الصحة: ارتفاع عدد حالات الانتحار في الضفة
نشر بتاريخ: 09/09/2019 ( آخر تحديث: 09/09/2019 الساعة: 14:39 )
رام الله - معا - أكدت وزارة الصحة الفلسطينية ارتفاع عدد حالات الانتحار في الضفة الغربية خلال العام الماضي بنسبة 14% مقارنة بالعام الذي سبقه، مضيفة أن أحد أهم أسباب الإقدام على الانتحار هو الإصابة بمرض نفسي وخصوصا الاكتئاب.
وقالت اختصاصية الطب النفسي ورئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة د. سماح جبر إن دراسات عديدة خلصت إلى القول بأن الخطاب الديني المعتمد على الطمأنينة والثقة يخفف من الاكتئاب والقلق ويسهل الشفاء ويعزز الوقاية من الانتحار عن طريق إحياء الروح المعنوية وبث البشرى في النفوس، داعية في الوقت نفسه إلى إدخال مساقات الصحة النفسية والإرشاد في كليات الشريعة لتكوين علماء دين مدربين على تقديم الإرشاد النفسي والتعامل مع أحداث الحياة وتقلُّبات النفس البشرية تعاملاً إيمانيًّا وعلميَا في آن معا.
الانتحار.. وتيرة متصاعدة
وقالت د. جبر إننا نواجه في فلسطين ارتفاعاً بوتيرة الإقدام على الانتحار، حيث أظهرت الاحصائيات الصادرة عن إدارة البحوث والتخطيط في الشرطة الفلسطينية ارتفاع عدد حالات الانتحار في الضفة الغربية العام الماضي 2018 بنسبة 14%، مقارنة بالعام الذي سبقه، حيث شهدت الضفة ما مجموعه 25 حالة انتحار، علما بأن العام الذي سبقه، 2017، شهد 22 حالة، وكان توزيعهم حسب الجنس: 15 من الذكور و10 إناث. أما توزيعهم حسب الحالة الاجتماعية: 17 غير متزوجين مقابل 8 متزوجين، ووفقا للتوزيع العمري فقد جاءت أعلى نسبة للأشخاص الذين أقدموا على الانتحار ضمن الفئة العمرية ما بين 28- 25 عاما، وشكلت ما نسبته 32%، أما بخصوص المستوى التعليمي، فإن أعلى نسبة للاشخاص الذين أقدموا على الانتحارجاءت ضمن فئة حملة الشهادة الثانوية حيث شكلت هذه الفئة 44% من الحالات المسجلة
وأشارت إلى أن الإحصائيات الرسمية بينت أن 218 شخصا حاولوا الانتحار، من بينهم 61 من الذكور و157 من الإناث. حيث نشبه هذا التوزيع البلدان الأخرى بالرغم من أن الرقم المعترف به هو قمة جبل الجليد، والذين يعملون في الطب النفسي مثلي يرجحون أن ليس كل الحالات أو المحاولات تصل إلى سجلات الشرطة.
وأكدت أن أحد أهم أسباب الإقدام على الانتحار هو الإصابة بمرض نفسي وخصوصا الاكتئاب، حيث تزيد الخطورة عندما يشعر الإنسان باليأس وأن حياته لا هدف منها ولا معنى لها، وعندما يكون هناك فقدان للاستبصار واختلال الصلة بالواقع كأن يعاني الشخص من ضلالات وأنه ملاحق أو مضطهد على سبيل المثال، أو يعاني من هلاوس سمعية تهدده وتسخر منه أو تكون لديه مشكلة استخدام الكحول والمخدرات ولعل أهم عوامل الخطورة أن تكون هناك محاولات سابقة للانتحار.
بدل أن يواسيها أدخلها في اكتئاب مزمن!
وقالت د. جبر: جاءتني أم قد فجعت بانتحار ولدها فذهبت إلى شيخ ملتمسة منه أن يواسيها ويطمئنها فروى لها ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردَّى خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسَّى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً" فصدمت السيدة لما سمعت وأصابها اكتئاب حاد ومزمن.
وأضافت: في قصة أخرى، وبعد انتحار شاب يافع في إحدى بلدات فلسطين رفض شيخ البلدة إقامة الصلاة عليه وتلكأ في دفنه حتى حاججه بعض أهل القرية المستنيرين، وأقبلوا على دفنه في مقبرة القرية، ولنا أن نتخيل ما ألحقه هذا المشهد بأهل الفقيد، هذا ناهيك عن ما يرشح إلينا من قصص من حين لآخر عن أشخاص توجهوا بأعراض مرضية نفسية يلتمسون علاجها لدى "الشيوخ" فأخرت إجراءاتهم المسار العلاجي الطبي إلى أن أقدم بعضهم على الانتحارأو قضوا تحت عصي استخراج الجن.
الانتحار ولوم الأهالي ..
وأكدت ورئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة أنها لا تجادل بحرمة الانتحار بل تستحسن هذا التحريم لأنه أفضل "إجراء صحة عامة"، وأرى في عملي العيادي يومياً أشخاصاً يئسوا من الحياة ولا يمنعهم عن الانتحار إلا التحريم الإلهي.
وتابعت: ما أجادل فيه هنا هو ذم ونبذ وإطلاق الأحكام البشرية على من لم يردعه التحريم، وإلحاق المزيد من اللوم والألم بذويه. فنحن ببساطة لا نعلم بأي حالة عقلية اتخذ هذا الانسان قراره المؤسف، ونعلم أن الله إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب. ودعوتي إلى رجال الدين وإلى الناس أن يتركوا أمر المنتحر إلى الله.
وقالت إن ما يعتقده كثير من الناس من كفر المنتحر لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه أنه هاجر إلى المدينة معه رجل من قومه، فمرض فجزع فأخذ مشاقص (سهما) له فقطع بها براجمه (شرايينه) فشخبت (دميت) يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه وهيئته حسنة، ورآه مغطياً يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: "غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم"، فقال: ما لي أراك مغطياً يديك؟ قال: "قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت"، فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم وليديه فاغفر"، وقد ترجم الإمام مسلم لهذا الحديث بقوله: "باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر."
معلومات طبية عن الانتحار
وفقا لتقرير منظمة الصحة العالمية في أغسطس عام 2017، فإنه ما يقارب 800,000 شخص يلقون حتفهم كل عام بسبب الانتحار وهذا العدد يزيد عن عدد الذين يقتلون من قبل آخرين.
يعد الانتحار ثاني سبب للموت في الفئة العمرية بين 15-29 سنة، والثالث فــي الفئة بين 10-14 سنة، وغالبية المنتحرين هم أشخاص قد عانوا من الاضطرابات المزاجية والعقلية كالاكتئاب وثنائي القطب والذِّهان وغيرها. وحسب تقرير منظمة الصحة العالمية للعام 2015، فإن 78% من ضحايا الانتحار هم من دول متوسطة ومنخفضة الدخل بما فيها الدول العربية والاسلامية.
وهناك مشكلة في دراسة هذه الظاهرة في البلدان الإسلامية، إذ أن التوثيق ضعيف ولا يتم إبلاغ منظمة الصحة العالمية بمثل هذه الإحصاءات في معظم تلك البلدان، إلا أن معدلات الانتحار منخفضة لدى المسلمين، وخصوصا بين المسنين، في بعض البلدان الغربية التي تحسن التوثيق مثل إنجلترا وويلز.
ظاهرة تنمو في الظل
وقالت د. جبر إننا نفتقر في فلسطين الى الخطوط الساخنة المختصة بتقديم التدخل للوقاية من الانتحار، أو بدارسة وتقديم البيانات عن تلك الظاهرة من أجل أبحاث مكثفة تساعدنا في الوصول لأفضل الاستراتيجيات الممكنة للتعامل معها.
وأضافت أن حساسية الانتحار وعدم شرعيته يجعل هذه الظاهرة تنمو في الظل ويصعب الحد منها.
الخطاب الديني المستنير طبيا
وأكدت د. جبر أن معظم الأشخاص الذين يفكرون في الانتحار يتجاوزون هذه الأزمة بتلقي المساعدة ودعم العائلة والأصدقاء والمهنيين، وبإمكان الإرشاد الديني أن يكون ركيزة هامة للأفراد المعرضين لخطر الانتحار والمشاركة في التصدي للوصم ودعم المفجوعين من انتحار المقربين.
وأضافت: في مجتمعنا الذي يحترم و يثق بالشخصية الدينية قد يلجأ الكثير ممن يعانون من الألم النفسي إلى الشيخ أو الواعظة، والطريقة الوحيدة لمعرفة إن كان الشخص يفكر في الانتحار هو أن نسأله عن الأمر، فالحديث عن الانتحار لن يزرع الفكرة في رأس الناس ولن يعدينا، بل هو الأسلوب الوحيد لمعرفة إذا كان الإنسان بحاجة للمساعدة وغالبا ما يكون السؤال عن شعور الفرد مصدر راحة له ويُظهر أنًك (رجل الدين) قد لاحظت بعض الأمور الهامة، وأنك تصغي إليه، وتهتم لأمره، وأنه ليس وحيداً.
وشددت د. جبر على أهمية عدم الافتراض بأن الانسان الذي يفكر في الانتحار سوف يتحسن دون مساعدة ولكن الاهتمام به وقضاء بعض الوقت معه قد ينقذ حياته، حيث أن الاستماع لما يجول في خاطره، ومنحه فرصة للتكلم أولى من تقديم العظة والترهيب في هذا الموقف. مضيفة أن من المهم عدم الاحتفاظ بأفكاره أو خططه الانتحارية سرية وتأكد من سلامته، إن كنت قلقا فعلا، تواصل مع شركاء حياته، الأهل أو الأصدقاء المقربين، لضمان حصوله على مساعدة المختصين. وأبق الباب مفتوحا لإعادة طلب المساعدة اذ لا تختفي الأفكار الانتحارية دون أن تحدث تغيرات جوهرية في الظروف الشخصية والحياتية للشخص المهدد بالانتحار، فقد تتحسن أوضاعهم ويشعرون بدعم أكبر وبالقدرة على التعامل مع الأمر وقد تعاودهم أفكار الانتحار، وحين يحصل ذلك من المهم أن يتمكن الانسان من طلب المساعدة وأن يستمر الاهتمام والرعاية المقدمة له من المرشد الديني والعائلة والأصدقاء.
مرتكزات هامة
رئيس وحدة الصحة النفسية د. سماح جبر قالت إن التفكير بالانتحار لا يعني أن الشخص سيء أو ضعيف الإيمان أو أنه يود أن يموت، بل يعني أنه يعاني من ألم يفوق قدرته على التحمل في الوقت الحاضر، فمن الضروري أن نُشعر الإنسان بأننا نتفهم أن هناك سبب لمشاعره تلك ثم "حقنه" بالأمل بأنه لا توجد مشكلة تدوم إلى الأبد وأن المساعدة متوفرة الآن وعلى المدى البعيد ، وننهاه عن حل مشكلة مؤقتة كالاكتئاب بمشكلة دائمة كالانتحار.
وأوضحت أن الخطاب الديني المستنير طبيا ونفسيا يرتكز على تعظيم حق الحياة والتأكيد على حرمة الدم والقتل عمومًا، وقتل النفس خصوصا، ومنح الانسان جرعة من الرحمة والأمل من قوله تعالى:﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾، والأمر بالتداوي ومعالجة الأمراض كالاكتئاب، والفصام، والإدمان، فلا يجب إخفاء أو إهمال ما يَظهر على الفرد من اضطرابات سلوكية غير مألوفة، ويجدر توجيه المريض إلى الطبيب النفسي أو المختص لعلاجه، وعدم انتظار تفاقم الحالة، ومحاربة ظاهرة الدجالين ممن يدًعون أنهم يخرجون الجنَ. قال صلى الله عليه وسلم: (تداوَوا عبادَ الله؛ فإنَّ الله سبحانه لم يضع داءً إلا ووضع معه شفاءً)، والتربية على الأمل واليقين في الله تعالى، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل بقِسطه جعل الفرح والروح في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في السخط والشك) والحقيقة أن زبدة الأبحاث النفسية الحديثة عن السعادة تخلص الى هذا الاستنتاج.
وتابعت: كذلك يستند الخطاب الديني المستنير طبيا ونفسيا على الحث على الاستعانة بالله قال صلى الله عليه وسلم: "استعن بالله ولا تعجز". " اعقل وتوكل"، وترسيخ الإيمان بالقضاء والقدر: :قال تعالى:﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا )، والتذكيربأهمية الدعاء وحسن الظن بالله قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60]، وقال: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾:وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسن الظنَّ بربِّه)، والحث على الصبروالرجاء قال سبحانه :﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرً،إِنَّ مَعَ الْعُسْر يسراً).
علماء الدين ومواساة أهل الفقيد
وأشارت د. جبر إلى أهمية أن يترأس علماء الدين المجتمع في مواساة أهل الفقيد والعناية بهم: فلا يتساوى الانتحار بالموت الطبيعي الذي يأتي نتيجة حادثة أو مرض في تأثيره النفسي على أقرباء المتوفى خاصة، ذلك أن الشخص عندما يموت منتحراً يكون قد "اختار الموت" على الألم الذي "دفعه" إلى أن ينهي حياته، وهذا ما يجعل الصدمة أشد ويضفي شعورا بالذنب والغضب والعزلة على من تركهم خلفه!
وأضافت: حتى يتسنى لرجال الدين المساهمة في الجهود الوطنية في الحد والوقاية من الانتحار من الضروري جدا استعجال إدخال مساقات الصحة النفسية والإرشاد في كليات الشريعة لتكوين علماء دين مدربين على تقديم الإرشاد النفسي والتعامل مع أحداث الحياة وتقلُّبات النفس البشرية تعاملاً إيمانيًّا وعلميَا في آن معا.