناسبة كما يخطط المحتل عادة.
إن مثل هذا الكمبردور الثقافي هو المسئول عن ترويج أفكار ونشر برامج اللقاءات على المستويات المتعددة التي تبدأ من معسكرات الشباب وتنتهي بعقد المؤتمرات الكبيرة التي يشارك فيها كبار المثقفين والسياسيين، وهو المسئول عن إنتاج الأعمال الفنية والسينمائية التي يُقَدَّم فيها الآخر المحتل مقبولاً وإنسانياً، وهو المسؤول عن إنتاج الخطاب الإعلامي الذي يتحوّل فيه الآخر المحتل إلى وجهة نظر أخرى ليس إلا، هذا الكمبردور الممول يكتشف فجأة أن المحتل أو الآخر على أطلاقه مجرد رأي معاكس لا غير.. وبالتالي نتعوّد على إعلام يقتل المقاومة بسبب الموضوعية والمهنية.
وهذا الكمبردور قادر على الهجوم وقادر على الدفاع وقادر على التجنيد وقادر على الاصطفاف وقادر على التلميع وقادر على أن يشكل رافعة لمن يقف معه، وقادر على أن يعتّم على مَنْ لا يقف معه أو يؤيده، وهو مدعوم من الآخر المحتل ومن يقف معه، فإذا به محمي جيداً، حتى أن الدول فضلاً عن الشعوب لا تستطيع الاقتراب منه. في فلسطين، وفي ذروة الانتفاضة الأخيرة كانت هناك دعوات من هذا الكمبردور تدعو حقاً إلى الجنون، مثل التوقيع على بيانات ضد بعض أعمال المقاومة أو الخروج في مظاهرات تضامناً مع ضحايا تفجيرات حصلت في هذه المدينة الأوروبية أو تلك. الجنون في هذه الدعوات أن المدن الفلسطينية نفسها محاصرة ومهددة وتعيش ما يشبه المجاعة. إن هذه الرفعة الأخلاقية المُدّعاة لا تفسير لها سوى أن هذا الكمبردور عنده من الادّعاء والكذب والتشويه ما يجعله يطلب من شعبه المحاصر أن يتضامن مع الشعب البريطاني في محنة التفجيرات التي ضربت لندن. مع العلم أننا ضد تفجيرات لندن وضد كل أشكال الإرهاب والعنف والكراهية.
يلقى هذا الكمبردور الدعم الكافي من النخب السياسية المتورطة فعلياً في الاتفاقات المنقوصة أو المشبوهة، وتتحوّل العلاقة بين الطرفين إلى علاقة خاصة إلى درجة أن هذا الكمبردور عادة ما يتلقّى مكافآت مختلفة مثل الجوائز والتوزير والتمثيل واللمعان الصحفي والإعلامي. وتتحول البلد برمتها إلى أن يقودها مثل هؤلاء، أو أن يكون هؤلاء هم البلد أيضاً. إن نجاح الآخر أو المحتل أو كلاهما بتكوين نخبة مثل هذه في أي مجتمع يعني تحقق حلم هذا البلد. ولم يكن غريباً أبداً أن تحتوي الخطة التي وضعتها وزارة الخارجية الأميركية في عهد بوش الابن على بند صريح ينص على تسمين النُخب المثقفة في البلدان العربية المؤمنة بذات الأفكار والتوجهات، وليس غريباً على الخارجية الأمريكية العمل في ميدان الثقافة والفن والأدب، فالفضائح المدوية في الخمسينيات والستينيات وتورط أدباء كبار بها ما تزال في البال.
الكمبردور الثقافي هو الذي يقف وراء فضائيات تعدّل الصور النمطية وتغيّرها، والكمبردور الثقافي يقف وراء صحف ومجلات وأفلام، ووراء مؤسسات ومواقف واتجاهات، في فلسطين، وفي القدس، جزء من هذا، أكثر أو أقل. القدس التي يعلن عنها أنها عاصمة للثقافة العربية ثم لا يستطيع أحد أن يصلها، ولا يستطيع أحد أن يقيم نشاطاً واحداً فيها، إنما تطرح السؤال الكبير الذي لا يريد أحد أن يطرحه، فهل نتكيف أو نتعايش مع القدس محتلة، ومن ثم نستغل هذا الوضع كما يستغله المحتل؟! لا أعرف الإجابة .. حتى الآن على الأقلّ؟!
كل ما أعرفه الآن أن لا أحد من الذين يزورون رام الله لا يستطيع زيارة القدس دون تصريح ودون أختام المحتل، أنا ضد التكيف وأنا ضد التعايش مع محتل، أنا لا أطيق أن أطرب لأغنية قاتلي، ولا يعنيني أن صالونه جميل ومرتب، ولا يعنيني أنه دقيق وعلمي وحريص وإداري ناجح، إن بيوتنا مهشمة كابية وحدائقنا مهملة، ولكن هذه البيوت هي التي نريد ولا نريد غيرها، ولا نسمح لأحد أن يمسّها. ولا أريد أن أحتفل بصالون عدوي أو قاتلي أو محتلي ولا أريد أن أشرب الشاي في حديقته، التي هي حديقة لفلسطيني اقتلعته العصابات الصهيونية من بيته بالقوّة وأخذت بيته .. لا أريد على الإطلاق .
أليس في الأمر بعض الفانتازيا !