الجمعة: 22/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

توظيف الأسطورة في شعر عز الدين المناصرة

نشر بتاريخ: 20/03/2019 ( آخر تحديث: 20/03/2019 الساعة: 13:33 )
توظيف الأسطورة في شعر عز الدين المناصرة
الكاتب: الدكتور أحمد جبر شعث (قطاع غزَّة)
_ يقول الدكتور شعث في مقدمة كتابة (الأسطورة في الشعر الفلسطيني المعاصر ، ط2 ،2019) :
(انطلاقا من طبيعة حضور النصوص الغابئة في القصيدة الأسطورية ، حاولنا الكشف عن حضور النص الديني ، كما حاولنا الكشف عن حضور نص إليوت وإيدث ستويل بخاصة في نماذج من شعر (جبرا ودرويش، وعزالدين المناصرة )، فالمبدأ المركزي في الأسطورة والشعر معاً – كما يرى (نورثروب فراي ) – هو انحيازها إلى الإنساني ،( فراي : تشريح النقد ، ترجمة محي الدين صبحي ، 1991 ). وقد استخدم المؤلف ( الدكتور شعث ) جدولا لقياس النسبة المئوية لقصائد التوظيف الأسطوري في دواوين الشعراء : ( يوسف الخطيب – معين بسيسو – محمود درويش- عزالدين المناصرة – فدوى طوقان – سميح القاسم – توفيق صايغ – جبرا إبراهيم جبرا – أحمد دحبور – محمد القيسي ) – وكانت النتيجة هي : (جبرا إبراهيم جبرا ، 42.6% -عزالدين المناصرة ،30.6%- توفيق صايغ ، 27.2% ) ، هم الأعلى توظيفا .أما من ناحية عدد القصائد الأعلى توظيفا ، فهي كالتالي : ( عزالدين المناصرة 50 قصيدة – سميح القاسم ، 50 قصيدة- محمود درويش ،42 قصيدة – معين بسيسو ، 35 قصيدة ) .
ويقول الدكتور (شعث – ص 68) ، بأن الشاعر المناصرة (تميزت أعماله بوفرة القصائد الأسطورية حتى بلغت 50 قصيدة في دواوينه الثمانية على الرغم أنه صدر له لاحقا (11 ديوانا ) حتى عام 2009 . وتركز كثير من هاتيك القصائد حول الأسطورة الكنعانية . وقد برز على مستوى إحصاء (الأساطير المحلية العربية ) ،الشعراء الأربعة : (عزالدين المناصرة – سميح القاسم – محمود درويش – ومعين بسيسو ) .ويضيف المؤلف بأن ( مجموع الإحالات الأسطورية إلى حقل المسيحية بعامة يساوي ( ثلاثا وثمانين إحالة ) تفوق المصادر الأخرى . وعلى هذا المستوى نجد كلا من الشعراء ،(المناصرة – القاسم – جبرا – بسيسو – وصايغ )، قد اعتمدوا على المصدر المسيحي في قصائدهم الأسطورية ،اعتمادا يدل على أهمية هذا المصدر المعرفي في الاتجاه الأسطوري . فالإشارات والرموز الواردة في شعر عز الدين المناصرة على سبيل المثال جاءت في أربعة عشر موضعا . في حين تمّت في أحد عشر موضعا آخر في شعر بسيسو الخاص بالأسطورة –(ص 74) . بالمفردات الدالة على ذلك مثل ( الخشب – المسامير – المطعون ) ، كما في قصيدته (جفرا لا تؤاخذينا ) ، كما يشير إلى وحدة الرسالة الإنسانية المتمثلة في قصة المسيح ومعاناته في ( قصيدة جهوية ) –( ص 84) .
_ لقد أصبحت بيروت ،بعد الحرب 1982- (سدوم) القديمة ، ذكرى للدمار البشع ،وذلك في قصيدة المناصرة في رثاء صديقه غسَّان كنفاني ،حيث يقول الشاعر :
(... وبيروت تعلن : كنعان مات فيا منزلاً
في المنافي ابتدا
لقد أشعلوا النار في جسد طفلِ،
ويل العِدا
إذا ما رفضنا السَفَرْ.
أقول وقد كسروا عودك الأخضر المستقيم
أقول وقد غرزوا في عيونك قبرا جديدا،
وقبراً قديمْ
تظلين يا أُمنَّا ،( تكسّرن فوق النصال ْ)
خيامَ السماء ِ،وبوصلةً في سدوم
- ووردت (سدوم ) هذه عند الشاعر نفسه في أكثر من قصيدة ، مثل : ( صفصاف الدير ) ،و (المرجئة)،و(مذكرات البحر الميت ).
- تتجاوز (الإلماعة ) إلى رموز أسطورية أخرى مثل ( سدوم ) ،والإله الكنعاني (إيل ) ، ومن الأمثلة ما جاء في بعض قصائد الشاعر عزالدين المناصرة ،حيث يقول:
انفرطت سُبحة جَدّي
في باب سدوم
من ينقذ أشرعتي
إن هجم قراصنة الرومْ

- إنّ أبعاد العنصر المتناص ( سدوم ) ، وجدوى استدعائه يتوقف على ضرورة استيعاب الأحداث القديمة ،التي جاء فيها أن الربَّ يغضب على تلك المدينة ،لفسادها ، فأهلكها ودمّرها.
وإن كانت سدوم تمثل رمز الخراب والدمار والغضب الإلهي على الإنسان ،فإن حضورها كما يبدو، يكشف عمّا حلَّ بالحاضر القريب على أيدي الغزاة الجدد ،وتتكرر هذه الدلالات لدى الشاعر في هذا النموذج :
(هناك سمعتُ داليةً تقول لشقيقتها – أعراسنا هل تدوم – أم يُغطّينا الغمر العظيم في سدوم ).
- وعند استظهار أعمال المناصرة الشعرية نجد أنه من أكثر الشعراء الفلسطينيين، اعتناء واتكاء على الأساطير الكنعانية . فقد وردت رموزها الرئيسية كبعل وإيل في شعر المناصرة ما يزيد على عشرين إحالة أسطورية ،في حين يشير الشاعر إلى الأسطورة التموزية في عدد قليل من قصائده ، مثل (الأرض تندهنا ) و(بالأخضر كفناه )ولعل المناصرة بهذه الخصوصية في بعث الأساطير الكنعانية ، يعمل على إعادة الشعر الى دوره في الصراع الحضاري ،وذلك بترسيخ هوية الانتماء الحضاري للجذور الكنعانية الثقافية الموروثة،في مناهضة كيان مزعوم أقيم على أشلاء من ينتمون إلى هذا الموروث، وهم الشعب العربي الفلسطيني . إن النفس الإنسانية وهي تعاني حالة التمزق إزاء قمع الاحتلال إلى حد الفتك والتقتيل والسلب لكل ما هو قائم ،فإنها تهرع إلى حماية ذاتها ومقوماتها فتتحصن داخل لكيانها التاريخي ضد أي محاولة لإلغائها من قبل الآخرين ، وخصوصاً إذا ما شعرت بمثل هذا الخطر المهدد لكياها ،والمقّوض لأركانها حضارياً إلى درجة التصفية والإبادة ، والانتحال والتزييف.
- وقد تفشت إشارات كثيرة إلى هذه الرموز وغيرها عند الشاعر عز الدين المناصرة خصوصاً شخصية إيكاروس، وأندرميدا، وأفروديت، وأدونيس . وذلك في القصائد الآتيه : ( تأشيرة خروج ) ،( تشمع كبد إكار )،و(صخور أندرميدا ).
- وقد يمثل رمز (المسيح )) في تجربة بعض الشعراء مثاراً لربط حالة الظلم والف=قهر ونضال الإنسان في حياتنا المعاصرة ،بالواقع القديم لنضال المسيح.وهذا ما يوحي إليه استخدام الرمز في جزء من قصيدة المناصرة (كم تكون المسافة ) حيث يخص المسيح بدلالات تنهض عبر المكان وتتخطى الزمان الأول لتجربة حية على الدوام دالة على المأساة الإنسانية فإذا بالمسيح الذي ناضل من اجل الإنسانية وانتشرت دعوته في موطنه الأصلي في (فلسطين ) ، يعود رمزاً لتحرير الإنسان من العبودية والظلم ويرتبط بالجليل الكنعاني . وهو ما أورده الشاعر باسم (مريام)المحاصرة، ورمز إليها أيضا بحالة الام التي لا تستطيع الحياة في ظل تطواف الحرس، في إشارة خفية الى استمرار قيود المحتل وبطشه. وتشهد معالم الرمز إشارات ترتبط بالموقف القديم ،ولكنها في الوقت نفسه تتجاوز إلى الإيحاء بمواقف آنية تجسيما للحالة الإنسانية التي يراد التعبير عنها . يقول الشاعر :
كم سيبقى من القهر ،من حصتي ..يا يسوع ؟!!
أيها الرعويُّ الذي يركب الآن مهرته في الحقول
على رأسه تاج شوكٍ وسعفُ النخيل
قل لنا :كيف نمشي إذا طاف هذا الحرس ؟!
كيف تجلب مريام هذا المساء ، حليب الرضيع ؟!
فطرح السؤال على (يسوع)وما تحمل من المعاناة والقهر ، ووصف حالته بأنه (رعوي) ما زال يحمل تاج الشوك ليس لها أية قيمة شعرية إلا من خلال ارتباط الرمز بحالات متشابكة توغل في الإيحاء باللحظات الآنية للمعاناة الإنسانية ، عبر الارتكاز على ابعاد الزمن الحاضر (الان) بالإشارة الى (المساء ) ،والى (الحرس ). وتشير الى الازمة العاتية التي تبدو في حالة القهر والاضطهاد والحصار المرتبطة بمكان بعينه هو (مريام ) الجليل مسرح دعوة المسيح ومأساته في آن معاً . وهو عنصر مشترك يستدعي دوما تلك التجربة القديمة بإشراقاتها النبوية . لكن الشاعر جعل (مريام) في إطار رمزي تتكشف فيه صورة الانسان المقهور المحاصر وبالأخص الأم البائسة التي تعاني الموت والجفاف والحصار حتى إنها لا تجد ما ترضعه وليدها . وبهذا تتسع حالة الرمزالقديم لانضواء رموز أخرى تتضافر لإبراز صورة (الرعوي ) الذي يحمل معاناة الإنسان كما يبدو من إيحاءات السياق الشعري.
_ إن أبعاد العنصر المتناص (سدوم) وجدوى استدعائه يتوقف على ضرورة استيعاب الأحداث القديمة التي جاء فيها أن الرب غضب على تلك المدينة لفسادها، فأهلكها ودمرها. وإن كانت سدوم تمثل رمز الخراب والدمار والغضب الإلهي على الإنسان ، فإن حضورها كما يبدو يكشف عما حلّ بالحاضر القريب على أيدي (الغزاة الجدد) ،وتتكرر هذه الدلالات لدي الشاعر في هذا النموذج :
هناك سمعت دالية تقول لشقيقتها:
أعراسنا هل تدوم
أم يغطينا الغمرُ العظيم في سَدوم

_ ويستحضر الشاعر (المناصرة) ،الموقف فيجعله تشخيصاً لأدواء الواقع السياسي والاجتماعي ،حيث يقول :
لأن االدعاء يسيل في عرض البحر
ولا يصل إلى مريام الشمالية ،
لأن دعوى الأرملة لا تصل إليه
ليشرب خمرة عندما يتعب
لينظر إلى شرايين القرى وتعرجات الأنهار
هل ظل أخدود لم يبولوا فيه
لعله يصحو من خمرته الرديئة !!

_وفي (قصيدة دليلة) للشاعر عز الدين المناصرة ، وهي كذلك تستوحي رموزاً أسطورية ،يشير الى قول اليوت في قصيدته (الرجال الجوف ) :
وا أسفاه إن اصواتنا الجافه حينما نتهامس ، خافته لا معنى لها
مثل حفيف الرياح في الحشائش الجافة
أو وقع أقدام الجرذان على الزجاج المكسور في قبونا الجاف .
وهو ما يوحي بعالم اليأس الذي كان اليوت نزيلا في تلك السنوات من حياته . حيث صور المجتمع الحديث برجال جوف ليس لهم وجود حقيقي ؛ وحياتهم الروحية منعدمة . ومما يثير ذلك تشبيه لهمسهم حينما يتحدثون، بصوت رياح في حشائش ميتة جافة ،أو بتلك الصورة المنفردةلوقع أقدام الجرذان على زجاج مكسور في قبو الحياة الدنيوية . وهو ما يبعث على الرعب والخوف الشديد.
أما (الشاعر المناصرة ) فقد استمد الصورة الأخيرة لتوظيفها في مجال نصه الشعري لإثارة أبعاد أخرى ترتبط بالمخاطر والعقبات التي تعترض مسيرة الإنسان ،والمشاق التي يكابدها من أجل الوصول الى بر الأمان ،والى حين يبزغ فجر جديد يهدر الانسان طاقات جمة ويتعرض لدواهي الحياة ، وخصوصا اذا كان يسعى في رحلة نبيلة ينال فيها المجد . وكأن الشاعر يعزي (دليلة)لتضحياتها الجسام ونضالها من اجل قومها .فقد جازفت بسمعتها وحياتها من أجل مساعدتهم للتخلص من شمشون وهزيمته والقضاء عليه .
يقول :
القبة أشواق وزجاج مكسور
تمشي الفئران عليه
الدرب الأصفر يا مولاتي حفر وجسور
نتعثر في جنبيه
وأنا بينهما عصفور مقرور .
_وتتسم (ثنائية الخصب والجدب) او الحياة والموت ذروة القصيدة في بعض نماذج الشعر كما تبدت في بعض من قصائد ،وكما سيرد بعد قليل من شعر عزالدين المناصرة أو غيره من الشعراء ، حيث نجد ان تلك الثنائيةبصورها وتجلياتها تختفي أحيانا بالتكني وراء العناصر الدالة عليها حسب قرائن القصيدة وسياقها العام . وتتكشف أحيانا أخرى عبر التصريح بالرمز الأسطوري ساطع الدلالة .وقد لوحظ ان الرمز الأسطوري في شعر المناصرة – على سبيل المثال- يشكل بدائل أخرى من رموز الخصب مثل ( إيل )او (كنعان )، تنويعا على تموز . ولكن لا يعدم أن توجد قصائد تعالج الأسطورة التموزية مستوفية كافة عناصرها الى حد أن الشاعر يتخذها بنية كاملة أو يعتمد جوهرها ومغزاها الأصيل في احد مقاطع القصيدة أو في القصيدة كلها . ففي قصيدة (من أغاني الكنعانيين )
يقول الشاعر :
أحببت الموت هنا
حيث أموت وحيداً منفرداً
ابتعدي عني ، ابتعدي عن ذاكرتي
أنت سُدى
ما زلت أقارع هذا الخنزير البري
وعلى رأسي ينهمر المطر التموزي
من بطن سحابه
من قلب الغابة
تأتيني عشتار تلملمني
ومددت العنق من النافذة المكسوة بالقطرات
يبدو جليا ان الشاعر يسعى للإيحاء بدلالات من خلال مقتل تموز ؛ولذلك فهو يبعث الطاقة الإخصابية المتمثلة في عناصر عدّة مثل المطر التموزي والسحابة والغابة ، بما توحي الأساسي للأسطورة وهو تخليص الحياة من الجدب بقدوم عشتار الباحثة عن حبيبها لتلملم أشلاءه بعد تمزيق الخنزير له ، وتستعيده . وهنا تقترب من (إيزيس ) النظير لها وكأن الرمزين احتشدا لإعادة بعث الحياة بقوة من جديد . فتبدو عشتار متوحدة بإيزيس التي تلملم أوزوريس شلوا، فشلواً من مختلف البقاع.
الشاعر- فيما يبدو – لا يقف عند هذه الحدود،بل يضمن قصيدته الدلالة عن روح الفداء من خلال الاختيار الحر للموت كطريق آخر للحياة . فقد عبر عن النزوع الى الموت والرغبة فيه متفردا وحيدا كالإله (تموز) ،حسماً لصراع مرير يثقل (الأنا) بكابوس الذل والحياة المهانة. إذ لا يبقى إلا الموت ومواجهة المصير والفناء حتى تعود الحياة أكثر خصبا ونقاء ولذلك فإن ملامح الصراع تعاني (ذات) الشاعر فيه وطأة ذلك الكابوس وتتصدى لتلك المراوغات والمحاولات مرارا حتى أفلح الشاعر أخيراً في إزاحتها من ذاكرته واصفا إياها بأنها سدى وعبث لا جدوى منه . وتنتصر الحياة عبر الدماء والفناء . وقد لاح صدى ذلك الصراع العنيف في كيان الشاعر في الأسطر الأربعة الأولى ، ولكنه تجسد أخيراً في قوتين متناظرين هما (الخنزير البري) بإشارتيه الرمزية للشر والموت ، وتموز رمز الخير والخصب . وسبق أن تجلت عناصر كثيرة أطرت هذه الثنائية في القصيدة المذكوره . وربما يكون الخطاب الموجه إلى الحبيبة المنتظرة هو صورة من الطقس الأبدي ، أي الصراع بين قوى الجدب والخصب . وتظهر (عشتار ) الحبيبة أمام مصيرها المحتوم في انتظار عودة حبيبها بعد انقضاء وقت على غيابه في العالم الآخر . وبعد عودته يرجع الحب للوجود والخصب للحياة وهو ما أراده الشاعر في أول كلمات القصيدة في قوله :
سنة بعد سنة
ستعيشين مع الحزن سنة
وانتظار الحب أن يرجع من غربتهِ
بعد سنة
ولا تغيب (هذه العناصر) عن القصيدة وإن تبدلت في صور أخرى فنجدها في صورة الأرض العطشى للماء مثلما وجدنا الحبيبة المتلهفة للقاء الحبيب . بينما تبدو صورة الورق الأصفر متممة لدلالتها على الجذب والجفاف في مقابل عنصر الخصب وهو المطر . حيث ينحدر الورق ويعوي لائذاً بالفرار مع أول قطرات المطر المبشر بعودة الحب والإخصاب في الوجود :
المطر يُرشرش والورق الأصفر
يتناثر في الردهات
يعوي من وقع الحبات
الأرض العطشى تشرب في ولهٍ قيظ الريح
ويعود الشاعر في المقطع الخامس من القصيدة ليصور ذلك الطقس التموزي في الأيام النسيانية التي كانت تشهده من خلال مراسيم موت (أدونيس ) صنو تموز هذه المرة :
في يوم من أيام التفريخ
حيث تهب الريح النسيانية
-(...)-من أقصى البرية
جاءت تسعى فاصطادت أغنية بدوية
خلعت أزهار الحنّون الأحمر
طلت السفح دما
من ورك أدونيس المذبوح
وسقتنا ندما.
وفي قصيدة أخرى يكرس الشاعر (تموزا ) بصفته رمز الخصب والخير في مقابل الخنزير رمزا دالا على الشر والموت ، في صراع دائم لا ينتهي بين قطبي الوجود: الموت والحياة. وعلى الرغم من ان هذه الجدلية يقينية حفاظاً على صيرورة الحياة ذاتها إلا ان الانبعاث يكون اكثر اشراقا وتأثيرا في الحياة والوجود حينما يكون انبعاثا من أعماق الصراغ الدامي بين عنصري القطبين . يقول الشاعر :
واستعذت بزيتونة وركضت وكانوا
ورائي
خنازير برية
طاردتك وغبت وها أنت تولد مثل النبأ .
فالسطر الأخير بخاصة – هو مولد الدلاله التي تنبئ عن روح الأسطورة عبر ذلك الصراع في شكل الطراد وراء تموز حتى يتم انبعاثه مرة أخرى بعد قتله . وقد جاء التعبير عن جوهر الأسطورة في عدة سطور قليلة ليفي بالتركيز على إفشاء نبأ الانبعاث في لمحة ، إعلانا عن أمر جلل يتوقف عليه انتصار الحياة وعودتها . غير أن الانتقال السريع في أسلوب الالتفاف من المتكلم الى الخطاب قد يربك فهم الطبيعة الدلالة . ولكنه أدى مهمة الدلالة الموحدة ، حيث إن المتكلم وهو يفصح عن الصراع بينه وبين الملاحقين ، يتقاطع مباشرة بوحي من وصفهم بالخنازير البرية ، بالصراع بين تموز والخنزير البري . ويضيف عمقاُ للصراع أشد شراسة وعنفاً حينما يعبر عن فظاعة الصراع بجمع كلمة (خنزير ) ، ثم ينفصل عن الحديث بالمتكلم إلى الخطاب ليؤكد طبيعة الصراع على نفس الوتيرة ويعلن كالبرق ميلاد الحياة من جديد . واما الالتجاء الى زيتونة تتجذر بأعماق الأرض فهو ضرورة متصلة بغياب البطل المنبعث من باطن الأرض انبعاثا معجزا
وتدل بعض قصائد الشاعر المناصرة ، المتضمنة (رمزي إيل وكنعان) على أنها عالجت مجال الدلالة على جوهر الأسطورة ، واكتفت بالرمز دون الاهتمام بتفاصيل الأسطورة أو نواحيها الثانوية ،فركزت على الإشارة الى معالم الخصب وانتصار الحياة على ظلام الموت ، بحيث تهدف تلك الإشارات في عمومها إلى الدلالة على الانبعاث وعندما يورد الشاعر رمز (كنعان ) مثلا يفهم من السياق ارتباطه بدلالة الانبعاث كما فيقوله :
أحاول أن أوقظ البحر من موته السرمدي
أقول له في المساء :
دم البحر أزهر ورد الشقائق من نجمة الحقل ،
كنعان يخرج فجرا
كنرجسةٍ في حجر
فهذا الانبعاث لا بد أن يكون حتميا عبر صراع الدم ،وصراع آخر هو بزوخ الفجر من العتمة ، كعنصر دال على الحياة المتجددة . ولا تختلف دلالات (إيل) عن هاتيك القيم الدالة على الإخصاب حتى وإن قدمت بطريقة إيهامية يحاول فيها الشاعر إنزال الأسطورة إلى الواقعية كما في قوله :
ثم هُزعنا نزاحم أطفالنا في النوافذ :
فعلا هي كريت أو عسقلانُ
أرى الإيل يقعي على رأس تل ٍ
وغامت طيورُ السّماء .
فقد ارتبطت دلالة (إيل ) بالأصل الأسطوري بصفته إلها للخضرة والمطر. ولكنه في دلاله أخرى يشير الى انبعاث حضارة الكنعانين القديمة المدمرة وتل العاي الواردة في قول الشاعر هو رمز تلك الحضارة الغابرة .
- ويتخذ المناصرة (أسطورة الصلب) هدفا للوصول الى ابعاد المأساة الإنسانية في معاناة شعبه ، ويجمع من خلال ذلك بين بعدي المأساة الأسطوري والتاريخي . وبديهي ان يتمثل هذا البعد الأخير في مأساة وطنه . وتؤدي تجربته الشعرية في القصيدة التي سنذكر مقاطع منها ، الى ان يتوحد بين البعدين لشمول القضية الإنسانية على مدى أرحب يصور عذاب الفلسطيني المظلوم ، ومحاولة تصفية وجوده وذلك استنادا الى مأساة المسيح ويبدأ الشاعر في قصيدته (قصيدة جهوية ) بمتطلبات تجربته بحيث يتماثل مع المسيح ويستدعيه بناء على خصوصية المأساة ووحدة الموطن، فيما يشير إلى تقابل تجربتهما مع النقيض (العدو/المجوس ):
أنا ..... والمسيح
ولدنا بمنطقة واحدة
فإذا لم يطر في الصباح جناحي
عليك بأن تقبض الريح
ثم تشم جراحي
انا .... والمسيح
راعيان .... وضد المجوس
ثم يصور صنوف العذاب ووحشية الظالم المستبد مشيراً الى المحتل (بجيوش المغول ) في قوله
أنا والمسيح
مشينا على الشوكِ
ثم المسامير
ثم جررنا وراء الخيول
وكانت ورائي جيوش المغول
وأحيانا يقدم الشاعر صور العذاب بالايماء الى مأساة وطنه ، من خلال استدعاء المسيح بطريقة تشير الى محاولته للتجديد في توظيف الأسطورة بابتعاده عن الأداء الشعري المستهلك المليء بمفردات الصلب الصليب،الشوك،المسامير .كما في قصيدته (مريام الشمالية )،إذ يستدعي المسيح ويجعله بمثابة ذاكرة جماعية لآلام الإنسان الفلسطيني منذ الكنعانيين . فيقول :
ذلك هو السيد المبارك
سيد الأرامل
سيد الجرحى
سيد الرمل
سيد المذبحة
يستلقي على قفاه ويضحك
يقلب أرشيف ذكرياته الجميلة
" دم أبناء مريام الشمالية "
- وقد اتخذ (المناصرة) من (أسطورة إكارس) سببا للكشف عن معاناته القاسية. حيث يتفاقم إحساسه بالمنفى والغربة عن الوطن فيشعر ان الصحراء سترعى جسده و روحه وتذيبه ؛ فيتلاشى في رمال صحارى المنفى التي لا ترحم .فيقول مقارنا بين حالة إكارس وحالته :
هو سيحترق بشمسه
وأنا سيذوبني المنفى
هو سيتتحد بعباءة العشب السماوي
وأن أنحل في تراب المنافي الصخرية
تلك مشيئة عدم التخطيط يا إيكاروس
ولعل هذا التعنيف في الشطر الأخير من قبيل تقريع الشاعر نفسه وبالتالي فهو ويقترب من مجال المنطق والاتزان العقلي .